العدد العاشر -

السنة الأولى، العدد العاشر، رجب 1408هـ، الموافق آذار 1988م

سؤال وجواب

السؤال: قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، أي أن هذه الخمسة لا يعلمها إلا الله. ولكننا صرنا نسمع في هذه الأيام أن الأطباء يعلمون ما في الأرحام من ذكر وأنثى، ويعلمون متى ينزل المطر، بل يستطيعون انزال مطر. فكيف نوفق بين ذلك وبين ما ورد في الآية الكريمة؟

الجواب: بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه وبعد: يقول الله تعالى في سورة الأنعام: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ) أخرج البخاري وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله: (إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما في الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت إن الله عليم خبير)» فتكون السنة قد حدد أن هذه الأمور الخمسة هي مفاتح الغيب وأنه لا يعلمها إلا الله.

أما كيف نوفق بين هذا وبين ما يذكر من أن الطب قد أصبح قادراً على معرفة نوع الجنين في الرحم من كونه ذكراً أو أنثى فالأمر ليس فيه إشكال. ذلك أن المعرفة درجتان: معرفة ظن ومعرفة علم. والآية لا تنفي عن الخبراء معرفة الظن بل تنفي معرفة العلم.

وحيثما وردت كلمة (علم) في القرآن يكون المقصود بها المعرفة اليقينية، وحيثما وردت كلمة (ظن) يكون المقصود بها المعرفة غير اليقينية، إلا إذا وردت قرائن تصرف اللفظ عن هذا المعنى. ومن الأمثلة على العلم والظن قوله تعالى في سورة الجاثية: (إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ) وقوله تعالى في السورة نفسها: (وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ).

ولنرجع إلى الآية فإنها تقول: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ) أي أن وقت قيام الساعة لا يعلمه نبي مرسل ولا ملك مقرب (لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ).

وتتابع الآية: (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) أي أن وقت نزول الغيث لا يعلمه إلا الله. ويأتي السؤال: ولكن المراصد المختصة تستطيع أن تتنبأ بأوقات نزول المطر قبل أن ينزل، وها نحن نسمع النشرات عن حالة الطقس ونزول المطر. والجوبا هو أن ما تتنبأ به المراصد يكون من المعارف الظنية وليس اليقينية. أما القول بأن الناس يستطيعون إنزال مطر، فهذا، في حال حصوله، لا يتعارض مع الآية الكريمة لأنها تقول: (وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ) وكلمة (الغيث) معرفة بـ (الـ) العهد. أي أن الغيث المعهود المعروف لدى الناس فإن الله هو وحده الذي ينزله، وهو وحده الذي يعلم يقينياً وقت ومكان نزوله. أما إنزال الناس غيثاً معيناً ومعرفتهم وقت ومكان نزوله فهذا لا تنفيه الآية.

وتتابع الآية: (وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ) أي أن العلم اليقيني بما في الرحم هو محصور بالله وحده، أما المعرفة الظنية فإن الآية لا تنفيها كما سبق وذكرنا. وقد سألنا بعض الأطباء من أهل هذا الاختصاص والذين يستخدمون أحدث الأجهزة فكان ملخص جوابهم: أن هذه المعرفة تكون صائبة إلى حد 90% في أحسن الحالات وذلك بعد مرور شهور عدة على الحمل، أما في بداية الحمل فلا تكون لديهم معرفة. وقد أورد ابن كثير رحمه الله في تفسيره (وكذلك إنزال الغيث لا يعلمه إلا الله ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ومن يشاء الله من خلقه. وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى أو شقياً أو سعيداً علم الملائكة الموكلون بذلك ومن شاء الله من خلقه) أ.هـ

أي أن معرفة نوع الجنين لا تبقى محصورة بالله سبحانه بعد أن يأمر بكونه ذكراً أو أنثى، وإن كان ما زال في الرحم.

وتتابع الآية: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا) وهذا هو علم الغيب. والغيب على أنواع: منها أمور مضت ولم يطلق عليها المرء فهي غيب بالنسبة إليه وإن كانت ليست غيباً بالنسبة لغيره. ومنها أمور تحصل الآن ولكنها بعيدة فلا يطلع عليها المرء فهي أيضاً غيب بالنسبة إليه وإن كانت ليست غيباً بالنسبة لغيره. ومنها أمور لم تقع بعد وستقع في المستقبل وهذا غيب بالنسبة لجميع المخلوقات، ولا يعمل هذا الغيب إلا الله. الأنبياء والملائكة لا يعلمون من غيب المستقبل إلا بمقدار ما تشاء حكمة الله أن يعلمهم به. قال تعالى: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلاَ يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا @ إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ) وقال: (قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ). وهناك بعض الجهلاء يظنون أن الجن يعلمون الغيب، قال تعالى حاكياً عن سليمان عليه السلام: (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتْ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) مع أن هذا ليس من غيب المستقبل، بل هو حاصل بجانبهم ولكنهم لا يعلمونه. وليت شعري، هل يفهم هذا الذين يذهبون إلى العرافين الذين يزعمون أنهم يسخرون الجن لمعرفة الغيب فيدجلون على البسطاء لابتزاز أموالهم؟

وتتابع الآية: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ) وهذا مثل من علم الغيب المستقبلي لا يعلمه إلا الله. ولا يستطيع أن يزعم أحد أنه يعلمه. ولكن رُبَّ قائل يقول: تحكم المحكمة أحياناً على شخص بالإعدام ويعيّنون المكان والزمان لتنفيذ الحكم ويعلمون المحكوم عليه بالزمان والمكان، ثم ينفذون فعلاً حسب المقرر. أفلا يكون ذلك علماً بوقت انتهاء الأجل وعلماً بأي أرض تموت؟ حصل حسب ما هو مقرر. لأن المحاكم تقرر وصاحب الصلاحية يصادق، ثم قد تطرأ أمور تلغي أو تعدل، وما دام مثل هذه الأمور محتمل الحصول فتكون المعرفة ظناً وليس يقيناً وكم من مرة حصلت مثل هذه الأشياء، حتى صار هناك مثل يقول: فلان ينزل المشنوق عن المشنقة.

ومثل هذه البرامج الموضوعة مسبقاً. هناك برامج إذاعية وبرامج أعمال مختلفة منها البشري ومنها الالكتروني وغالباً ما تتم هذه البرامج وفق ما هو مخطط لها. فهل نقول إن واضع البرنامج يعلم ماذا يكسب غداً؟ لا نقول ذلك لأن معرفته ظنية ولو كانت تتم بنسبة تفوق 95%. لأن الدراية هي مثل العلم أي المعرفة اليقينية التي تكون صحتها 100%.

تحكيم شرع الله في كل صغيرة وكبيرة

قال تعالى: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ..)، وقال: (فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ). وقال: (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ).

ومن هنا كان المسلمون مأمورين بأن يسيّروا أعمالهم بحسب أحكام الإسلام لأنهم ملزمون بتسيير أعمالهم وفق أوامر الله ونواهيه. وهنا لا يمكننا، ولا حبقُّ لنا، أن نحصر تحكيم شرع الله في عبادتنا وبعض معاملاتنا. فالإسلام منهج حياة كامل (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِينًا). ففي الإسلام أحكام شرعية لنظام الحكم، وأحكام شرعية للنظام الاجتماعي، وأحكام شرعية للنظام الاقتصادي، وأحكام شرعية لنظام العقوبات الخ.. (مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ).

لذلك لا يجوز للمسلم أن يتحاكم في أيّ صغيرة أو كبيرة من شؤون حياته لغير شرع الله، وإلاّ انطبق عليه قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلاَلاً بَعِيداً).

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *