العدد 352 -

السنة الثلاثون جمادى الأولى 1437هـ – شباط / آذار 2016م

مقتطفات من كتاب التيسير في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

مقتطفات من كتاب  التيسير  في أصول التفسير للعالم الجليل عطاء بن خليل أبو الرشته

( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).

جاء في كتاب التيسير في أصول التفسير لمؤلفه

عطاء بن خليل أبو الرشته

أمير حزب التحرير حفظه الله في تفسيره لهذه الآيات ما يلي:

من هذه الآيات يتبين ما يلي:

  1. لقد كان مفروضًا في أول الإسلام أن يوصي الذي تحضره الوفاة وصية للوالدين والأقربين إن ترك خيرًا أي مالًا كثيرًا، فإن في لفظ ( خَيْرًا ) وصفًا مفهمًا فيه معنى الكثرة، فلا يقال للمال ( خَيْرًا ) إلا إذا كان كثيرًا، كما لا يقال: فلان ذو مال إلا إذا كان له مال كثير.

وانضباط هذه الكثرة يكون بأن يبقى بعد الوصية ما يكفي لسدّ حاجات أهل الميت الاعتيادية، ولذلك فتعيين الكثرة يحتاج إلى تحقيق مناط.

وقد قال بذلك عدد من الصحابة، فقد دخل علي t على مولى له في مرض الموت وله سبعمائة درهم أو ستمائة فقال: ألا أوصي؟ قال: لا إنما قال الله ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ) وليس لك كثير مال فدع مالك لورثتك. وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلًا قال لها: أريد أن أوصي. قالت: كم مالك؟ قال: ثلاثة آلاف. قالت: كم عيالك؟ قال: أربعة. قالت: قال الله تعالى ( إِنْ تَرَكَ خَيْرًا ) هذا شيء يسير تتركه لعيالك فهو أفضل.

ولذلك فإن الكثرة لا تقدر بمقدار محدد وإنما تختلف باختلاف حال الرجل.

  1. الآية تفيد أن الله سبحانه يطلب أن يوصي من تحضره الوفاة، وذلك من دلالة ( كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ ) فهي خبر بكتابة الوصية عليكم، ولكنه خبر في معنى الطلب حسب أساليب العرب في كلامهم أي ليوصِ الذي يحضره الموت.

لكن هذا الطلب طلب جازم بقرينة ( حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) فهذا وصف مفهم يفيد الجزم على نحو قوله تعالى ( وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ ) البقرة/آية241 والتي بينت وجوب المتاع للمطلقات قبل الدخول باللاتي لم يفرض لهن مهرٌ معين، ولذلك فالوصية فرض على النحو الذي بيناه، وقد ذكر الله سبحانه ( بِالْمَعْرُوفِ   ) أي بالعدل والرفق والإحسان.

  1. نسـخ وجـوب الوصية الواردة في هذه الآية بآيات المواريث، فقد نزلت بعدها بالاتفاق قول الله سبحانه ( يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ) النساء/آية11 ثم بينها الله مفصلة.

فقد كانت الوصية فرضاً للورثة والأقارب، يوصي بها الرجل عندما تحضره الوفاة، ثم نسخها الله سبحانه ورفع ذلك الحكم وجعل بدلًا منه فرض المواريث وندب الوصية لغير الورثة وذلك في آية المواريث يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ ) النساء/آية11-12 فكان الله سبحانه قد فرض الوصية وجعل تقسيمها للمسلمين يوصون كما شاؤوا للورثة والأقارب ثم نزعها الله منهم وحصر قسمتها به سبحانه للورثة وندب لهم الوصية لغير الورثة.

أما لماذا كانت المواريث فرضاً اختصّ الله سبحانه بقسمته، فهذا بيّن من آيات المواريث في تعيين الفروض للورثة، وفي خاتمة الآية ( فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ ). وأما ترك الوصية لهم لغير الورثة وأنها مندوبة فلأن الله سبحانه ذكر الوصية مسندة لهم في آيات المواريث ( مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ) النساء/آية12.

والوصية هنا مطلقة إلا أن السنة قيدتها في غير الورثة “إن الله قد قسم لكلّ إنسان نصيبه في الميراث فلا تجوز لوارث وصية[1].

هذا من حيث تقييد الوصية في الآية لغير الورثة، وأما أنها مندوبة فلأن فيها معنى القربة دون قرينة تفيد الطلب الجازم فتكون مندوبة.

  1. يبين الله سبحانه أن الذين يبدلون الوصية سواء الكتبة أو الشهود أو الذين لم يوصَ لهم فيها، فإن إثمهم عظيم لأن الله سبحانه لا تخفى عليه خافية، فهو سميع لما أوصى الموصي عليم بكلّ تبديل يتم سرًا أو علانية يحصيه عليهم ويجازيهم به.

  2. ( فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ).

( فَمَنْ خَافَ ) أي توقع وعلم من قولهم “أخاف أن تمطر السماء” أي أتوقع أن تمطر السماء.

في هذه الآية يبين الله سبحانه أن أحدًا لو علم أو توقع أن الموصي سينحرف في وصيته بما يؤدي إلى إثارة الشقاق بين الموصى لهم – الوالدين والأقربين – سواء أكان ذلك الانحراف خطأ أي دون عمد ( جَنَفًا  ) كأن تحركه الشفقة على أحد ضعاف أبنائه فيزيد له في الوصية عن إخوته ظنًا منه أن هذا سيصلح حال ذلك الضعيف فيكون هذا الانحراف في الوصية قد وقع خطأ أي بحسن نية فيه في غير موقعها، أم كان ذلك الانحراف عمدًا ( إِثْمًا ) كأن يتعمد الموصي مضايقة أحد ولده أو أقاربه فلا يوصي لهم بشيء لأمر في نفسه تجاههم.

فمن توقع هذا الانحراف في الوصية من الموصي للموصى لهم فتدخل للإصلاح حتى لا يقع الموصي في الإثم بوصيته ولا يتسبب ذلك في شقاق بين أهل الموصي، فإن هذا التدخل ومحاولة الإصلاح لا إثم فيه ولا يدخل في باب تبديل وصية الموصي؛ لأن التبديل هنا هو عن طريق الإصلاح بين الموصي والموصى لهم فيوجد تفاهم بينهم على تعديل الوصية برضى الموصي والموصى لهم.

وليس هذا كالتبديل في الآية السابقة، فذاك تبديل بالتزوير في الوصية دون علم الموصي أو الموصى لهم ولذلك هناك وقوع في الإثم، وأما ما هو مذكور في هذه الآية حيث الإصلاح وتعديل الوصية برضى الموصي والموصى لهم في حالة العلم أو توقع وجود انحراف في الوصية ومحاولة الإصلاح في هذه الحالة لتعديلها فهذا لا إثم فيه، والله غفور لانحراف الموصي في وصيته قبل تعديلها ما دام قد تمّ الإصلاح والتعديل، كما أن الله سبحانه رحيم بالموصي والموصى لهم والذي تدخل بالإصلاح بينهم فقد أحسنوا بقبول الإصلاح وتعديل الوصية طبقا لأحكام الشرع ورحمة الله قريب من المحسنين.q

[1]           الترمذي: 2046، النسائي: 3581، أبو داوود: 2486، ابن ماجه: 2703

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *