العدد 417 -

السنة السادسة والثلاثون، شوال 1442هـ،الموافق أيار 2021م

غربة الإسلام وتجديده وحزب التحرير (3)

حامد عبد العزيز

إن عملية تجديد الدين هي من أهم المواضيع المطروحة اليوم في واقع حياة المسلمين، يطرحه أعداء المسلمين، ومن الغرب خاصة، عبر أدواته من الحكام العملاء له، وهؤلاء يحركون هذا الموضوع عبر العلماء التابعين لهم، ويريدون به قصر الإسلام على الناحية الفردية، وإبعاده عن الحكم فيما بات يعرف اليوم بالإسلام السياسي (الإسلاموية)، ويطالبون من خلاله بتعديل الخطاب الديني بما يضمن لهم ذلك. ومن أجل فرض ذلك، يقيم الغرب حربه العالمية على الإسلام تحت شعار (الحرب على الإرهاب)… وفي المقابل يطرحه المسلمون الواعون المخلصون يريدون بذلك إرجاع الدين إلى مضائه ونقائه وصفائه تمامًا على الذي أنزل عليه، معتمدين على حديث الرسول صلى الله عليه وسلم الصحيح: «بَدَأَ الإِسْلامُ غَرِيبًا، وَسَيَعُودُ كَمَا بَدَأَ غَرِيبًا، فَطُوبَى لِلْغُرَبَاء» معتبرين أن إقامة الخلافة الراشدة هي الطريقة الوحيدة التي يتم فيها تجديد الدين وبشكل عملي يعيد الإسلام مطبقًا في واقع الحياة… وفي هذا المقال، والذي كنا قد عرضنا من قبل ما يتعلق بالتجديد على صعيد الحكم، وصعيد النظام الاقتصادي، والنظام الاجتماعي، وسياسة التعليم… وفي هذا العدد سنطرح ما يتعلق بالسياسة الخارجية، وعلى صعيد تحرير المصطلحات والتعريفات الشرعية، وهذا ضروري لأنه بها ينضبط الفهم الصحيح، كتعريف العقل والنهضة والمجتمع، والعقيدة، ودار الكفر ودار الإسلام.

– على صعيد السياسة الخارجية:

1-حكم الشرع في المنظمات والهيئات الدولية:

   بعد هدم الخلافة الإسلامية، هيمن الغرب على الحياة السياسية في العالم وفرض وجهة نظره على الحياة، وأخرج للعالم مجموعة من المنظمات والهيئات الدولية بهدف السيطرة على أي حراك دولي يهدد وجوده، كعصبة الأمم المتحدة التي صارت بعد ذلك هيئة الأمم المتحدة، وهي ليست في الواقع أممًا متحدة، بل هي منظمة غربية تمسك الدول الكبرى بتلابيبها وتكبِّل الشعوب والأمم الأخرى التي تسعى للانعتاق من تبعية الغرب وسيطرته بمجموعة من القوانين والقرارات تصبُّ في صالح تلك الدول. وبرغم أن كل الدول التي تشكَّلت على أنقاض الخلافة قد انضوت تحت لواء تلك المنظمة وما تفرَّع عنها من هيئات، ورضيت بقرارتها وحرصت على تنفيذها، وتعهَّدت باحترام القوانين الدولية التي فرضها المنتصرون، وبرغم أن الكثير من أبناء الأمة اعتبر تلك المنظمات واقعًا محتومًا لا فكاك منه، وإذا تعرضوا لمصيبة أو بلاء يستهدف وجودهم وكيانهم تراهم يلهثون وراء المنظمات الدولية والدول الكبرى لحلِّ مشكلتهم، وخير مثال على ذلك قضية فلسطين وكشمير والبوسنة والهرسك وغيرها الكثير. إلا أن حالة الغربة تلك واستبعاد الإسلام من العلاقات الدولية بعد غياب دولته، تصدَّى لها حزب التحرير، وأعلن بكل وضوح أن للإسلام رأيًا في تلك المنظمات الدولية، وهو التحريم قطعًا، وعدم جواز التحاكم لها ولقوانينها؛ لأن هذه المنظمات تقوم على أساس يتناقض مع أحكام الإسلام، ولأنها أداة بيد الدول الكبرى، خاصة أمريكا، تسخِّرها لتحقيق مصالحها الخاصة، وهي وسيلة لإيجاد نفوذ الكفار على المسلمين وبلادهم، وذلك لا يجوز شرعًا؛ لأن الوسيلة إلى الحرام محرمة، وأن للإسلام أحكامه الخاصة فيما يتعلق بالعلاقات الدولية.

  هذا وقد بيَّن الحزب بشكل قاطع أن ما يسمى بالقانون الدولي قد أنشئ وأوجد ضد الدولة الإسلامية التي كانت تتمثل بالدولة العثمانية، فالأسرة الدولية أو العائلة الدولية هي في أصلها مبنية على أساس العائلة الدولية النصرانية الأوروبية، والقانون الدولي هو في أصله المعاهدات المعقودة بين الدول النصرانية والعرف السائد في المجموعات النصرانية الأوروبية. فإطلاق اسم العائلة الدولية على الدول النصرانية الأوروبية وحدها يعتبر تزويرًا وتضليلًا؛ لأن العالم ليس الأسرة الدولية النصرانية الأوروبية فحسب، وإطلاق اسم القانون الدولي على معاهدات وأعراف الدول النصرانية وحدها كذب وتزوير؛ لأن الأفكار التي تصلح أن تكون قانونًا دوليًا ليس معاهدات وأعراف الدول النصرانية الأوروبية فحسب، بل الأفكار التي تصلح لذلك هي مجموعة الأعراف الموجودة بين المجموعات الموجودة في العالم كله، والاتفاقات والمعاهدات التي تعقد بين مجموعات البشر في العالم كله، كما وبيَّن للأمة أن الدول كلها عدوة للإسلام؛ لأنها تعتنق ديانات ومبادئ تناقض الإسلام، ولها وجهة نظر في الحياة تخالف بل تناقض وجهة النظر الإسلامية، والدول الكبرى بنوع خاص تزيد على ذلك بأنها تطمع في البلاد الإسلامية، ولذلك قضت على الدولة الإسلامية للقضاء على الأمّة الإسلامية، ورسمت الخطط البعيدة المدى للحيلولة دون عودة الدولة الإسلامية إلى الحياة، وبالتالي لتَحول دون عودة الأمّة الإسلامية أمّة عظيمة بين الأمم، وبالطبع ترسم الخطط وتبذل الجهود لوأد الدولة الإسلامية في مهدها، وقبل أن تتحرك الأمّة الإسلامية لمؤازرتها وحمايتها، وستظلُّ دائبة على مقاومة الأمّة الإسلامية، ومقاومة قيام الدولة الإسلامية قائمة. وإذا كانت معرفة السياسة الخارجية لكل دولة في العالم أمرًا لا يستغني عنه كل سياسي مسلم، فإن إدراك كُنه، وخفايا، وخطط، وأساليب، ووسائل الدول الكبرى أمر بالغ الأهمية لكل مسلم بشكل إجمالي، ولكل سياسي بل مفكر مسلم بشكل تفصيلي واقعي سائرًا مع الأحداث اليومية المتغيِّرة، والمتجدِّدة، مع بقاء التصوُّر الكامل للأسس والقواعد التي تقوم عليها سياسة أي دولة كبرى، من أجل إدراك الأخطار، ودوام العمل لأمن البلاد، أي لأمن الدولة والأمّة الإسلامية.

 

2-الجهاد والسياسة الخارجية للدولة:

   لم يتعرض حكم شرعي للهجوم من قبل أعداء الأمة كما تعرض حكم الجهاد؛ ذلك لكونه السبب الرئيس الذي بسببه تعرض أعداء الأمة للقهر والذل فيهِ وبالدعوة إلى الإسلام امتدَّ العالم الإسلامي شرقًا وغربًا. وتلك الضربات القاصمة التي تلقَّاها الكفار دفعتهم للهجوم على فكرة الجهاد بعد أن يئسوا من قدرتهم على التصدي لقوة الجيوش الإسلامية وقوة العقيدة القتالية التي يحملها أبناء الأمة في مواجهة أعدائها. وطوال التاريخ الإسلامي لم تضعف فكرة الجهاد في نفوس المسلمين أبدًا، حتى بعد ذهاب دولتهم وغياب الراعي والحامي الذي يقاتل من ورائه ويتَّقى به، فقد استمرَّ المسلمون في رفع لواء الجهاد، ولكن هذه المرة ليس لنشر الإسلام بل للدفاع عن أراضيهم وأعراضهم، ولم يهنأ المستعمرون يومًا في بلادنا، فقد ظهر مجاهدون عظام تصدَّوا لهم بكل قوة وبما هو متاح في أيديهم ولو كان أقلَّ القليل، كعمر المختار وعبد القادر الجزائري والحركة المهدية في السودان وغيرهم الكثير، حتى بعد أن استقر الوضع في بلادنا للكفار لم تتوقف عجلة الجهاد والمقاومة أبداً؛ ولذا حرص الغرب على أن يُخرِّج من بيننا عملاء فكريين ومشايخ باعوا آخرتهم بدنيا غيرهم، فحملوا لواء الهجوم على فكرة الجهاد، وبدأنا نسمع عن أن الجهاد شرع في الماضي لإزالة الحواجز المادية، والآن الحواجز المادية مزالة، وبالتالي فلا حاجة له. أو أن الجهاد إنما شرع للدفاع فقط، بل تطوَّر الأمر عندهم حتى أصبح القتال من أجل الدفاع إرهابًا.

   حرص الحزب في ثقافته على إعادة البهاء والصفاء والنقاء لفكرة الجهاد، وبيَّن أنه هو الطريقة العملية لنشر الإسلام، وقرَّر أن السياسة الخارجية في الدولة الإسلامية تقوم على أساس فكرة ثابتة لا تتغير، وهذه الفكرة هي نشر الإسلام في العالم، في كل أمة وكل شعب. فقد حدَّد الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم من الكفار خارج حدود الدولة الإسلامية بأحكام نشر الرسالة الإسلامية بالتبليغ وإقامة الحجة والجهاد، وهذه هي طريقة حمل الدعوة الإسلامية رسالة إلى العالم أجمع. فلم يعترف المسلمون في أي وقت من الأوقات بالأطر السياسية التي كانت تنظم علاقات الدول التي وجدت في عهودها المتعاقبة، ولم يكونوا في يوم من الأيام جزءًا من أية منظومة سياسية عالمية أو إقليمية، بل كانوا دومًا ينتهجون سياسة مستقلة تمامًا، ترتكز على الأحكام الشرعية الجهادية.

3-التأصيل لمفهوم السياسة:

   بعد أن كانت السياسة هي طعام وشراب المسلمين، ليس فقط للخليفة والولاة والعمال والوسط السياسي، بل كانت كذلك عند العلماء وحتى العامة، أصبحت السياسة في زمن الغربة الأخير عند الكثيرين يستعاذ بالله منها،  كما قال أحدهم، بل إن الكلام فيها ينقض الوضوء ويوجب الغسل كما قال آخر؛ إذ تم الترويج على أن السياسة هي فن الكذب والخداع والمؤامرات. ولقد أعاد الحزب للسياسة من جديد مفهومها الشرعي الذي هو رعاية شؤون الأمة داخليًا وخارجيًا، وتكون من قبل الدولة والأمة، فالدولة هي التي تباشر هذه الرعاية عمليًا، والأمة هي التي تحاسب عليها الدولة. ورعاية شؤون الأمة داخليًا من قبل الدولة تكون بتنفيذ المبدأ في الداخل، وهذه هي السياسة الداخلية. وأما رعاية شؤون الأمة خارجيًا من قبل الدولة فهي علاقتها بغيرها من الدول والشعوب والأمم، ونشر المبدأ في العالم، وهذه هي السياسة الخارجية.

   ولقد وضع الحزب كتابي (مفاهيم سياسية) و(نظرات سياسية) ليؤصِّل لمعنى جديد للسياسة في هذا العصر يختلف عما يسود العالم من كذب ونفاق، وكان تأسيس الحزب كحزب سياسي يتعاطى السياسة بمفهومها الشرعي أكبر تحدٍّ قام به الحزب للغرب، ليواجه من خلاله الخطط والألاعيب السياسية لدول الغرب الكافر المستعمر في بلادنا، وليكشف عملاءه في بلادنا وتأمُّرهم على البلاد والعباد، ولم تتوقف أبدًا معارك الحزب السياسية التي خاضها طوال ما يقارب الستة عقود، ومما يذكر للحزب في هذا المجال كشفه لعمالة جمال عبد الناصر والخميني والملك حسين وغيرهم، وفضحه لمخططاتهم، كمخطط فصل جنوب السودان والضفة الغربية، وتعريته للنظام الرأسمالي ومن قبله النظام الشيوعي الذي عرَّاه الحزب تمامًا وبيَّن تهافته.

6- على صعيد التعريفات:

    تميَّز حزب التحرير بتحرير المصطلحات والتعريفات، قال تعالى: (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لَا تَقُولُواْ رَٰعِنَا وَقُولُواْ ٱنظُرۡنَا وَٱسۡمَعُواْۗ وَلِلۡكَٰفِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٞ ١٠٤)، وإن أيَّ تعريف أو مصطلح يجب أن يكون جامعًا مانعًا، واستطاع الحزب أن يقوم بتحرير مجموعة من التعاريف والمصطلحات بشكل لم يسبقه إليه أحد كما سنبيِّن الآن. ومثل هذه التحرير ضروري جدًا؛ لأنه يشكل مناط حكم لأفكار إسلامية وأحكام شرعية هي أشد ما يحتاج إليها المسلمون اليوم في مثل هذه الأيام الصعبة التي تمرُّ بها الأمة وتحتاج فيها إلى التجديد.

1-تعريف العقل:

   صحيح أنه قد وجد من يحاول إدراك واقع العقل من علماء المسلمين،  ومن علماء غير مسلمين في القديم والحديث، ولكنهم أخفقوا في إدراك واقعه. ووجد من يحاول رسم طريقة للتفكير، ولكنهم وقد نجحوا في نواحٍ من ثمرات هذه الطريقة بالمنجزات العلمية ولكنهم ضُلِّلوا عن معرفة التفكير من حيث هو تفكير، وضَلَّلوا غيرهم من المقلدين الذين بهرهم هذا النجاح العلمي. ومن قبل، منذ أيام اليونان ومَن بعدهم، اندفعوا في الوصول إلى التفكير فوصلوا إلى ما يسمى بالمنطق، ونجحوا في الوصول إلى بعض الأفكار؛  ولكنهم أفسدوا المعرفة من حيث هي معرفة،  فكان المنطق وبالًا على المعرفة بدل أن يكون _ كما أريد له _ سبيلًا للوصول إليها ومقياسًا لصحتها.

   سلك الحزب الطريق المستقيم الذي يؤدي إلى معرفة معنى العقل معرفة يقينية جازمة، وهو أنه لا بد من وجود أربعة أشياء حتى تتم العملية العقلية، أي حتى يوجد العقل أو الفكر.  فلا بد من وجود واقع. ولا بد من وجود دماغ صالح، ولا بد من وجود حسٍّ، ولا بد من وجود معلومات سابقة. فهذه الأربعة مجتمعة لا بد من تحقُّقها جميعها وتحقق اجتماعها، حتى تتمَّ العملية العقلية، أي حتى يوجد عقل أو فكر أو إدراك. وعليه فالعقل أو الفكر أو الإدراك هو: نقل الحسِّ بالواقع بواسطة الحواس إلى الدماغ، ووجود معلومات سابقة يفسر بواسطتها هذا الواقع.

   ورأى الحزب أن هذا التعريف هو وحده التعريف الصحيح، ولا تعريف غيره مطلقًا، وهذا حق فهو تعريف مطابق لواقع العقل، وهذا التعريف مُلزِم لجميع الناس في جميع العصور، لأنه وحده الوصف الصادق لواقع العقل، وهو وحده الذي ينطبق على واقع العقل.

   ومن خلال هذا التعريف استطاع الحزب ضبط عملية التفكير وبالتالي بيَّن دور العقل؛ إذ العقل بهذا التعريف لا يمكنه أبدًا البحث فيما وراءه، ولا فيما لا يقع عليه الحس، وبالتالي كانت الأبحاث التي أنتجها المتكلمون في المغيَّبات لا قيمة لها، وهي مجرد أبحاث لا طائل من ورائها ولم تستفد منها الأمة بل كانت وبالًا عليها، ومدعاة لتفرُّق الأمة لفرق كثيرة يكفِّر بعضها البعض، بل وتصدَّى الحزب، من خلال هذا التعريف والالتزام بما يترتب عليه، لتلك الفئة التي أرادت أن تجعل العقل حكمًا على النص، مع أن دور العقل هو فقط فهم النص، وأما دور العقل في إثبات العقيدة فهو دور كبير، وكان هذا التحديد لدور العقل المنضبط بضوابط الشرع سببًا مهمًا جدًا في صحة الاجتهادات التي قام بها الحزب في شتى المجالات؛ إذ كانت اجتهادات الحزب كلها مستنبطة من الكتاب والسنة وما دلَّا عليه من أدلة كإجماع الصحابة والقياس المبني على علة شرعية؛ ولهذا تصدى الحزب وبقوة لفكرة المصالح التي تنبني على التشهّي المتسربل بلباس العقل.

2-تعريف النهضة:

كانت حالة الانحطاط التي وصلت إليها الأمة بعد هدم الخلافة قد وصلت إلى الحضيض، فهذا الانحطاط لم يكن فجائيًا، بل كانت له تراكمات كثيرة منذ أن تم فصل الطاقة العربية عن الطاقة الإسلامية نتيجة إهمال أمر اللغة العربية، مرورًا بالغزو الثقافي والتبشيري الذي تعرَّضت له الأمة. وبعد أن استطاع الغرب أن يحقق نهضته على أساس فكرة فصل الدين عن الدولة وحقَّق ذلك التقدم العلمي والتقني والحربي، انبهر الكثير من أبناء الأمة بذلك التقدُّم، وانتشرت بين المسلمين تلك الدعوات الداعية لتقفِّي أثر الغرب حذو القذة بالقذة، حتى لو دخلوا جحر ضب دخلناه وراءهم، كما أسس لهذا زعيمهم طه حسين فيما زعموا في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر» الذي قال فيه: «إن سبيل النهضة واضحة بيِّنة مستقيمة، ليس فيها عوج ولا التواء، وهي أن نسير سيرة الأوروبيين ونسلك طريقهم؛ لنكون لهم أندادًا ولنكون لهم شركاء في الحضارة خيرها وشرها، حلوها ومُرّها، وما يُحَبُّ منها وما يُكره، وما يُحمد منها وما يُعاب».

   ولقد ظن البعض أن النهضة تكون بالتقدم العلمي أو الاقتصادي أو من خلال إهمال أمر الدين مطلقًا، فجاء حزب التحرير ليحرِّر للأمة المفهوم الصحيح للنهضة، ويبيِّن أنها الارتفاع الفكري، وأن الأفكار في أية أمة من الأمم هي أعظم ثروة تنالها الأمة في حياتها إن كانت أمة ناشئة، وأعظم هبة يتسلمها الجيل من سلفه إذا كانت الأمة عريقة في الفكر المستنير. أما الثروة المادية، والاكتشافات العلمية، والمخترعات الصناعية، وما شاكل ذلك فإن مكانها دون الأفكار بكثير، بل إنه يتوقف الوصول إليها على الأفكار، ويتوقف الاحتفاظ بها على الأفكار. فإذا دُمِّرت ثروة الأمة المادية فسرعان ما يعاد تجديدها، ما دامت الأمة محتفظة بثروتها الفكرية. أما إذا تداعت الثروة الفكرية، وظلت الأمة محتفظة بثروتها المادية فسرعان ما تتضاءل هذه الثروة، وترتدّ الأمّة إلى حالة الفقر. كما أن معظم الحقائق العلمية التي اكتشفتها الأمة يمكن أن تهتدي إليها مرة أخرى إذا فقدتها دون أن تفقد طريقة تفكيرها. أما إذا فقدت طريقة التفكير المنتجة فسرعان ما ترتد إلى الوراء وتفقد ما لديها من مكتشفات ومخترعات.

   ولإدراك الحزب لمفهوم النهضة كانت هذه الجملة التي صدَّر بها الحزب أول كتاب له في منظومته الفكرية: «ينهض الإنسان بما عنده من فكر عن الحياة والكون والإنسان، وعن علاقتها جميعها بما قبل الحياة الدنيا وما بعدها؛ فكان لا بد من تغيير فكر الإنسان الحاضر تغييرًا أساسيًا شاملًا، وإيجاد فكر آخر له حتى ينهض؛ لأن الفكر هو الذي يوجد المفاهيم عن الأشياء، ويركِّز هذه المفاهيم».

ثم انتقل الحزب لتعريف المبدأ بأنه عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، ليصل من خلال بحث عقلي إلى أن الإسلام هو المبدأ الصحيح الذي يجب أن تنهض الأمة على أساسه، وهو من ثَم المبدأ الذي سيقود البشرية بعد ذلك للطريق والنهضة الصحيحة التي تخرجه من البؤس والظلم والشقاء الذي تتخبط فيه البشرية منذ غاب الإسلام عن الوجود بغياب الدولة الإسلامية.

3-تعريف المجتمع:

    نتيجة الهيمنة العالمية للمبدأ الرأسمالي الذي يقوم على الفردية، هيمن التعريف المغلوط للمجتمع بأنه هو مجموعة الناس، أي أنه مكوَّن من أفراد، فإذا صلح الفرد صلح المجتمع؛ لكن الحزب لم يقنع بهكذا تعريف، بل عرَّفه الحزب بأنه أناس وأفكار ومشاعر وأنظمة. وهذا التعريف عام، وهو نتيجة لدراسة واقع المجتمع من حيث هو مجتمع، ولكن على اعتبار أن المجتمع الذي نريده هو مجتمع معين متميز عن غيره من المجتمعات. فمجموعة الناس هي جماعة وليست مجتمعًا، والذي يكوِّن المجتمع هو العلاقات، وتتميز المجتمعات عن بعضها بحسب هه العلاقات، وإلا فالناس في كل بلد هم الناس،  أي هم أشخاص من بني الإنسان لا تتميَّز جماعة عن جماعة إلا بالعلاقات.

ومن هنا أدرك الحزب أن الدول تنشأ بنشوء أفكار جديدة تقوم عليها ويتحول السلطان فيها بتحول هذه الأفكار؛ لأن الأفكار إذا أصبحت مفاهيم أثَّرت على سلوك الإنسان، وجعلت سلوكه يسير حسب هذه المفاهيم، فتتغير نظرته إلى الحياة. وتبعًا لتغيُّرها تتغيَّر نظرته إلى المصالح. والسلطة إنما هي رعاية هذه المصالح والإشراف على تسييرها. ولا تكون إلا للفئة الأقوى من غيرها من باقي الفئات في المجتمع، فإذا كان الناس في منطقة متفقين في نظرتهم إلى المصالح أقاموا هم من يتولى رعاية شؤونهم، أي أقاموا هم السلطة التي تسيِّر مصالحهم، أو سكتوا لمن أقاموا أنفسهم في السلطة لتسيير مصالحهم. ومن هنا يأتي الحكم من الأمة قطعًا، إما باختيارها الفعلي، أو بسكوتها عن قيامه. والسكوت هو نوع من أنواع الاختيار. وعليه فلا بد من وجود أفكار معينة عن الحياة، ولا بد من وجود فئة قوية تحمل هذه الأفكار عن قناعة وتتقبلها برضا وحماس حتى تؤخذ السلطة.

فكان تعريف المجتمع وإدراك كيف تقوم الدول، تجديدًا مهمًّا توصل إليه الحزب، وقام يسعى لتغيير الأفكار والمفاهيم في المجتمعات في البلاد التي يعمل فيها الحزب، ويحارب الأعراف الفاسدة والتقاليد البالية، ويعمل على إيجاد رأي عام للإسلام منبثق عن وعي عام، يمكِّنه بعد استلام السلطة من أهل القوة والمنعة من تطبيق الإسلام وبناء المحتمع الإسلامي على أسس صحيحة.

4-تعريف العقيدة:

وبما أن النهضة لا تكون إلا بالارتفاع الفكري، والفكر الصحيح الثابت القويم هو الذي يرقى به الإنسان، وتنهض به الأمم، وعليه تبنى المجتمعات وتقوم الدول؛ فلا بد من أن يكون هذا الفكر ناشئًا عن أساس روحي (العقيدة) تنبثق عنه كافة الأنظمة والمعالجات وتقاس به جميع المفاهيم عن الحياة، وتثبت عليه الحقائق وتقعَّد به القواعد.

والملاحظ أن العقيدة الإسلامية في عصر الغربة هذا لم تعد لدى المسلمين عقيدة سياسية؛ ولكنها ظلَّت عقيدة روحية. ووجهة النظر التي تشكلها لم يعد لها وجود في واقع الحياة، وإن كانت موجودة فرديًا. فأساس موطن الداء كامن في هذين الأمرين؛ في الخلل الذي طرأ على أساس المفاهيم عن الحياة وهي العقيدة السياسية، وفي الخلل الذي طرأ على تصوير الحياة الذي تشكله العقيدة السياسية، فبعد أن كان تصوير الحياة بأنه الحلال والحرام صار تصوير الحياة بأنها المنفعة.

    وطريقة العلاج لا بد أن تبدأ بالعقيدة ببيان أنها عقيدة سياسية والتركيز على ذلك بشكل مؤثر من الناحية الروحية التي فيها، فهي معروفة عند الجميع، وكذلك بربطها بالأفكار عن الحياة وبرعاية شؤون الدنيا بربط الإيمان بالله تعالى بالإيمان بالقرآن، وربط الإيمان برسالة محمد ونبوته بالسنة، ثم بعد ذلك الانتقال إلى وجهة النظر التي تشكلها هذه العقيدة، أي الانتقال إلى أن مقياس الحياة هو الحلال والحرام وأن تصوير الحياة في نظر الإسلام هو الحلال والحرام، وليس النفعية ولا التطور أو ما يسمى بالتقدمية.

   ولهذا حرص الحزب على الاهتمام بالعقيدة وعرَّفها بشكل صحيح حتى لا تقع الأمة مرة أخرى فيما وقعت فيه من قبل من اختلاف وتكفير طائفة لطوائف أخرى بناء على الخلاف في مسائل ظنية، فعرَّف العقيدة بأنها هي التصديق الجازم، بينما التصديق غير الجازم ليس بعقيدة، والتصديق الجازم يوجب بل يحتم عدم قبول الظن في العقيدة، يعني إذا قال يجوز هذا فإن ذلك ليس عقيدة لأنه ليس تصديقًا جازمًا بل تصديقًا فقط، فالاعتقاد بأن القرآن كلام الله يعني التصديق الجازم بأن القرآن وحده هو الصالح لأنه وحي من الله، فالقول بأنه صالح وأن غيره صالح ليس تصديقًا جازمًا به بل تصديقًا فقط. والاعتقاد بأن الحديث إذا صح عن رسول الله هو وحده الصالح لأنه وحي من الله، فالقول بأنه صالح وأن غيره صالح ليس تصديقًا جازمًا بل تصديقًا فقط، فالعقيدة تحتِّم وجود الجزم في التصديق، فإذا فقد الجزم خرجت عنها صفة الاعتقاد. ووجهة النظر مرتبطة بالعقيدة، فإذا قيل إن الحكم الشرعي جاء للمنفعة وهذه منفعة، فإن هناك خللًا في ربط وجهة النظر بالعقيدة، فيصحح هذا الخلل بأن الحكم الشرعي دليله الشرع، أي ما جاء وحيًا من الله وليس دليله المنفعة، وإذا قيل إن الحكم الشرعي لا يصلح في هذا العصر بل كان صالحًا في العصور السابقة، والآن الصالح هو المنفعة أو القوانين الحديثة فإن هناك خللًا في العقيدة وفي ربط وجهة النظر بها، فيصحح هذا الخلل بأن الاعتقاد بوجود الله ونبوة محمد يناقض ذلك، فالخطاب في القرآن والحديث للناس في كل عصر. ثم بعد التسلم ينتقل إلى تصحيح الربط، وإذا قيل إن تصوير الحياة بالحلال والحرام لا يعارض تصويرها بالنفعية، فإن هناك خللًا في الربط، فيصحَّح هذا الخلل بأن الحلال والحرام دليله الشرع وليس المنفعة، فالمطلوب هو الشرع وليس المصلحة أو المنفعة. وإذا قيل إن تصوير الحياة بالحلال والحرام لا يناسب العصر بل الذي يناسبه المصلحة أو المنفعة، فإن هناك خللًا في العقيدة وفي الربط، فيصحَّح هذا الخلل بأن كتاب الله جاء للإنسان في كل عصر وليس في عصر معين، ثم بعد التسليم ينتقل إلى تصحيح الربط.

   فالعقيدة هي أس الحياة وأصل المجتمع ومنبع  النظام ومرجع للأول والآخر. وهذا ما حرص عليه حزب التحرير ونافح عنه، حتى أشاع البعض أن الحزب يردُّ خبر الآحاد لأنه ظني وما فهموا ما يرمي إليه الحزب، وما فرَّقوا بين العقيدة والحكم الشرعي، أو هكذا أرادوا التدليس على الأمة وحاولوا صرفها عن الالتفاف حول الحزب وفكره وثقافته.

   إن القول بأن العقيدة لا تؤخذ إلا بالدليل القطعي ولا يجوز أن تؤخذ بالدليل الظني هو قول يثبت العقيدة وينقيها من كل شائبة ويجعلها في مأمن من أن يتسرَّب إليها الفساد والتناقض والعبث، وليس قولًا يشكِّك في العقيدة أو يحطُّ من قيمتها بل هو يرفعها.

   فواقع العقيدة من حيث فهمها ووضوحها وأنها لا تكون إلا في العقليات المحضة أو المغيبات يقضي بأن تكون قطعية لا ظنية، لأنها أصل، والأصول لا يجوز أن يدخلها الاحتمال؛ لأن هذا يعني احتمال عدم نفي النقيض. كما أن المطلوب فيها هو التصديق  الجازم فقط، أي لا يطلب فيها العمل، وإن كانت في حقيقتها أصلًا للأعمال وأسًّا لأي مفهوم عن واقع الحياة. وإن دخول الاجتهاد فيها يفسدها وتتعدد الآراء وتكثر المذاهب والفرق العقدية، فيؤدي ذلك إلى الاشتطاط والخطأ الناجم عن الاجتهاد القائم على غلبة الظن خاصة في العقيدة.

5-تعريف دار الإسلام ودار الكفر:

   حاول البعض سلخ مفهوم دار الإسلام ودار الكفر عن أحكام الشريعة، ولم يكن الأمر عن حسن نية أبدًا، كما لم يكن أيضًا عن جهل بتلك الأحكام، بل كان خبثًا وانصياعًا لما يريده الغرب الكافر من تفريغ الإسلام من مضمونه، وتجريده من كل الأحكام السياسية التي هي أسُّه وأساسه، فقالوا إن هذا مفهوم تاريخي قديم لا يناسب العصر الذي تقوم العلاقات فيه بين الدول على الاحترام المتبادل وحسن الجوار، وإن هناك قوانين دولية يجب أن تُحترم، وإن الدول اليوم تقوم على أساس المواطنة وليس على أساس الكفر والإيمان.

   لم يأتِ حزب التحرير بجديد عندما عرَّف دار الإسلام بأنها هي الدار التي تطبق فيها أحكام الإسلام على جميع شؤون الحياة والحكم، ويكون أمانها بأمان الإسلام ولو كان أكثر أهلها من غير المسلمين. ودار الكفر بأنها هي الدار التي تطبَّق فيها أحكام الكفر على جميع شؤون الحياة، ويكون أمانها بأمان الكفر، ولو كان جميع أهلها من المسلمين. ولم يكن تأكيد الحزب بأن العبرة في الدار من كونها دار إسلام أو دار كفر، هي بالأحكام التي تطبَّق عليها، وبالأمان الذي تكون آمنة به، وليست العبرة بدين أهلها، لم يكن أيضًا تأكيدًا جديدًا، بل هو ما كان عليه كل علماء الأمة ولم يشذَّ منهم أحد، إلا أن الحزب نفض الغبار عن هذا المفهوم الذي تسبَّب به بعد الشقة بين الناس وبين الدولة الإسلامية، وساهم فيه بعض مشايخ السلطان الذين أصبحوا ألعوبة ومعاول هدم في يد أعداء الأمة.

   وتحرير هذا المفهوم كان من الأهمية بمكان؛ لأنه ينبني عليه تحديد كيفية العمل إزاء الواقع، فإن كان الواقع أن الدار دار إسلام، كان الواجب هو السمع والطاعة والإصلاح إن ظهر أي انحراف. وإن كان الواقع أن الدار دار كفر، فالواجب هو العمل على التغيير وتحويل الدار إلى دار إسلام بالطريقة الشرعية المستنبطة من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة.  [يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *