العدد 240 -

العدد 240 – السنة الواحدة والعشرون، محرم 1428هـ، الموافق شباط 2007 م

الاستراتيجية الأميركية ومرتكزاتها الفكرية (1)

الاستراتيجية الأميركية ومرتكزاتها الفكرية (1)

 

تنشر مجلة الوعي كلمة الداعية الإسلامي الشيخ محمد عبد الكريم التي ألقاها في: «الحملة العالمية لمقاومة العدوان: مؤتمر نصرة الشعب العراقي» الذي عقد في إسطنبول – تركيا وذلك في 22-23 ذي القعدة 1427هـ الموافق 13-14 كانون أول 2006م. تنشرها الوعي لما ترى أنها تحتويه من فهم جيد ومتابعة جادة لما تخططه أميركا (ومعها يهود) للمسلمين في المنطقة وفي العالم.

لقد تحدث في بداية هذه الكلمة عن تقرير أميركي يكشف عمل الموساد في اغتيال العلماء والأساتذة الجامعيين العراقيين في مختلف المجالات العلمية، ثم تحدث عن بعض المفكرين الاستراتيجيين الذين وضعوا أبحاثهم وتقاريرهم عن صياغة المنطقة، فتحدث عن برنارد لويس (بطريرك الاستشراق) وعمله في خدمة المشروع الصهيوني بأبعاده السياسية والثقافية، ثم عن زينو باران التي راحت تعمل لتجديد أفكار برنارد لويس والتي تخصصت بدراسة حزب التحرير، ثم عن رالف بيترز الذي يرى أن الشعب العربي سيظل أداة بيد معظم حكامه الذين ينصاعون انصياعاً أعمى للولايات المتحدة، ثم عن جاي بخور الذي قدم خطة لإعادة صياغة الشرق الأوسط الجديد، تلك الخطة القائمة على «الأحلام المتورمة» كما يقول الكاتب ثم عرض تقريراً أصدره مركز راند الذي يعتبر من الأهمية بمكان في استراتيجية أميركا للتعامل مع المسلمين وبه نبدأ ذكر المقال، ومما جاء في هذا التقرير:

تقرير مركز «راند»:

لابد من تذكير الباحثين والقراء بالعودة إلى تقرير مركز «راند» الذي صدر في شباط 2004م، ويعد بمثابة استراتيجية أميركية للتعامل مع المسلمين، وهو على درجة عالية من الأهمية وفيه الكثير من الإجابات عن خفايا التوجهات الأميركية تجاه المسلمين، والتقرير بعنوان: «الإسلام المدني الديمقراطي: الشركاء والموارد والاستراتيجيات».

ويرى التقرير أنه لا يمكن إحداث الإصلاح المطلوب من دون فهم طبيعة الإسلام في المنطقة الذي يقف سداً منيعاً أمام محاولات التغيير، وأن الحل يكمن في النظر إلى المسلمين عبر أربع فئات هي: مسلمين أصوليين، مسلمين تقليديين، مسلمين حداثيين، مسلمين علمانيين.

-فيما يتعلق بالأصوليين: تقول “راند” يجب محاربتهم واستئصالهم والقضاء عليهم وأفضلهم هو ميّتهم؛ لأنهم يعادون الديمقراطية والغرب ويتمسكون بما يسمى الجهاد وبالتفسير الدقيق للقرآن، ولأنهم يريدون أن يعيدوا الخلافة الإسلامية، ويجب الحذر منهم لأنهم لا يعارضون استخدام الوسائل الحديثة والعلم في تحقيق أهدافهم وهم قويو الحجة والمجادلة.

ويدخل في هذا الباب السلفيون السنة وأتباع تنظيم القاعدة والموالون لهم والمتعاطفون معهم و”الوهابيون” كما يقول التقرير والغريب أنهم أدرجوا أيضاً حزب التحرير الإسلامي؛ فقط لأنه كما يقولون يسعى لإقامة الخلافة الإسلامية من جديد!! على الرغم من أنه لم نرى أعمال عنف ارتكبها وعلى الرغم من أنه يكاد يكون الفصيل الوحيد الذي يمتلك منهاجاً سياسياً واضحاً ودستوراً قائماً على الإسلام «رغم مآخذ الكثيرين عليه».

-وفيما يتعلق بالتقليديين تقول “راند”: يجب عدم إتاحة أي فرصة لهم للتحالف مع الأصوليين ويجب دعمهم وتثقيفهم ليشككوا بمبادئ الأصوليين وليصلوا إلى مستواهم في الحجة والمجادلة وفي هذا الإطار يجب تشجيع الاتجاهات الصوفية وبالتالي الشيعية (يقول ابن خلدون لولا التشيع لما كان التصوف) ويجب دعم ونشر الفتاوى “الحنفية” لتقف في مقابل “الحنبلية” التي ترتكز عليها “الوهابية” وأفكار القاعدة وغيرها، مع التشديد على دعم الفئة المنفتحة من هؤلاء التقليديين.

ويدخل في باب التقليديين هؤلاء بطبيعة الحال الإخوان المسلمون والصوفية والشيعة ومن يراهم الأميركيون “المعتدلين الآخرين” الذين يقبلون الحوار والتقارب على اعتبار أن التقرير يعرّف التقليديين والإسلام التقليدي أنه يتضمن عوامل ديمقراطية ويمكن خلالها مواجهة وصد “الإسلام الأصولي” ولكنهم لا يمثلون وسيلة ملائمة أو دافعاً لتحقيق “الإسلام الديمقراطي” على اعتبار أن هذا الدور يجب أن يقع على عاتق الإسلاميين العصرانيين (الحداثيين) الذين يعترض طريقهم وفعاليتهم عوائق وقيود كثيرة تحد من تأثيرهم؛ لذلك يجب أن ندعم التقليديين ضد الأصوليين، ونظهر لجموع المسلمين والمتدينين وإلى الشباب والمسلمين في الغرب وإلى النساء ما يلي عن الأصوليين:

1- دحض نظريتهم عن الإسلام وعن تفوقه وقدرته.

2- إظهار علاقات واتصالات مشبوهة لهم وغير قانونية.

3- نشر العواقب الوخيمة لأعمال العنف التي يتخذونها.

4- إظهار هشاشة قدرتهم في الحكم وتخلفهم.

5- تغذية عوامل الفرقة بينهم.

6- دفع الصحفيين للبحث عن جميع المعلومات والوسائل التي تشوه سمعتهم وفسادهم ونفاقهم وسوء أدبهم وقلة إيمانهم.

7- تجنب إظهار أي بادرة احترام لهم ولأعمالهم أو إظهارهم كأبطال، وإنما كجبناء ومخبولين وقتلة ومجرمين كي لا يجتذبوا أحداً للتعاطف معهم… نكتفي بهذا العرض.

أميركا وعملية تشكيل الشرق الأوسط الجديد:

استراتيجية أميركا في العالم الإسلامي تعددت وتنوعت على مر السنين لتتلاءم مع التغيرات التي تطرأ على المنطقة بين الحين والآخر، لكنها في جميع الأحوال والظروف حافظت على عاملين اثنين أساسيين اعتبرتهما كثوابت في جميع هذه الاستراتيجيات، وخطاً أحمر يمس الأمن القومي الأميركي:

العامل الأول هو: حماية أمن (إسرائيل) ودعمها بأي ثمن.

العامل الثاني هو: تأمين النفط والمصالح الاستراتيجية الأميركية الأخرى.

وعلى العموم فإن الاستراتيجية الأميركية الجديدة في المنطقة يمكن تلمس معالمها من خلال الأدوار التي لعبتها أميركا في أفغانستان والعراق ومن خلال الأدوار التي تلعبها مؤخراً بمساعدة أوروبا في عدد من الملفات، سواء في سوريا أم لبنان أم فلسطين أم مصر أم الخليج العربي وتركيا، وهذه الاستراتيجية تقوم على ثلاث ركائز أساسية هي:

أولاً: دعم الأقليات في المنطقة وفي كثير من الأحيان على حساب الأغلبية.

ثانياً: تحجيم نفوذ الدول الكبرى تقليدياً مثل مصر والسعودية وسوريا والعراق، والحرص ألا تمتد دائرة نفوذهم خارج إطار دولهم، سواء سياسياً أم عسكرياً أم حتى اقتصادياً في بعض الأحيان، وذلك لأهداف عديدة سنذكرها في إطار عرض هذه النقطة كما سيأتي لاحقاً.

ثالثاً: استغلال من تدعوهم أميركا بالإسلاميين المعتدلين، وذلك لكي تنفذ ما تصبو إليه تحت شعار الحوار والتقارب والانفتاح على الآخر، الذي تذكّرته فجأة بعد حوالى 60 سنة قضتها في المنطقة وهي تحارب الإسلام والمسلمين وما زالت.

 رابعاً: ضمان عدم التحام هذه الأقليات والطوائف والأعراق، وضمان عدم ذوبانها أو على الأقل انسجامها مع الأغلبية في أي بلد من بلدان الشرق الأوسط في أي إطار جامع على الشكل الذي كانت فيه منذ قرون لضمان أنها ستكون بحاجة إلى مساعدة خارجية، وكل ذلك من أجل أن تبقى هذه الأقليات برميل بارود يمكن تفجيره في الوقت الذي تراه القوى الغربية مناسباً، وبالتالي أميركا ستكون جاهزة للتدخل في أي مكان وزمان تراه مناسباً في أي بلد من هذه البلدان إذا رأت أن ذلك لمصلحتها، وبحجة الحماية بطبيعة الحال. وإن لم يكن ذلك في مصلحتها فلا هي ترى ولا تسمع ولا تتكلم.

خامساً: إن الهدف أيضاً من ورقة الأقليات هو تبرير وجود (إسرائيل)، وتوسيع رقعة المشاكل والنزاعات الإقليمية الداخلية العرقية والقومية؛ لإشغال العالم العربي والإسلامي وشعوب هذه الدول بالمشاكل الداخلية المستجدة لديهم والمخاطر التي تتهدد بلدانهم المعرضة آنذاك للتفتيت والتقسيم، بمعنى تقسيم المقسم أصلاً وتجزئة المجزأ بعداً حتى تصبح القضية الفلسطينية في آخر اهتمامات الشارع الإسلامي والدول الإسلامية، هذا إن تذكرها بعد ذلك أحد، وبالتالي تنعم (إسرائيل) بما هي فيه.

سادساً: الهدف أيضاً من نفس الموضوع هو إفساح المجال أمام (إسرائيل) للدخول والتغلغل في هذه الدول عبر الأقليات سواء القومية أم الطائفية أم العرقية، ولنا في أكراد العراق وشيعته مثال على ذلك، إذ إن الدولة المدمرة أو المفتتة أو التي يتم إضعافها عبر ورقة الأقليات سيكون من السهل على (إسرائيل) اختراقها كما حدث أيضاً في جنوب السودان.

إن تحجيم النفوذ يؤمن الاستفراد بالدول الواحدة تلو الأخرى دون أن يكون لها أي حليف أو نصير، وبالتالي فإن الملف يصبح أسهل والنتائج أضمن والإملاءات والشروط أكبر والتهديدات بالعقوبات والعمليات العسكرية في حال عدم التنفيذ أجدى.

ويمكن ملاحظة ذلك في ثلاث حالات واضحة وصريحة، منها:

1- السودان حيث تم عزله عن محيطه العربي وترك لوحده في مواجهة أميركا والقوى الدولية، وتم عزل مصر عن الملف إلى أن وصلت الأوضاع إلى ما وصلت إليه الآن وبعد فوات الأوان، ونرى التهديدات والعقوبات الأميركية والأممية واضحة لأي مراقب.

2- العراق وقد تم أيضاً عزله ومحاصرته وقصفه وتدميره وتحجيم نفوذه إلى أن وصل إلى ما هو عليه الآن من خراب ودمار وانهيار نتيجة عدم تنفيذ الإملاءات والشروط الأميركية.

الحوار والتقارب مع الإسلاميين من أجل استغلالهم:

فالولايات المتحدة تريد تغيير المنطقة وتعلم أن القوى الإسلامية هي المسيطرة على الشارع، وبالتالي لا يمكن القيام بأي تغيير يحظى بالمصداقية والاستمرارية إلا إذا تم الحصول على ختم الإسلاميين عليه من أجل شرعنته، وبناءً على ذلك فأميركا تحاول استغلال من تدعوهم بـ”المعتدلين” من أجل تمرير مخططاتها.

ومن هذا المنطلق فقد طرحت الإدارة الأميركية منذ مدّة ليست ببعيدة موضوع الحوار مع الإسلاميين على طاولة البحث والتمحيص، وتناولت العديد من مراكز الدراسات والفكر الأميركية هذا الموضوع، وكل من وجهة نظره الخاصّة، فيما لم تقف الإدارة الأميركية عند هذا الحد بل تعدّته لفتح قنوات اتّصال مباشرة وغير مباشرة مع شرائح من المسلمين.

هذا ولن نستطيع أن نرى من خلال الاستراتيجية الأميركية التي عرضناها أن المستهدف من الحوار هم المسلمون التقليديون الذين يوصفون بالمعتدلين داخل الإخوان والمتصوفة والشيعة، وأن الهدف من هذا الحوار بكل اختصار: استخدام هؤلاء المسلمين لضرب الأصوليين والاستغناء عنهم فيما بعد عند نجاح المهمة لصالح الحداثيين والعلمانيين أو ما يمكن تسميته بالإسلام الليبرالي الأميركي، وهذا ما من شأنه أن يوسع خيارات الولايات المتحدة في التعامل مع العالم الإسلامي واللعب على التناقضات دون أن ننسى ابتزازهم لأصدقائهم من الديكتاتوريات العربية بالتلويح بورقة الإسلاميين المعتدلين كبديل لهم لتقديم المزيد من التنازلات و”الانبطاحات”.

وقد نجحت تجربة الولايات المتحدة الأميركية وحتى الآن في الحوار مع الشيعة، سواء من فوق الطاولة أم من تحتها، وذلك واضح في العراق وله ذيول في إيران ولبنان أيضاً تتكشف بين الحين والآخر، أما المتصوفة فكانت البداية مذهلة معهم في تركيا إلا أنه يبدو أنهم أدركوا أنهم لم يكونوا المتصوفة الذين يرجونهم.

وعلى العموم فإنه لا يمكن فهم التصريحات الأميركية التي نقلت في الآونة الأخيرة من أن (وزيرة الخارجية) كوانداليزا رايس كشفت عن اقتناع الولايات المتحدة بأهمية التحاور مع الإسلاميين في المنطقة العربية، وأنها لا تخشى من وصول تيارات إسلامية إلى السلطة، وأن رايس لم تكن وحدها التي صرحت بهذا، فقد قال ريتشارد هاس (مدير إدارة التخطيط السياسي بالوزارة نفسها): إن الولايات المتحدة لا تخشى وصول تيارات إسلامية إلى السلطة لتحل محل الأنظمة القمعية العربية التي “تتسبب بتكميمها الأفواه في اندلاع أعمال الإرهاب، شريطة أن تصل عن طريق ديمقراطي، وأن تتبنى الديمقراطية كوسيلة للحكم. إلا في إطار الاستراتيجية البرغماتية الأميركية والتي تتناقض مع ما توصل إليه البعض من أن الحوار مع الإسلاميين يعود إلى:

1- رغبة الأميركيين في التعرف على طبيعة هذه الحركات الإسلامية التي ظلت إلى عهد قريب مجهولة بالنسبة لها.

2- حاجة الولايات الماسة إلى تحسين صورتها في العالم الإسلامي بعد موجة الكراهية التي سادت، خاصة بعد الحرب على العراق وأفغانستان. (الجميع يعرف أن هذا النوع من الحوار يهدف إلى تصديع الصف الداخلي كما بيّنا واستغلال التناقضات، وليس من شأنه أن يحسن أي شيء من صورة الولايات المتحدة بل سيزيد من وصفها بالنفاق والاستغلال على اعتبار أنها تسعى لإبقاء صلة وصل مع الديكتاتوريات وهذه الحركات على حد سواء لاستخدام أي منها عند الحاجة).

الصفات الثابتة للاستراتيجة العسكرية الأميركية

هناك صفات ثابتة للاستراتيجية العسكرية والسياسية للولايات المتحدة بعد التدخل العسكري من أهمها ما يلي:

1- عندما تتدخل الولايات المتحدة الأميركية عسكرياً في أية منطقة لا تبالي كثيراً بالخسائر التي تلحق بقواتها أو التي تلحق بالطرف الآخر بمن فيهم المدنيون.

2- لا يمكن إنهاء الحرب عندما تبدأها الولايات المتحدة بسهولة ومهما طال أمدها، فحرب فيتنام استغرقت ثماني سنوات مثلاً. تمهد القيادات الأميركية للتدخل العسكري بحملات إعلامية مدروسة تهيئ الرأي العام العالمي والأميركي بشكل خاص وبما يبرر هذا التدخل أو ذاك.

إن أميركا هي الوريث التاريخي لسلاسة الاستعمار في الغرب، وهي تسير على خطا السابقين فمثلاً: نابليون بونابرت كما في (تاريخ الجبرتي) عندما احتل البلاد المصرية بادر بنشر بيان يقول فيه:

(بسم الله الرحمن الرحيم، لا إله إلا الله، لا ولد له ولا شريك له في ملكه، من طرف الفرنساوية المبني على أساس الحرية والتسوية، السر عسر الكبير أمير الجيوش الفرنساوية بونبارته، يعرف أهالي مصر جميعهم، أن من زمان مديد، الصناجق الذين يتسلطون في البلاد المصرية -أي المماليك-، يتعاملون بالذل والاحتقار في حق الملة الفرنساوية، ويظلمون تجارها بأنواع الإيذاء والتعدي، فحضر الآن ساعة عقوبتهم، وأخرنا من مدة عصور طويلة هذه الزمرة المماليك المجلوبين من بلاد الأبازة، والجراكسة يفسدون في الإقليم الحسن الأحسن الذي لا يوجد في كرة الأرض كلها، فأما رب العالمين القادر على كل شيء فإنه قد حكم على انقضاء دولتهم. يا أيها المصريون قد قيل لكم، إنني ما نزلت بهذا الطرف إلا بقصد إزالة دينكم، فذلك كذب صريح فلا تصدقوه، وقولوا للمفترين إنني ما قدمت إليكم إلا لأخلص حقكم من يد الظالمين…).

وعندما احتل البريطانيون مصر -بعد الفرنسيين- بدؤوا على الفور بإطلاق وعودهم بالانسحاب (بلغت 66 وعداً)، وأعلن غلادستون قائلاً: (بناء على رغبة الخديوي، فقد تبقى قوة بريطانية صغيرة في مصر تتحمل مسؤولية البلاد إلى أن تترسخ سلطته وتثبت وتتجاوز حدود الخطر!!) لكن القوات بقيت، ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى، تجرأ البريطانيون على تحويل “محميتهم المستترة” إلى محمية حقيقية وعلنية، ثم أعلنوا رسمياً في عام 1922م استقلال مصر، وفي عام 1936 أعلنوا إنهاء احتلالهم العسكري! إلا أن القوات البريطانية لم تغادر مصر فعلاً إلا في حزيران/ يونيو 1956م حين أجبرت على الوفاء بتعهداتها المتعددة والمتكررة بالانسحاب، أي بعد أربعة وسبعين عاماً من الغزو الأصلي!!

رئيس الوزراء البريطاني توني بلير خلال زيارته الأخيرة إلى أفغانستان جدد المعزوفة القديمة الجديدة لكل أنواع وأشكال الاستعمار القديم والجديد، وهي أن قواته لن تخرج ما لم تُنجز مهمتها، والسؤال البسيط والساذج الذي يطرحه الرجل العامي في شوارع هلمند وقندهار وكابول ومزار الشريف على بلير والبريطانيين بشكل عام: هل أنجز أسلافك البريطانيون مهمتهم في حروبهم الثلاثة المعروفة التي خاضوها في القرنين الماضيين مع الأفغان في الفترة الواقعة ما بين 1838م – 1919م؟

وهل أنجزتم مهمتكم في العراق الآن، بعد أن حولتم هذا البلد إلى مقابر جماعية تتقازم أمامها كل ما تتحدثون عنه من مقابر أقامها الرئيس العراقي السابق صدام حسين؟ ومهزلة المهازل هي أن هؤلاء الذين فعلوا كل هذا في العراق، يحاكمون الرئيس العراقي السابق، في حين هم من ينبغي أن يوضعوا خلف القضبان لمحاكمتهم كمجرمي حرب، ومشعلي فتن، وكل أنواع الجرائم التي عرفتها البشرية وما لم تعرفها.

وفي ( تاريخ العرب الحديث ، زاهية قدورة ، ص 132-133) عندما احتلت القوات البريطانية بغداد عام 1917م أصدر الجنرال مود منشوراً تاريخياً محاولاً التقرب من أهل العراق قائلاً: «إننا لم ندخل بلادكم أعداء فاتحين، إنما دخلناها محررين»!، ثم ذكرهم بما هم فيه من ظلم واستبداد منذ أيام هولاكو إلى أيام الحكم التركي. ومما قاله أيضاً: «إنها ليست أمنية جلالة ملكي بمفرده، بل إنها أمنيات الحكومات المتحالفة مع جلالته أيضاً أن تفلحوا كما في السابق، حينما كانت أراضيكم خصبة وكان العالم يتغذى من ألبان آداب أجدادكم وعلومهم وحرفهم، يوم كانت بغداد إحدى عجائب الدنيا»! ثم احتل الموصل مع الولايات التابعة لها التي كانت تابعة لفرنسا (حسب تخطيطهم)، على أن تأخذ فرنسا مقابل ذلك حصة من النفط، وهكذا أصبح العراق كله تابعاً لبريطانيا، فأذاعت الدولتان المتحالفتان -بريطانيا وفرنسا- في اليوم التالي بياناً أعلنتا فيه أنهما خاضتا الحرب بغية تحرير الشعوب من مظالم الترك، وإقامة حكومات وطنية باختيار المواطنين، وإشاعة العدل والمساواة وتطوير البلاد اقتصادياً وعلمياً، وجمع كلمة المواطنين التي كان قد فرقها الحكم التركي! وبينما كانت العهود والبيانات تتوالى كانت ترافقها عملية إبرام معاهدات سرية متناقضة ومطاطة، كانت هي الوسيلة التي استعملها الاستعمار في تحقيق أهدافه، أهمها: معاهدة سايكس بيكو، ووعد بلفور، ومؤتمر سان ريمو فيما بعد…

وسلك الإيطاليون نفس مسلك غيرهم عندما احتلوا ليبيا؛ فأصدروا منشورات تفيد اهتمامهم بمصلحة أهالي البلاد، وتسعى للتقرب منهم، وتعلن أن إيطاليا تود طرد الأتراك حفاظاً على مصالحهم! فقد أصدر قائد الحملة الجنرال كارلو كانيفا منشوراً باللغة العربية، بمثابة “إنذار” خاطب فيه المسلمين قائلاً: «إن إيطاليا لا تريد في الحقيقة سوى رضا العرب وتأمينهم على أحوالهم وأرواحهم؛ لأن حكومة رومة بمثابة الأم الرؤوم التي ترغب فقط أن تعلم العرب كيف ينشئون أولادهم ويربونهم، وكيف يصبحون أثرياء بفضل المخترعات الجديدة في الصناعة التي سوف يأتي الإيطاليون بها إلى ليبيا…»! وقد أعلن في هذا المنشور مهمته ورسم خطته وتودد إلى أهل البلاد، وخاطب سكان طرابلس والقيروان والبلاد الأخرى التابعة لها، محاولاً تقوية سلطته ومبرراً موقف دولته بآيات قرآنية، وواعداً الليبيين بحكام منهم يحكمون بالعدل والرأفة كما أوصت الآية القرآنية الكريمة: ( وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ) [النساء 58]!! ثم أخذ يؤكد عزمه على احترام الشرائع والتقاليد الدينية والحقوق والأشخاص، ثم أخذ يدعم وجود الطليان بآيات قرآنية.

ولكن هذا القائد الذي أصدر هذه المنشورات يتودد فيها إلى أهل البلاد، ارتكب الجرائم المروعة بحق المسلمين على أرض الواقع ؛ ومن أشنعها ما صنعه في 23 تشرين أول، أكتوبر، عام 1911 بأهل المنشية التي تقع شرقي مدينة طرابلس، فقد أعمل الإيطاليون في الأهلين السيف، وأوقعوا بهم مجزرة كبيرة لم ينج منها طفل أو شيخ أو امرأة، وأباح الجنرال (كانيفا) قائد الحملة البلدة ثلاثة أيام لجنوده حتى يبيدوا فيها المسلمين، وامتدت فظائع الطليان إلى غيرها، وتعوَّد الجند إطلاق الرصاص عبثاً ولهواً على الأهلين أينما صادفوهم لا ينجو من أيديهم أحد، هذا بالإضافة إلى ما ألصق من تهم كاذبة بالأهلين لتبرير استباحة البلد لجنود القائد ثلاثة أيام قتل خلالها ما بين 4 إلى 7 آلاف نسمة، ونفى حوالي 900 مسلم، وهتكت أعراض النساء، ثم أعدم المجاهدون جماعات جماعات دون تحقيق ودون محاكمة، وقتل كل من بلغ من العمر 14 عاماً. (المرجع السابق ، ص 425-427).

ويأتي أخيرًا (بوش) ليخاطب العراقيين في 2003م قائلاً: «سرعان ما ستعود حكومة العراق ومستقبل بلادكم إليكم، لسوف نُسقط نظاماً وحشياً بحيث يتمكن العراقيون من العيش في أمان، سوف نحترم تقاليدكم الدينية العظيمة، حيث مبادئ العدالة والرحمة جوهرية لمستقبل العراق، سوف نساعدكم على إقامة حكومة مسالمة ونيابية تحمي حقوق المواطنين كافة، ومن ثم ستغادر قواتنا العسكرية، سيسير العراق قدماً كدولة موحدة ومستقلة وذات سيادة بعد أن يستعيد مكانه اللائق في العالم، أنتم شعب طيب وموهوب ورثة حضارة عظيمة قدمت إسهامات لصالح كل البشرية!».

والآن وبعد انتهاء الحرب الباردة مازالت الاستراتيجية العسكرية والسياسية هي هي لم تتغير، ومازال مفهوم الحفاظ على الأمن القومي الأميركي يعني التدخل العسكري في أي مكان يحتاج الى التدخل العسكري، فلم تعد هناك أخطار كبيرة تهدد الوجود الأميركي، وإن كان ثمة أخطار فهي من الدرجة الثانية أو الثالثة مثل العراق وإيران وأفغانستان… وهي أخطار قليلة الأهمية ولا تهدد الوجود الأميركي بشكل كبير, ومع ذلك لم تخفِ القيادات الأميركية منذ انهيار الاتحاد السوفياتي مخاوفها من أن تتحول هذه الأخطار غير الكبيرة إلى أخطار كبيرة وخطيرة تهدد الوجود الأميركي. والمخاوف الأميركية تمركزت حول مايلي:‏

– الخوف من أن تفقد روسيا ودول الاتحاد السوفياتي السابق السيطرة على التركة النووية.‏

– الخوف من أن تتحول الصين نحو العداء للولايات المتحدة بدلاً من الاتجاه نحو التعاون معها.‏

– الخوف من وقوع أعمال إرهابية كبيرة على نمط تدمير برجي التجارة العالمية في نيويورك.‏

– الخوف من انتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل بما يهدد الأمن القومي الأميركي.‏

من هذا المنطلق يمكن القول إن الاستراتيجية الأميركية إزاء هذه الأخطار المستجدة تتجه إلى مايلي:‏

– عدم التخلي عن التدخل العسكري ولكن تحت شعار مكافحة الإرهاب الدولي, واعتبار هذا التدخل رسالة موجهة للعالم ليكون مع الاتجاه الأميركي، وبالتالي إشراك دول العالم في مكافحة الأخطار المستجدة, أي التخلص من أسلحة الدمار الشامل الذي قد يهدد الأمن القومي للولايات المتحدة الأميركية, ومن جهة أخرى كي تتحول دول العالم إلى شريك في مكافحة الإرهاب (المزعوم) وأعماله ووسائله وممارساته والمصنفين في إطاره.‏

– التخلي عن كثير من تقاليد الديمقراطية الأميركية داخل الولايات المتحدة الأميركية مثل التنصت على المكالمات الهاتفية بدون إعلام مسبق ومراقبة الرسائل وإخضاع الهيئات والجمعيات الإنسانية والدينية والخيرية إلى أنظمة مراقبة جديدة متشددة.. وغير ذلك من الممارسات التي تناقض مبدأ الديمقراطية والحرية الذي تعتز به القيادات الأميركية.‏

لقد نشر البيت الأبيض ما يسميه “الاستراتيجية الوطنية للنصر في العراق”: ترفض هذه الاستراتيجية وضع جدول زمني للانسحاب، وتوضح لماذا مهم الانتصار في العراق. وأن الإدارة الأميركية تحقق انتصاراً في العراق في المجالات السياسية عبر الانتخابات ووضع العراق على طريق الحكم الديمقراطي. وكذلك تنجح الاستراتيجية الأميركية في المجال الاقتصادي عبر إعادة بناء العراق واستعادته لقدراته النفطية والاقتصادية. وكذلك في البعد الأمني والعسكري، حيث وصل عدد القوات العراقية المؤهلة والمدربة إلى 212 ألف عسكري تسلموا 29 قاعدة. ويلعبون دوراً متصاعداً في العمليات العسكرية. وترفض وثيقة الاستراتيجية للنصر في العراق “الفشل بأنه ليس خياراً في العراق”. أولاً: الفشل سيحول العراق إلى أرض خصبة ومأوى ومقراً للإرهابيين وثانياً: إذا ما فشلت الاستراتيجية الأميركية، فإن ذلك يعني غياب العراق كنموذج يلعب دوراً مهماً لنشر الديمقراطية والحرية في دول المنطقة. وثالثاً: لأن الفشل في العراق سيؤدي إلى فوضى وحرب طائفية مع عواقب وخيمة للمصالح الأميركية في المنطقة ككل. وأخيراً تشرح الوثيقة أن الاستراتيجية الأميركية لديها 3 أهداف ومراحل.

1- الهدف القصير الأمد: يتضمن عزل العناصر المعادية ومحاربة الإرهابيين وتحييد المتمردين.

2- الهدف المتوسط الأمد: إدماج وإدخال من هم خارج العملية السياسية (السنة العرب)، وتقديم العراق كنموذج ملهم للإصلاحيين في المنطقة، وتحقيق قدرات العراق الإقتصادية.

3- الهدف البعيد الأمد: بناء مؤسسات وطنية مستقرة، وعراق مستقر يعمه السلام والأمن، وعراق موحد آمن وشريك في الحرب على الإرهاب. أهداف لا شك متفائلة لدرجة الأحلام.

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *