العدد 95 -

السنة الثامنة – شوال 1415هـ -أذار 1995م

في رحاب الوحي، في رحاب السنة

القرآن الكريم

قال تعالى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَانِي فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) البقرة: 186.

يرى كثير من المسلمين أن الدعاء هو وسيلة تحقيق أمور وإنجاز أعمال، ويعتقدون أن الدعاء يؤدي حتماً لتلبية الطلب وهذا شطط ما بعده شطط فنحن عباد الله، والعبد عندما يطلب ويسأل ويستعيذ فإن قرار الإجابة وكيفية الإجابة وتوقيت الإجابة كلها بيد الله رب العالمين فصدر الآية ذكر بقرب الله لعباده إذا هم أرادوا مسألة منه ومن هنا فإن جميع أدعية الرسول الواردة في صحيح البخاري وصحيح مسلم لا تبدأ بحرف نداء ولا بحرف تنبيه لأن حرف النداء للبعيد وحرف التنبيه للغافل أو من هو مظنة الغفلة، وجل الله تعالى الذي لا تأخذه سنة ولا نوع عن أن يكون بعيداً أو غافلاً عن حلقه، وهو سبحانه وتعالى يخبرنا أنه ليس فقط قريباً، بل وحياً وقيوماً يجيب دعوة الداع، وإجابة الدعوة لا تعني مطلقاً تلبية الطلب أي تحقيقه للطالب السائل. نحن على يقين قاطع بالدليل النقلي أنه سميع وبصير ورقيب وحسيب، وهو أيضاً قريب ويجيب دعوة الداع، أما ما هي إجابته، وهل ستكون تنفيذاً للمسألة أو للاستعاذة فهذا لا تحمله الكلمات ولا المعاني في الجزء الأول من الآية.

لكن الله سبحانه وتعالى في الجزء الثاني من الآية شاء أن يعلمنا بكفيفة الاستجابة وبشروطها، فكيفيتها إن أراد هو تحقيق المسألة أو الاستعاذة والرشاد، أي إرشاد العبد في أمره (لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ) أي هدايته إلى الأسباب التي تحقق المسببات، وشروط الدعاء حتى قبل إمكانية الاستجابة )وهي لا تعدو كونها إمكانية لقوله تعالى: (لَعَلَّهُمْ)( هي: الإيمان به حق الإيمان والاستجابة إليه حق الاستجابة لقوله سبحانه: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا) قبل قوله:(لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ). وإن من روائع هذه الآية الكريمة بحق أن بدأ موضوعها كان الأمل باستجابة الله تعالى لدعاء العبد، وإذا برب العزة سبحانه يحول العبد إلى وجوب استجابته هو أي العبد لله تعالى، لا بل جعل هذه الاستجابة من العبد سابقة للإيمان به، فالآية لم تقل: فليؤمنوا بي وليستجيبوا لي، بل قالت: (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا) ولهذا المعنى مثنى في آية أخرى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ) الأنفال: 24، ففي هذه الآية الأخرى أيضاً جعل الاستجابة سابقة لما يليها من منة الله على العبد بالهداية والرشاد وهو ما يحيي الإنسان. فجعل شرط هذا الإحياء بالهدى والرشاد استجابة العبد أي إقراره بألوهية رب العالمين وحقه علينا بالإقرار قولاً وعملاً واعتقاداً.

ولهذا فإن مفهوم الدعاء في الإسلام هو أنه عبادة بل مخ العبادة، والدعاء الحق في الإسلام هو الذي يبدأ بنية الاستجابة لله تعالى، ولا يبدأ بأنه مظنة الاستجابة من الله تعالى للعبد. ولهذا لا يدعو المسلم فقط عندما تكون له حاجة أو مسألة أو استعاذة، بل إن المؤمن يدعو باستمرار وينتظم في ذلك، كانتظام رسول الله صلى الله عليه وسلم في أدعيته قبل النوم وعند الاستيقاظ، وعند الانتهاء من الطعام، وعندما يلبس ثياباً جديدة، وعندما يذهب في سفر وعندما يعود منه، وفي حالات كثيرة ليس فيها حاجة معينة مفردة، بل كان دعاء الرسول الكريم عبادة منتظمة وتقرباً إلى الله، بل لعله المقصود بقول الله سبحانه: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا) الأحزاب: 41. فالدعاء عبادة، والعبادة لا بد لها من نية، ونية الدعاء هي الاستجابة لله، والإيمان بالله والإنابة إليه وليس استجابة الله للعبد.

والدليل العقلي أيضاً يقوم على ما علمناه إياه القرآن الكريم، فليس مما يعقل أن يعتقد أحد أن سؤال الأجير لمؤجر يجعل رب العمل يعطيه ما يسأل ولا سؤال العبد المملوك لسيده بحاجة من حاجات العبد سيجعل سيده يحقق له ما يريد، فكيف إذا كان المسؤول والمستعان هو الله تبارك وتعالى خالق هذا الكون وهذا الإنسان. أنفترض باطلاً وجهلاً أن عليه تلبية قائمة الطلبات، وسواء ما نحن فيه وما نحن نسأله أن يغيرنا إليه كلاهما في ملكوت الله وبإذنه وبأمره، فأنى لنا الاعتراض على حكمه، وأنى لنا أن نسأله فيما لا نعلم حكمته إلا كما يشاء وعندما يشاء؟

أوليس أيضاً حديث رسول الله e في تعجبه من أمر المؤمن ما يدخل الطمأنينة في القلب بأن الدعاء هو عبادة دائمة لله تعالى، عبادة منظمة في جميع الأحوال، عبادة هي بعينها ذكر الله ذكراً كثيراً، عن أبي يحيي صهيب بن سنان رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عجباً لأمر المؤمن، إن أمره كله له خير، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له»، أوليس الشكر دعاء لله حامدين شاكرين له؟ أوليس الصبر الجميل ذلك الذي لا جزع فيه ولا شكوى منه إلا – دعاء – لله؟ أيجوز بعد هذا أن يقتصر مفهومنا عن الدعاء على تفريج الكروب وزيادة الرزق وتلبية حاجات هذه الدنيا؟ أليست كلمة(الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) دعاء، وإقرارنا له أنه (الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) وأنه (مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ) دعاء.

تماماً كما قولنا في كل ركعة من كل صلاة (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ) بعد قولنا – دعاءاً وتضرعاً – (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ). أولم يعلمنا الله تعالى في كتابه الكريم وعلى لسان سيدي المرسلين آداب الدعاء؟. ولكن أنظر إلى النمط الممجوج من خطب الجمعة حيث تردد الأدعية الحاوية لقائمة من الحاجات في كل خطبة، أنظر إلينا ونحن نصرح – آمين – بعد ترداد الخطيب الرتيب الممل… ولا تدع لنا حاجة من حوائج الدنيا… ألا ينطبق علينا حينها قول الله تعالى: (وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) يونس: 12. ما الذي جعل الإنسان يدعو لكشف الضر عنه ثم إذا كشف الله ضره عنه، مر كأن لم يدع الله إلى ضر مسه. ما الذي جعله ممن وصفهم الله تعالى بالمسرفين. الأمر الوحيد الظاهر لتسميته بأنه من المسرفين هو أنه جعل دعاءه قصراً على تلبيه أول الآية نكره(ضُرٍّ مَسَّهُ) ثم بعد الإشارة إلى أنه تعالى كشف ذلك عنه، عرف ذلك بإضافته لذلك المسرف الداعي فقال: (عَنْهُ ضُرَّهُ) فهو ليس ضر الله بل ضر العبد وهو كان محور دعائه وجل همه من دعائه، وقد أجيب، ولكنه لم يستجب لله فكان من المسرفين وكانت الاستجابة حجة عليه لا حجة له والعياذ بالله.

إن المسلم المؤمن يدعو الله تعالى وهو موقن بالإجابة، واليقين هو شرط الدعاء، واليقين هو بالله تعالى، وبأننا عباده وفي ملكوته، وبأننا في سرائنا وضرائنا على السواء في دائرة قضائه. فاليقين المطلوب وهو شرط الدعاء هو في قوله تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ).

في رحاب السنة

عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» رواه البخاري ومسلم. وفي رواية لمسلم: «من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد». هذا الحديث بمنطوقه يدل على أن كل عمل ليس عليه أمر الشارع فهو مردود، ويدل بمفهومه على أن كل عمل ليس عليه أمره فهو مردود، والمراد بأمره هنا دينه وشرعه كالمراد بقوله في الرواية الأخرى «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد»، فالمعنى أن من كان عمله خارجاً عن الشرع أي ليس متقيداً بالشرع فهو مردود. وقوله: «ليس عليه أمرنا» إشارة إلى أن أعمال العاملين كلها ينبغي أن تكون وفق أحكام الشريعة، فتكون أحكام الشريعة حاكمة عليها بأمرها ونهيها فمن كان عمله جارياً حسب أحكام الشريعة موافقاً لها فهو مقبول، وما كان خارجاً عن ذلك فهو مردود.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *