العدد 51 -

السنة الخامسة – العدد 51 – ذو الحجة 1411هـ الموافق تموز 1991م

الحريات والخلافة في نظر الشيخ الغزالي

في مقالة أجرتها جريدة «الحياة» مع الشيخ محمد الغزالي نشرتها في (7 و9 و10 حزيران 91) يقول فضيلته: «بعد خمسين عاماً أو أكثر أمضيتها في الدعوة الإسلامية، أؤمن بالحريات. من الضروري أن تأخذ الأمة حريتها، مثل تلك الحريات الموجودة في إنكلترا والولايات المتحدة الأميركية وكل بلاد العالم الحر».

وسألته الجريدة: أثارت الأزمات التي يتعرض لها المسلمون في أنحاء العالم أحلاماً لدى الشعوب الإسلامية في أن تعود لهم دولتيهم، ويرى بعض المفكرين استحالة تحقيق هذا الحلم وسط المتغيرات والقوى الدولية المعاصرة.

وأجاب فضيلته: «من الناحية العقلية الأمة الإسلامية عددها يساوي عدد سكان الصين تقريباً أو أكثر قليلاً، فإذا كانت لها دولة واحدة فهذا أمر جائز لأن هناك دولة مثل تعدادها قائمة ولكنني لا أفضل ولا أرجح هذا، يخيّل إليّ لو أن الدولة تكونت على نحو من الأرض (الجغرافيا، والمصلحة) أي أن تكون أقاليم وأن يكون هناك مؤتمر يجمعها، ويبقى التنسيق بينها عملاً إسلامياً لا بدمنه. وأمين هذا المؤتمر تكون سلطاته أشبه بسلطات الخليفة قديماً ويُختار من الأمة الإسلامية.

نحن في مجلة «الوعي» نسمع ونقرأ كثيراً عن الديمقراطية والحريات وأنظمة الحكم وغيرها من شيوخ ومفكرين ولا نقيم كبير وزن لكلامهم. ولكن حين يصدر الكلام من عالم ومفكر مثل الشيخ محمد الغزالي فإن الأمر يصبح أخطر. ذلك أن كثيراً من المسلمين ينظرون إليه على أنه أحد أكبر المراجع في هذا الوقت. ومن هنا تصبح مسؤولية الشيخ أمام الله وأمام الناس أكبر.

نحن سنناقش (باختصار) كلام الشيخ استناداً إلى النصوص الشرعية. في الإسلام توجد نصوص ولا توجد (باباوية). فالكلام الذي يطلقه الشيخ بدون دليل لا قيمة له لأن قيمة الكلام تنبع من الدليل الشرعي وليس من شخصية المتكلم، فكيف إذا كان الكلام يتصادم مع الأدلة الشرعية؟!

وشهرة العالم لا تكون دائماً علامة خير في ميزانه، بل قد تكون عليه لا هل، وخاصة في الزمن الذي تسيطر فيه الأنظمة العلمانية التي تفصل الدين عن الدولة وعن شؤون الحياة، وتريد هذه الأنظمة من يصدر الفتاوى ليقنع الناس بالرضى بهذه الأنظمة. فكلما كان المعنى أكثر موافقة وانسجاماً مع الأنظمة كلما طارت شهرته في وسائل الإعلام وأصبح عَلماً يدعى لإلقاء المحاضرات وحضور الندوات، وتحظى مؤلفاته بالدعاية والتشجيع. ونحن نربأ بالشيخ الغزالي أن يكون ركيزة من ركائز هذه الأنظمة العلمانية أو أحد حُماتها.

حين يقول فضيلته: «أؤمن بالحريات» لم يأتِ بالدليل الشرعي من آية قرآنية أو حديث نبوي كدليل على إيمانه هذا. وحين فسّر «الحريات» التي يؤمن بها قال: «مثل الحريات الموجودة في إنكلترا والولايات المتحدة الأميركية وكل بلاد العالم الحر»!

الحريات الموجودة في إنكلترا وأميركا والعالم الحرب يلخصونها بأربع: حرية العقيدة، وحرية الرأي (الكلام) وحرية التملك، والحرية الشخصية. فيحق عندهم للشخص أن ينتقل من عقيدة إلى عقيدة، ومن دين إلى دين إلى لا دين كلما شاء. وحرية الرأي عندهم تسمح لشخص مثل سلمان رشدي أن يهزأ بالقرآن ويشتم محمداً r. وحرية التملك عندهم تسمح لهم أن يتملكوا بالربا والقمار وأن يمتلكوا الخمور والخنازير وأن ينفقوا على الرذائل والمحرمات. والحرية الشخصية عندهم تسمح لهم بالزنا واللواط واقتراف كل الرذائل.

فكيف تقول يا صاحب (الفضيلة) بهذه الحريات؟! وأنت لا تقول بها فقط بل أنت تؤمن بها!  كثير عليك هذا، يا شيخ محمد.

رُبَّ قائل يقول: (هو لا يقصد هذا). وجوابنا هو أننا لا نناقش قصده بل نناقش قوله. الكلام له معنى، والمعنى هنا واضح لا يحتمل تأويلاً. نحن لا نحمل كلامه ما لا يحمل، وحتى لو وجدنا لكلامه تأويلاً يحمله على محمل حسن لفعلنا عملاً بالحديث الشريف «التمس لأخيك عذراً» ولكنا لم نجد. وهذه ليست زلة لسان من شيخ بل هو يكررها ويشرحها ويضرب لها الأمثال، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

رجعنا إلى القرآن لنرى معنى الحرية التي جاءت في النصوص الشرعية فوجدنا لها معنى واحداً هو ضد العبودية أي ضد الرقّ. فقد وردت عبارة ]تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ[ خمس مرات في القرآن، ووردت كلمة (الحُرّ) مرتين في هذه الآية: ]كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ[.

إذاً في الإسلام يوجد (حرية) وليس (حريات)، والحرية في الإسلام هي ضد الرق. أما عند الغربيين فيوجد حريات ونحن نبرأ من الحريات الموجودة عند الغربيين والتي فُتِنَ بها من فُتِنَ من المسلمين.

أما اقتراح الشيخ حول شكل الخلافة في هذا الوقت فأمر آخر يصطدم مع النصوص. جاءت النصوص تعتبر المسلمين (جميع المسلمين في الكرة الأرضية على مدى الأزمنة) أمةً واحدة وأوجبت أن تكون لهم دولة واحد بإمرة خليفة واحد، وحرّمت النصوص أن يخرج على الخليفة أحد. وأي خروج أو انشقاق هو بغي لا يجوز أن يستمر ولو أدى الأمر إلى قتال البغاة وقتلهم. قال رسول الله r: «وأنه لا نبيَّ بعدي وستكون خلفاء فتكثر قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا ببيعة الأول فالأول» رواه مسلم. وقال r: «ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة قلبه فليطعه إن استطاع فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر» رواه مسلم. وقال r: «من أتاكم وأمركم جميع على رجل واحد، يريد أن يشق عصاكم، ويفرق جماعتكم فاقتلوه» رواه مسلم. وقال r: «فمن أراد أن يفرّق أمر هذه الأمة وهي جميع فاضربوه بالسيف كائناً من كان» رواه مسلم. وقال r: «إذا بويع لخليفتين فاقتلوا الآخر منهما» رواه مسلم.

هذه الأحاديث الصحيحة صريحة في فرضية جعل المسلمين تحت إمرة خليفة واحد، وهي صريحة في تحريم تمزيق المسلمين إلى دولتين أو إلى دول متعددة، سواء كان انقسام المسلمين عن تفاهم وتراض أو نزاع وشقاق. وقد فهم الأئمة الربعة (أبو حنيفة ومالك وأحمد والشافعي) رضوان الله عليهم من هذه النصوص وغيرها وجوب وحدة الدولة الإسلامية وأنه يحرم تعدد الدول في الأمة الإسلامية سواء عن تفاهم أو تخاصم. جاء في كتاب «الفقه على المذاهب الأربعة» ج 5/ ص 416 للجزيري ما يلي: «اتفق الأئمة رحمهم الله تعالى على أن الإمامة فرض، وأنه لا بد للمسلمين من إمام يقيم شعائر الدين وينصف المظلومين من الظالمين، وعلى أنه لا يجوز أن يكون على المسلمين في وقت واحد في جميع الدنيا إمامان، لا متفقان، ولا متفرقان».

هل رأيت يا فضيلة الشيخ أحاديث الرسول r، وهل رأيت كيف أن الأئمة متفقون في فهمهم لهذه الأحاديث. ثم تأتي أنت وتقول: «لا أفضل وأرجح هذا» وأنت تفضل وترجح أن يبقى المسلمون مقسمين إلى بضع وأربعين دويلة كرتونية «يكون هناك مؤتمر يجمعها» وأنت تكتفي بأن يكون هناك أمين لهذا المؤتمر تختاره الأمة الإسلامية. وهذا الأمين لهذا المؤتمر «تكون سلطاته أشبه بسلطات الخليفة قديماً».

استعمالك يا فضيلة الشيخ كلمة (قديماً) حينما قلت: «سلطات الخليفة قديماً» يُشعر كأنك تعتبر أن هذه الصيغة للخلافة أصبحت قديمة بحيث أنها تحتاج إلى تجديد، وأنت اقترحت الصيغة الجديدة

واقتراحك هذا يا فضيلة الشيخ يظهر أحد أمرين: إما أنك لا تعرف سلطات الخليفة في الشريعة الإسلامية (التي سميتها: قديماً)؛ وإما أنك لا تعرف واقع الدول وطبيعتها. مثلاً: بعض المسلمين منعوا الزكاة في عهد الخليفة الأول فجرد جيشه وقاتلهم حتى أخضعهم للشرع وللخليفة. فنحن نرى أن من سلطات الخليفة أن ينفذ أحكام الشرع على البلاد كلها حسب القانون الشرعي الذي يتبناه هو وليس حسب فهمهم هم. فهل يستطيع أمين المؤتمر أن يجرد جيشاً وأن يخضع متمرداً؟

هذه هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي، هل كانت أميركا تستطيع أن تستصدر منها قرارات وأن تجلب منها القوات والأموال لضرب العراق لولا أن أميركا بحد ذاتها عندها القدرة وحدها على تنفيذ الأمور في حال تخلفوا؟ ولو افترضنا أن الأمين العام للأمم المتحدة هو الذي أراد أن يتخذ قرارات أو أن يتصرف، هل بإمكانه أن يفعل شيئاً؟

اقتراحك يا صاحب الفضيلة يشبه من يقترح إعطاء الأرنب سلطات الأسد.

وعلى هامش نقدنا لآراء الشيخ الغزال نريد أن نذكر كلاماً يتكلم باسم «حركة النهضة التونسية». يقول: «إن الحركة الإسلامية في تونس أعلنت إيمانها بالديمقراطية وأمثالها لنتائج الانتخابات الحرة حتى لو أسفرت عن فوز الحزب الشيوعي بالسلطة». ويضيف: «إن المشروع السياسي للنهضة منذ الإعلان عنها عام 1981 يقوم على العمل لإحلال ديمقراطية كاملة في تونس». ويضيف: «حين يُسأل أحد قادة النهضة في العالم الإسلامي عن مميزات مشروعهم الإسلامي يقولون أنه كفاحهم لإقرار الحريات العامة في بلادهم».

وكل ما نريد أن نضيفه تعليقاً على هذا الكلام أنه ليس من الإسلام في شيء بل هو يتصادم مع الإسلام مباشرة، في وقت يتوهم قائله أنه يتكلم بالإسلام وأنه يحمل دعوة الإسلام.

نسألك اللهم العلم النافع والهدى وأن تجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وصحبه ومن تبعهم بإحسان واهتدى بهديهم إلى يوم الدين¨

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *