العدد 22 -

السنة الثانية – العدد العاشر – رجب 1409هـ، الموافق شباط 1989م

متى نعود إلى الله!

إن إيماننا المطلق أن تدهور حال المسلمين لن يتوقف إلاَّ بإيجاد السلطة الإسلامية الكفيلةمل الإسلام دعوةً ومنهاجاً كاملاً، إذ يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن، مع إيماننا بهذا نقول: لا بد أن يجد كل مسلم في نفسه الوازع الرادع الذي عبر عنه الله تعالى حين قال: (… وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ) (القيامة: 2).

إن هذه النفس التي لا تفتأ تلوم نفسها كلما بدرت منها خطيئة، هذه النفس لا بد أن تكون مُشْرَبةً بتعاليم الإسلام، مقتنعة بجدوى الحلول التي يطرحها. وحتى يتوفر هذا الأمر لا بد للمسلم أن يتخطى نقطة مهمة وهي اتخاذ الإسلام مجرد تقاليد موروثة أو نوعاً من «الفولكلور الشعبي». فهو كمن ذكر الله أنهم يقولون: ]إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) (الزخرف: 22) أي وجدناهم على دين معين فتبعناهم دون تحري دلائلهم.

في الكثير من مجتمعات المسلمين ـ وإن خلت من أهم مقوماتها ـ نجد أن الإسلام يتخذ ظاهرة عجيبة فالمسلم المتدين هو الذي يحمل المسبحة أو يطيل لحيته… ونراه في سائر مظاهر حياته بعيداً عن الإسلام، إذ أن الإسلام يمتاز عن سائر الأديان في أنه مجموعة من القوانين والأنظمة المنبثقة انبثاقاً كلياً عن العقيدة الإسلامية ومن هنا صحّ أن الإسلام مبدأ فهو عقيدة انبثق عنها نظام.

وللتعمق أكثر في فهم جوهر المشكلة نتذكر معاً أن المجتمع يقوم على عدة ركائز: الأفراد والأفكار والمشاعر والأنظمة. والذي يعوق اكتمال المجتمع الإسلامي حالياً هو الأفكار والأنظمة. أما الأنظمة فلا سبيل إلى ترسيخها إلا بعد إيجاد الدولة الإسلامية.

وأما الأفكار فهي التي يجب التركيز عليها وجعلها خاضعة للتصور الإسلامي دائماً.

وفي هذه السطور نطرح واقعاً أليماً هو السبب الأساسي في تدهور الفكر الإسلامي هذا الواقع نتلمس جوانبَ منه في قوله تعالى: ]وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً @ يَاوَيْلَتِي لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَنًا خَلِيلاً @ لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنْ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلإِنسَانِ خَذُولاً @ وَقَالَ الرَّسُولُ يَارَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا) (الفرقان: 27 ـ 30).

في هذه الآيات ـ إذا أمعنا في قراءتها ـ نجد سببين لتدهور المسلمين الفكري:

أولاً- أنهم تركوا نظام الإسلام وانكبوا على أنظمة وضعية ثم اتخذوا الزعماء المضلين أصناماً بشرية، أنداداً من دون الله. فإذا قال الزعيم فلان قولاً اتبعوه ولو خالف صريح القرآن والسنة بل ربما عمدوا إلى تأويل النصوص الشرعية لتوافق مذهب زعيمهم السياسي.

شهدنا ذلك مثلاً حين ادعت فئة من الفقهاء أن الإسلام هو عين الاشتراكية فباتت هذه الفئة تنظر إلى القرآن والسنة فما رأته يتفق والاشتراكية ـ في زعمهم ـ سلطت عليه الأضواء. أما ما ينقضُ أسس الاشتراكية فقد جهدوا في تأويله على غير وجهه وربما ادعوا أن هذا الحديث أو ذاك موضوع لمجرد أنه لم يلائم أهواءهم.

جاء في الأربعين النووية أن رسول الله ﷺ قال: «لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تَبَعاً لما جئت به» حديث صحيح مرويّ عن عبد الله بن عمرو.

الفكر الإسلامي يكون في استنباط الأحكام من النصوص الشرعية وإخضاع كل شيء للحكم لاشرعي لا لأهواء القادة المنحرفين عن المَحَجَّة البيضاء. كلما تقدم الزمن وتكشفت افتراءات هؤلاء قلنا: الآن وضح الحق فاتركوا أصنامكم، ولكن هذه الأقوال نادراً ما تجد القَبُول! أما آن للأصنام أن تتحطم.

ثانياً- إن المسلمين هجروا القرآن، نقولها بينما يقول عامة الناس: على النقيض من ذلك، ألا ترى أن القرآن يُقرأُ في المناسبات والموالد وعند الموت، ألا ترى أنه يُطبع وتوزع نسخاته بالآلاف ويسجَّل على اسطوانات… الخ.

لهؤلاء نقول ما قال ابن قيم الجوزية في تفسير الآية 30 من الفرقان:

«هجر القرآن أنواع:

أحدها- هجر سماعه والإيمان به.

والثاني- هجر العمل به وإن قرأه وآمن به.

والثالث- هجر تحكيمه والتحاكم إليه.

والرابع- هجر تدبره وتفهم معانيه.

والخامس- هجر الاستشفاء والتداوي به في جميع أمراض القلب.

وكل هذا داخلٌ في قوله تعالى: ]إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا). وإن كان بعض الهجر أهون من بعض».

أليس القرآن مهجوراً!!

فإن قيل: ليس على عامة المسلمين إثم في عدم تطبيق الإسلام لأن الوزر على حكامهم الذين يتبنّون أحكاماً ما أنزل الله بها من سلطان. إن قيل هذا، قلنا لهم: فأين إنكارهم لهذا الوضع وعملهم على تغييره ]إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ) (الرعد: 11). هل فعلوا؟ لا نرى إلاَّ أنهم أخذوا يتأقلمون مع واقعهم ويريدون أن يتأقلم الإسلام مع الواقع المرير. وهذا لن يكون.

ثم ما عذر المسلمين في الذي ذكره ابن القيم من هجر القرآن: هجر تدبره وتفهم معانيه!! والله يقول: ]أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا) (محمد: 24) ولم يقل: أفلا يقرأون. إن القراءة دون تدبر لا تكفي. المسلمون اليوم يستمعون إلى تلاوة القرآن وترى الخشوع على وجوههم ولكنه ليس خشوعاً بل هو كالأثر الذي يفعله الغناء والطرب في قلوب عاشقيه، لذلك ترى العبادات تتحول تدريجياً من عبادات أمر بها الإسلام إلى عبادات مبتكرة كالموالد النبوية التي تُحشى بالأناشيد الدينية مصحوبة بالدفوف وأدوات العزف. هذه الطريقة في التعبُّد أصبحت هي السائدة وهي المفضلة. قال ابن قيم الجوزية في مدارج السالكين (1/487):

تُليَ الكتابُ فأطرقوا، لا خيفةً

لكنه إطراق ساهٍ لاهي

وأتى الغناء فكالذباب تراقصوا

والله ما رقصوا من أجل الله

دُفٌّ ومزمار ونغمة شاهد

فمتى شهدت عبادة بملاهي

ثقل الكتاب عليهم لمّا رأوا

تقييده بأوامرٍ نواهي

وعليهم خفّ الغنا لما رأوا

إطلاقه في اللهو دون مناهي.

ولعمري، ما اشد انطباق البيت الرابع على المسلمين في أيامنا هذه، قراءة القرآن والاستماع إليه أمر ضروري، ولكن أن نجعله هو الغاية: هذا هو الخطأ. فقراءة القرآن وسماعه وسيلة إلى غاية أخرى وهي تفهم الأحكام لإقامة حكم الله في الأرض.

ولنتأمل في السلف الصالح كيف كان تعاملهم مع القرآن:

لقد أقام ابن عمر على حفظ البقرة ثماني سنين، ذلك أنه كان يحفظ ولا ينتقل من آية إلى آية حتى يفهم. وقال ابن مسعود: «كان الرجل منها إذا تعلم عشر آيات لم يجاوزهن حتى يعرف معانيهن والعمل بهنّ».

وقد وصف ابن عمر الفرق بين من يقرأ القرآن بتدبر ومن يقرأ دون تدبر بقوله:

«لقد عشنا برهة من الدهر وإن أحدنا يؤتى الإيمان قبل القرآن، وتنزل السورة فيتعلم حلالها وحرامها وأوامرها وزواجرها وما ينبغي أن يقف عنده منها. ولقد رأيت رجالاً يؤتى أحدهم بالقرآن قبل الإيمان فيقرأ ما بين فاتحة الكتاب إلى خاتمته، لا يدري ما آمره وما زاجره، وما ينبغي أن يقف عند…».

والمسلمون اليوم في أشد الحاجة إلى تدبر معاني القرآن لإعادة الحياة الإسلامية. يجب أن نطلق الصيحة تلو الأخرى لإفهام الناس معنى العبادة وكيفية العبادة. نجد مثلاً أن شخصاً يريد أن يتقرب إلى الله، وفي قريته الأيتام والأرامل والفقراء فهل يتصدق عليهم؟ لا. إنه يُشيدُ مسجداً ضخماً فإذا ما أتمَّ بناءَه وسمّاه باسمه رأيت المصلين لا يتجاوزون عدد أصابع اليد! ثم يقال: هذا العمل يخدم الدعوة الإسلامية!.

روى أحمد أبو داود والنسائي وابن ماجه وصححه ابن حبان عن أنس أن النبي ﷺ قال: «لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس بالمساجد». ولفظ ابن خزيمة: «يأتي على الناس زمان يتباهون بالمساجد ثم لا يعمرونها إلا قليلاً».

وقد روى أبو داود وابن حبان وصححه عن ابن عباس أن النبي ﷺ قال: «ما أُمرت بتشييد المساجد» أي برفع بنائها زيادة على الحاجة. وزاد أبو داود: قال ابن عباس: «لتُزَخرفْنَّها كما زخرفت اليهود والنصارى».

هذه لمحات عن الفهم الخاطئ لجزء من الحياة والأحكام: وهو العبادات، فما بالك بسائر جوانب حياتنا التي تشهد البعد عن الدين الحنيف. قال رسول الله ﷺ: «سيأتي على الناس زمان ما يبقى من القرآن إلاَّ رسمه ولا من الإسلام إلا اسمه، يتسمّون به وهم أبعد الناس منه. مساجدهم عامرة وهي خراب من الهدى. فقهاء ذلك الزمن شر فقهاء تحت ظلّ السماء، منهم خرجت الفتنة وإليهم تعود». رواه الحاكم في التاريخ عن عبد الله بن عمر، والطبراني والديلميّ.

في هذا العصر الرديء، نبحث عن الخلاص، ولا خلاص إلا في كتاب الله، فلنعد إليه، ولنبصر الحق ولنثبت عليه مهما كانت الصعوبات. أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال: «لا تزال طائفة من أمتي قائمة على الحق لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون».

اللهم اجعلنا من الذين إذا ذُكِّروا بآياتك لم يخروا عليها صمّاً وعمياناً. واجعلنا من الذين يتدبرون كتابك. واجعلنا من الذين اتخذوا مع الرسول سبيلاً. وصل اللهم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *