العدد 17 -

العدد الخامس – السنة الثانية – صفر 1409هـ، الموافق أيلول 1988م

حوار بين الشورى والديمقراطية

بقلم: د. علي أحمد مدكور

عن جريدة «الشرق الأوسط»

إن مفهوم الشورى في الإسلام هو أحد العوامل المنظمة لحركة الإنسان الحرة في الحياة. ولقد احتدم النقاش بين كتابنا الإسلاميين منذ زمن طويل حول أوجه الشبه والخلاف بين مصطلح «الشورى» في النظام الإسلامي، ومصطلح «الديمقراطية» في النظام العلماني الحالي. وكان الصراع بين كثرة ـ في حالة دفاع عن النفس ـ يحاولون أن يوجدوا لكل عنوان براق في الحياة الغربية مثيلاً في الإسلام، عن طريق عقد مقارنات شكلية لا تبدأ من الأصول والبنى التحتية التي تقوم عليها النظريات الحضارية ومصطلحاتها الخاصة. وغالبية هذا الفريق من المثقفين في العالم الإسلامي الذين يعيشون في إطار المنظومة الحضارية الغربية، وداخل مصطلحاتها، ولا يتصورون أن يتم العيش إلا بما نشأوا عليه.

وعلى الطرف الآخر يقف هؤلاء الذين يرون إننا يجب أن نختار مصطلحاتنا بالشكل الذي يساعدنا على تأكيد هويتنا، واسترجاع خصوصية حضارتنا المؤسسة على منهجية الإسلام ونظامه العام.

وأصحاب هذا الرأي الثاني يقيمون حجتهم من منطلقين متكاملين: المنطلق الأول، هو منطلق رباني، يرى أن الإسلام هو منهج الله للكون. وهو نظام متكامل لا يحتاج إلى «قطع غيار» من خارجه.

والمنطلق الثاني هو منطلق عقلي وعلمي. ولا شك أن كل حضارة لا بد أن تكون كلها «نظرية حضارية» أو أيديولوجية عامة أو «مذهبية» ذات منطلقات محددة مترابطة. وهذه النظرية الحضارية لا تتوضح قط إلا من خلال مصطلحاتها، فهي ومصطلحاتها متلازمتان لا تنفصلان، إلا إذا أردنا تفكيك تلك الحضارة وتغير خط سيرها وبنائها من جديد.

وتأسيساً على القاعدة السابقة، فإن القول بأن «الديمقراطية» في النظام العلماني هي «الشورى» في النظام الإسلامي، أو أنه من الممكن استخدام مصطلح «ديمقراطية» بإضافته إلى الإسلام، كأن نقول: «ديمقراطية الإسلام» يعتبر تسطيحاً شديداً للموضوع، وتعميماً غامضاً يحتاج إلى مقارنة موضوعية شاملة للأصول والبنى التحتية للنظم ولكل جزئياتها، لأنه يقطع المصطلح الحضاري من نظامه ويضعه بمقابلة مصطلح حضاري آخر، دون اعتبار لأصول النظام في كل منهما، ودون الالتفات إلى دراسة الجزئيات المترابطة التي يجمع بينها منطق واحد داخل كل نظام.

ومقارنة «الشورى» في النظام الإسلامي و«الديمقراطية» في النظم العلمانية، تظهر لنا فروقاً جوهرية منها أن النظام الإسلامي نظام رباني من صنع الله، فهو يقوم على أساس أن الحاكمية لله وحده، فهو المشرع وحده دون البشر. أما النظم الأخرى، ومنها تلك التي يمثل مصطلح «الديمقراطية» جزءاً في بنائها الحضاري فهي من صنع البشر، وتقوم على أساس أن الحاكمية للإنسان، فالإنسان هو الذي يشرع لنفسه بنفسه، وتبعاً لهذا فإن التشريعات والقيم في أصولها وفروعها في النظام الديمقراطي هي من صنع الإنسان. فالنظام العلماني الذي ينبثق منه مصطلح الديمقراطية هو النظام العلماني الذي يفصل الدين عن المجتمع والدولة. ومن ثم فالنظام الإسلامي لا يلتقي مع هذه النظم، لأنهما يقومان على قاعدتين متناقضتين في الأصل.

وإن «الشورى» جزئية في النظام الإسلامي العالمي النزعة، الذي ينظر إلى العالم على أنه وحدة متكاملة، ويرمي إلى ضم البشرية وقيادتها تحت لوائه متساوية متآخية متكاملة. كما «ينظر إلى الإنسانية على أنها وحدة في الجنس، والطبيعة والنشأة: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ) [الأنبياء: 107]، (إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ) [التكوير: 27]، (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران: 85].

أما «الديمقراطية» فهو حكم الشعب نفسه بنفسه. وكلمة «شعب» أو «أمة» هنا في هذا النظام تعني شعباً محصوراً في حدود معينة، في إقليم معين، تجمع بين أبنائه أواصر اللغة والجنس والعادات والتقاليد والمنطقة الجغرافية… إلى آخره. أي أن فكرة الديمقراطية مقترنة بالوطنية والقومية والعنصرية. وليس الإسلام كذلك، فلأنه رباني وعالمي فإن «الأمة» في الإسلام يرتبط أبناؤها برباط واحد، هو رباط العقيدة والسير وفق منهجه في الحياة، فهو عضو في أمة الإسلام بصرف النظر عن جنسه أو لونه أو وطنه: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13].

ولأن «الشورى» هي جزئية في نظام رباني، عاملي، فهي إذن جزئية في نظام يقوم على مبادئ وقيم ومعايير ثابتة وغير قابلة للتغير أو التناقض وهو نظام يقوم على الإيمان، ووحدة المصير: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48].

أما «الديمقراطية» فهي جزئية في نظم بشرية وقومية ومحلية، تحمل طابع البشر من الثبات والتغير، والنقص والكمال، والخطأ والصواب. ولكون النظام الإسلامي من عند الله، فهو كامل لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وإدخال أي عنصر غريب فيه يؤدي إلى سوء فهمه والانحراف عن مقصده.

كذلك فإن «الديمقراطية» جزء من نظام يؤمن «بالمواطنة» ويهتم بتربية «المواطن الصالح». هذا المواطن الذي يتحول ـ عندما يترك حدود وطنه ومصالح مواطنيه ـ إلى شخص آخر تتنازعه كل مشاعر الأنانية والقسوة والاستبداد. ويشهد بذلك واقع المستعمرات في آسيا وأفريقيا في الماضي والحاضر. أما «الشورى» فهي جزئية في نظام يؤمن بتربية «الإنسان الصالح» أياً كان موطنه. فالإنسان الصالح هو عنوان الإسلام أينما ذهب، وحيثما حل، وهو قدوة الآخرين في كل مكان. فلا عجب ـ إذن ـ أن ساد الإسلام وقاد البشرية نحو التقدم والرقي عندما كان المسلمون ـ بفكرهم وسلوكهم ـ قدوة معبرة عن منهج الله في واقع الأرض.

إن أهداف الديمقراطية في النظم الغربية هي أهداف نفعية خاصة ومتغيرة، لا تستند إلى قيم أخلاقية وإنسانية عامة وثابتة. فالقرارات الديمقراطية، قد تهدف إلى تحقيق سعادة شعب أو أمة وإنماء الثروة وكسب عناصر القوة عن طريق الضغوط والمؤامرات واحتلال الأراضي واحتلال العقول بقوة السلاح أو بقوة التآمر أو بهما معاً. فالمهم هو تحقيق الأهداف مهما كانت الوسائل. أما «الشورى» فهي جزئية في نظام يقوم على أساس الغايات الخلقية للأعمال، ولهذا فإن الوسائل لتحقيق هذه الغايات لا بد وأن تكون مشروعة وفق منهج الله.

ولكل ما سبق نقول، وهنا فروق كثيرة أخرى لم يتسع إيرادها لضيق المساحة، أن مضمون مصطلح «الشورى» في النظام الإسلامي يختلف عن مضمون مصطلح «الديمقراطية» في النظم الأخرى، اختلافاً جوهرياً، لأن كلاً منهما يتبع منظومة حضارية تتناقض مع الأخرى في المصدر وفي الوسيلة، وفي الغاية.

ومن ثم، فإن أردنا ـ نحن المسلمين ـ أن نستعيد هويتنا، ونسترجع خصوصية حضارتنا، فعلينا أن نتمسك باستخدام المصطلحات والمفهومات التي تمثل جزئيات متكاملة مع منهج الله ونظامه العام لحكم الحياة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *