العدد 31 -

العدد 31 – السنة الثالثة – ربيع الثاني 1410 هـ الموافق تشرين الثاني 1989م

ملة الكفر واحدة

يختلط على كثير من الناس فهم علاقة الإسلام بغيره من الأديان والمبادئ، ويحسبون أن الإسلام قد يلتقي مع النصرانية أو اليهودية في مواجهة الإلحاد، وينسون أن الكفر معسكر واحد ضد الإسلام، وأن الكفار جميعاً ـ نصارى ويهوداً وملحدين… ـ يجتمعون صفاً واحداً حين تكون المعركة مع الإسلام، ونسوا كيف تعاون أهل الكتاب مع مشركي  مكة على حرب الرسول ﷺ. وكيف مكر اليهود بالإسلام والمسلمين منذ أن وجد الإسلام ولا يزالون يمكرون، وكيف تآمرت بريطانيا وفرنسا وغيرهما من الدول الصليبية على دولة الخلافة حتى هدمتهما ومزقت بلاد المسلمين وسممت أفكارهم، ونسوا الحملات الصليبية، ونسوا إخوانهم في الأندلس الذين أبيدوا إبادة على يد النصارى هناك… إذا نسوا كل هذا فهل نسوا قوله تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنفُسِهِمْ) أو قوله تعالى: (مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ) [البقرة: 105] أو قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتْ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمْ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ * هَاأَنْتُمْ أُوْلاَءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمْ الأَنَامِلَ مِنْ الغَيْظِ) [آل عمران: 118 ـ 119] أو قوله تعالى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120] أو قوله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ) [المائدة: 51] ولا نريد أن نسترسل أكثر في الآيات الكثيرة التي تحذر المسلمين من الاطمئنان إلى أهل الكتاب أو توليهم، بل نترك الكلام للشهيد سيد قطب رحمه الله مع هذه المقتطفات من الجزء السادس من المجلد الثاني من كتابه «في ظلال القرآن».

مقتطفات من «في ظلال القرآن»

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِم يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنفُسِهِمْ نَادِمِينَ * وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلاَءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ).

ويحسن أن نبيِّن أولاً معنى الولاية التي ينهى الله الذين آمنوا أن تكون بينهم وبين اليهود والنصارى… إنها تعني التناصر والتحالف معهم، ولا تتعلق بمعنى اتباعهم في دينهم. فبعيد جداً أن يكون بين المسلمين من يميل إلى اتباع اليهود والنصارى في الدين. إنما هو ولاء التحالف والتناصر، الذي كان يلتبس على المسلمين أمره فيحسبون أنه جائز لهم بحكم ما كان واقعاً من تشابك المصالح والأوامر، ومن قيام هذا الولاء بينهم وبين جماعات اليهود قبل الإسلام وفي أوائل العهد بقيام الإسلام في المدينة حتى نهاهم الله عنه وأمر بإبطاله، بعدما تبيِّن عدم إمكان قيام الولاء والتحالف والتناصر بين المسلمين واليهود في المدينة. وهذا المعنى معروف محدد في التعبيرات القرآنية. وقد جاء في صدد الكلام عن العلاقة بين المسلمين في المدينة والمسلمين الذين يهاجروا إلى دار الإسلام، فقال الله سبحانه (مَا لَكُمْ مِنْ وَلاَيَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا) وطبيعي أن المقصود هنا ليس الولاية في الدين، فالمسلم ولي المسلم في الدين على كل حال. إنما المقصود هو ولاية التناصر والتعاون. فهي التي لا تقوم بين المسلمين في دار الإسلام والمسلمين الذين لم يهاجروا إليهم.. وهذا اللون من الولاية هو الذي تمنع هذه الآيات أن يقوم بين الذين آمنوا وبين اليهود والنصارى بحال…

إن سماحة الإسلام مع أهل الكتاب شيء، واتخاذهم أولياء شيء آخر، ولكنها يختلطان على بعض المسلمين الذين لم تتضح في نفوسهم الرؤية الكاملة لحقيقة هذا الدين ووظيفته، بوصفه حركة منهجية واقعية، تتجه إلى إنشاء واقع في الأرض، وفق التصور الإسلامي الذي يختلف في طبيعته عن سائر التصورات التي تعرفها البشرية، وتصطدم ـ من ثم ـ بالتصورات والأوضاع المخالفة، كما تصطدم بشهوات الناس وفسوقهم وانحرافهم عن منهج الله، وتدخل في معركة لا حيلة فيها، ولا بد منها لإنشاء ذلك الواقع الجديد الذي تريده، وتتحرك إليه حركة إيجابية فاعلة منشئة.

وهؤلاء الذين تختلط عليهم تلك الحقيقة ينقصهم الحس النقي بحقيقة العقيدة، كما ينقصهم الوعي الذكي لطبيعة المعركة وطبيعة موقف أهل الكتاب فيها، ويغفلون عن التوجيهات القرآنية الواضحة الصرحية فيها، فيخلطون دعوة الإسلام إلى السماحة في معاملة أهل الكتاب والبر بهم في المجتمع المسلم الذي يعيشون فيه مكفولي الحقوق، وبين الولاء الذي لا يكون إلا لله ورسوله وللجماعة المسلمة. ناسين ما يقرره القرآن الكريم من أن أهل الكتاب بعضهم أولياء بعض في حرب الجماعية المسلمة، وأن هذا شأن ثابت لهم، وأنهم ينقمون من المسلم إسلامه، وأنهم لن يرضوا عن المسلم، إلا أن يترك دينه ويتبع دينهم. وأنهم مصرون على الحرب للإسلام وللجماعة المسلمة. وأنهم قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر… إلى آخر هذه التقديرات الحاسمة.

إن المسلم مطالب بالسماحة مع أهل الكتاب، ولكنه منهيٌّ عن الولاء لهم بمعنى التناصر والتحالف معهم. وإن طريقة لتمكين دينه وتحقيق نظامه المنفرد لا يمكن أن يلتقي مع طريق أهل الكتاب، ومهما أبدى لهم من السماحة والمودة فإن هذا لن يبلغ أن يرضوا له البقاء على دينه وتحقيق نظامه ولن يكفهم عن موالاة بعضهم لبعض في حربه والكيد له… وسذاجة أية سذاجة وغفلة أية غفلة، أن نظن أن لنا وإياهم طريقاً واحداً نسلكه للتمكين للدين أمام الكفار والملحدين! فهم مع الكفار والملحدين إذا كانت المعركة مع المسلمين!!!

وهذه الحقائق الواعية يغفل عنها السذج منا في هذا الزمان وفي كل زمان؛ حين يفهمون أننا نستطيع أن نضع أيدينا في أيدي أهل الكتاب في الأرض للوقوف في وجه المادية والإلحاد ـ بوصفنا جميعاً أهل دين! ـ ناسين تعلم القرآن كله؛ وناسين تعليم التاريخ كله. فأهل الكتاب هؤلاء هم الذين كانوا يقولون للذين كفروا من المشركين (هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنْ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً).. وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين شنوا الحروب الصليبية خلال مائتي عام، وهم الذين ارتكبوا فظائع الأندلس، وهم الذين شردوا العرب المسلمين في فلسطين، وأحلوا اليهود محلهم، متعاونين في هذا مع الإلحاد والمادية! وأهل الكتاب هؤلاء هم الذين يشردون المسلمين في كل مكان: في الحبشة والصومال وأرتيريا والجزائر.. ويتعاونون في هذا التشريد مع الإلحاد والمادية والوثنية في يوغوسلافيا والصين والتركستان والهند، وفي كل مكان!

ثم يظهر بيننا من يظن ـ في بعدٍ كاملٍ عن تقريرات القرآن الجازمة ـ أنه يمكن أن يقوم بيننا وبين أهل الكتاب هؤلاء ولاء وتناصر، ندفع به المادية الإلحادية عن الدين!

إن هؤلاء لا يقرؤون القرآن. وإذا قرأوه اختلطت عليهم دعوة السماحة التي هي طابع الإسلام فظنوها دعوة الولاء الذي يحذر منه القرآن. إن هؤلاء لا يعيش الإسلام في حسهم، لا بوصفه عقيدة لا يقبل الله من الناس غيرها، ولا بوصفه حركة إيجابية تستهدف إنشاء واقع جديد في الأرض، تقف في وجه عداوات أهل الكتاب اليوم، كما وقفت له بالأمس. الموقف الذي لا يمكن تبديله. لأنه الموقف الطبيعي الوحيد! (…)

وما يمكن أن يتمتع حسم المسلم في المفاصلة الكاملة بينه وبين كل من ينهج غير منهج الإسلام، وبينه وبين كل من يرفع راية غير راية الإسلام، ثم يكون في وسعه بعد ذلك أن يعمل عملاً ذا قيمة في الحركة الإسلامية الضخمة التي تستهدف ـ أول ما تستهدف ـ إقامة نظام واقعي في الأرض فريد، يختلف عن كل الأنظمة الأخرى، ويعتمد على تصور متفرد كذلك من كل التطورات الأخرى.

إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم، الذي لا أرجحه فيه ولا تردد، بأن دينه هو الدين الوحيد الذي يقبله الله من الناس ـ بعد رسالة محمد ـ وبأن منهجه الذي كفله الله أن يقيم الحياة عليه منهج متفرد، لا نظير له بين سائر المناهج، ولا يمكن الاستغناء عنه بمنهج آخر (…) ولا يعفيه الله ولا يغفر له ولا يقبله إلا إذا هو بذل جهد طاقته في إقامة هذا المنهج بكل جوانبه: الاعتقادية والاجتماعية (…) إن اقتناع المسلم إلى درجة اليقين الجازم بهذا كله هو وحده الذي يدفعه للاضطلاع بعبء النهوض بتحقيق منهج الله الذي رضيه للناس، في وجه العقبات الشاقة، والتكاليف المضنية، والمقاومة العنيدة، والكيد الناصب، والألم الذي يكاد يجاوز الطاقة في كثير من الأحيان.. وإلا فما العناء في أمر يغني عنه غيره مما هو قائم في الأرض من جاهلية… سواء كانت هذه الجاهلية ممثلة في وثنية الشرك أو في انحراف أهل الكتاب أو في الإلحاد السافر؟! بل ما العناء في إقامة المنهج الإسلامي إذا كانت الفوارق بينه وبين مناهج أهل الكتاب أو غيرهم قليلة، يمكن الالتقاء عليها بالمصالحة والمهادنة؟

إن بعض من لا يقرأون القرآن ولا يعرفون حقيقة الإسلام، وبعض المخدوعين أيضاً، يتصورون أن الدين كله دين! كما أن الإلحاد كله الحاد! وأنه يمكن أن يقف «التدين» بجملته في وجه الإلحاد. لأن الإلحاد ينكر الدين كله، ويحارب التدين على الإطلاق.. ولكن الأمر ليس كذلك في التصور الإسلامي ولا في حس المسلم الذي يتذوق الإسلام. ولا يتذوق الإسلام إلا من يأخذه عقيدة، وحركة بهذه العقيدة لإقامة النظام الإسلامي.

إن الأمر في التصور الإسلامي وفي حس المسلم واضح محدد.. الدين هو الإسلام.. لأن الله سبحانه يقول هذا. يقول: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإسْلاَمُ) ويقول: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ) وبعد رسالة محمد لم يعد هناك دين يرضاه الله ويقبله من أحد إلا هذا الإسلام في صورته التي جاء بها محمد (…) ووجود يهود ونصارى من أهل الكتاب بعد بعثة محمد ليس معناه أن الله يقبل منهم ما هم عليه أو يعترف لهم بأنهم على دين إلهي.. لقد كان ذلك قبل بعثة الرسول الأخر.. أما بعد بعثته فلا دين ـ في التصور الإسلامي وفي حس المسلم ـ إلا الإسلام.. وهذا ما ينص عليه القرآن نصاً غير قابل للتأويل.. إن الإسلام لا يكرههم على ترك معتقداتهم واعتناق الإسلام.. لأنه (لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ) ولكن هذا ليس معناه أنه يعترف بما هم عليه «ديناً» ويراهم على «دين»..

ومن ثم فليس هناك جبهة تدين يقف معها الإسلام في وجه الإلحاد! هناك «دين» هو الإسلام وهناك «لا دين» هو غير الإسلام.. ثم يكون هذا اللادين عقيدة أصلها سماوي ولكنها محرفة، أو عقيدة أصلها وثني باقية على وثنيتها، أو إلحاداً ينكر الأديان، تختلف فيما بينها كلها. لكنها تختلف كلها مع الإسلام. ولا حلف بينها وبين الإسلام ولا ولاء.

والمسلم مكلف أن يدعو أهل الكتاب إلى الإسلام كما يدعو الملحدين والوثنيين سواء. هو غير مأذون له أن يكره أحداً من هؤلاء ولا هؤلاء على الإسلام (…) ولا يستقيم أن يعترف المسلم بأن ما عليه أهل الكتاب ـ بعد بعثة محمد ـ هو دين يقبله الله، ثم يدعوهم مع ذلك إلى الإسلام!.. إنه لا يكون مكلفاً بدعوتهم إلى الإسلام إلا على أساس واحد: هو أنه لا يعترف بأن ما هم عليه دين، وأنه يدعوهم إلى الدين(…).

(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ).

(…) لقد كان هذا الاستهزاء واللعب يقع من الكفار، كما كان يقع من اليهود خاصة من أهل الكتاب، في الفترة التي كان هذا القرآن ينزل على قلب رسول الله للجماعة المسلمة في ذلك الحين. ولم نعرف من السيرة أن هذا كان يقع من النصارى.. ولكن الله سبحانه كان يضع للجماعة المسلمة قاعدة تصورها ومنهجها وحياتها الدائمة. وكان الله سبحانه يعلم ما سيكون على مدار الزمان مع أجيال المسلمين. وها نحن أولاء رأينا ونرى أن أعداء هذا الدين وأعداء الجماعة المسلمة على مدار التاريخ أمس واليوم من الذين قالوا: إنهم نصارى، كانوا أكثر عدداً من اليهود ومن الكافر مجتمعين! فهؤلاء ـ كهؤلاء ـ قد ناصبوا الإسلام العداء وترصدوه القرون تلو القرون، وحاربوه حرباً لا هوادة فيها، منذ أن اصطدم الإسلام بالدولة الرومانية على عهد أبي بكر وعمر ـ رضي الله عنهما ـ حتى كانت الحروب الصليبية؛ ثم كانت «المسألة الشرقية» التي تكتلت فيها الدول الصليبية في أرجاء الأرض للإجهاز على الخلافة، ثم كان الاستعمار الذي يخفي الصليبية بين أضلاعه فتبدو في فلتات لسانه، ثم كان التبشير الذي مهد للاستعمار وسانده، ثم كانت وما تزال تلك الحروب المشبوهة على كل طلائع البعث الإسلامي في أي مكان في الأرض.. وكلها حملات يشترك فيها اليهود والنصارى والكفار والوثنيون (…).

إن أهل الكتاب لم يكونوا ينتقمون على المسلمين في عهد الرسول وهم لا ينقمون اليوم على طلائع البعث الإسلامي، إلا أنَّ هؤلاء المسلمين يؤمنون بالله وما أنزله الله من قرآن، وما صدق عليه قرآنهم مما أنزله الله من قبل من كتب أهل الكتاب.. إنهم يعادون المسلمين لأنهم مسلمون! لأنهم ليسوا يهوداً ولا نصارى (…) إنهم يحاربون المسلمين هذه الحرب الشعواء التي لم تضع أوزارها قط، ولم يخبُ أوارها طوال ألف وأربعمائة عام، منذ أن قام للمسلمين كيان في المدينة، وتميزت لهم شخصية، وأصبح لهم وجود مستقل ناشئ من دينهم المستقل وتصورهم المستقل ونظامهم المستقل في ظل منهج الله الفريد. إنهم يشنون على المسلمين هذه الحرب المشبوبة لأنهم ـ قبل كل شيء ـ مسلمون ولا يمكن أن يطفئوا هذه الحرب المشبوبة إلا أن يردوا المسلمين عن دينهم… والله سبحانه يقرر هذه الحقيقة في صورة قاطعة، وهو يقول لرسوله : (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) ويقول له أن يواجه أهل الكتاب بحقيقة بواعثهم وركيزة موقفهم: (قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ).

أهل الكتاب يريدون اليوم تمييع هذه الحقيقة بل طمسها وتغطيتها، لأنهم يريدون خداع سكان الوطن الإسلامي ـ أو الذي كان إسلامياً بتعبير أصح ـ وتخدير الوعي الذي كان قد بثه فيهم الإسلام بمنهجه الرباني القويم. وذلك أنه حين كان هذا الوعي سليماً لم يستطع الاستعمار الصليبي أن يقف للمد الإسلامي فضلاً عن أن يستعمر الوطن الإسلامي.. ولم يكن بد لهؤلاء ـ بعد فشلهم في الحروب الصليبية السافرة أن يسلكوا طريق الخداع والتحذير، فيتظاهروا ويشيعوا بين ورثة المسلمين، أن قضية الدين والحرب الدينية قد انتهت وأنها كانت مجرد فترة تاريخية مظلمة عاشتها الأمم جميعها، ثم «تنوّر» العالم «وتقدم» فلم يعد من الجائز ولا اللائق ولا المستساغ أن يقوم الصراع على أساس العقيدة.. وإنما الصراع اليوم على المادة! على الموارد والأسواق والاستغلالات فحسب! وإذن فما يجوز للمسلمين أن يفكروا في الدين ولا في صراع الدين!

وحين يطمئن أهل الكتاب ـ وهم الذين يستعمرون أوطان المسلمين ـ إلى استنامة هؤلاء لهذا التخدير، وحين تتميع القضية في ضمائرهم، فإن المستعمرين يأمنون غضبة المسلمين لله وللعقيدة.. الغضبة التي لم يقفوا لها يوماً.. ويصبح الأمر سهلاً بعد التنويم والتخدير.. ولا يكسبون معركة العقيدة وحدها، بل يكسبون معها ما وراءها من الأسلوب والمغانم والاستثمارات والخامات ويغلبون في معركة «المادة». بعدما يغلبون في معركة «العقيدة»..

وفريق ثالث مستقل مخدوع، يناديه أحفاد «الصليبيين» في الغرب المستعمر: أن تعالوا إلينا، تعالوا نجتمع في ولاء، لندفع عن الدين غائلة الملحدين! فيستجيب هذا الفريق المستغفل المخدوع ناسياً أن أحفاد الصليبيين هؤلاء وقفوا في كل مرة مع الملحدين صفاً واحداً، حينما كانت المواجهة للمسلمين على مدار القرون وما يزالون! وأنهم لا يعنيهم حرب المادية الإلحادية قدر ما تعنيهم حرب الإسلام، ذلك أنهم يعرفون جيداً أن الإلحادية المادية عرض طارئ وعدوٌّ موقوت، وأن الإسلام اصل ثابت وعدوٌّ مقيم! وإنما هذه الدعوة المموهة لتمييع اليقظة البادئة عند طلائع البعث الإسلامي، وللانتفاع بجهد المستغفلين المخدوعين ـ في الوقت ذاته ـ ليكونوا وقد المعركة مع الملحدين لأنهم أعداء الاستعمار السياسيون! وهؤلاء كهؤلاء حرب على الإسلام والمسلمين.. حرب لا عدة فيها للمسلم إلا ذلك الوعي يربيه عليه المنهج الرباني القويم.

إن هؤلاء الذين تخدعهم اللعبة أو يتظاهرون بالتصديق، فيحسبون أهل الكتاب جادين إذ يدعونهم للتضامن والولاء في دفع الإلحاد عن الدين، إنما ينسون واقع التاريخ في أربعة عشر قرناً ـ لا استثناء فيها ـ كما ينسون تعليم ربهم لهم في هذا الأمر بالذات، وهو تعليم لا مواربة فيه ولا مجال للحيدة عنه وفي النفس ثقة بالله ويقين بجدية ما يقول! إن هؤلاء يجتزئون فيما يقولون، ويكتبون بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية التي تأمر المسلمين أن يحسنوا معاملة أهل الكتاب، وأن يتسامحوا معهم في المعيشة والسلوك، ويفضلون التحذيرات الحاسمة عن موالاتهم والتقريرات الواعية عن بواعثهم، والتعليمات الصريحة عن خطة الحركة الإسلامية وخطة التنظيم، التي تحرم التناصر، والموالاة، لأن التناصر والموالاة لا يكونان عند المسلم إلا في شأن الدين وإقامة منهجه ونظامه في الحياة الواقعية، وليست هناك قاعدة مشتركة يلتقي عليها المسلم مع أهل الكتاب في شأن دينه ـ مهما يكن هناك من تلاق في أصول هذه الأديان مع دينه قبل تحريفها ـ إذ هم لا ينقمون منه إلا هذا الدين، ولا يرضون عنه إلا بترك هذا الدين كما يقول رب العالمين..

إن هؤلاء ممن يجعلون القرآن عضين، يجزئونه ويمزقونه، فيأخذون منه ما يشاؤون ـ مما يوافق دعوتهم الغافلة الساذجة على فرض براءتها ـ ويدعون منه ما لا يتفق مع اتجاههم الغافل أو المريب!

ونحن نؤثر أن نسمع كلام الله في هذه القضية، على أن نسمع كلام المخدوعين أو الخادعين! وكلام الله سبحانه في هذه القضية حاسم واضح صريح مبين..».

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *