العدد 58 -

السنة الخامسة – العدد 58 – (رجب – شعبان) 1412هـ الموافق شباط 1992م

الاسراء والمعراج

هذا الموضوع مأخوذ من «تفسير القرآن العظيم» لابن كثير. وبعد أن يذكر الأحاديث المتعلقة بالاسراء والمعراج بمختلف الروايات يخلص إلى النتيجة التالية:

وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث صحيحها وحسنها وضعيفها يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله من مكة إلى بيت المقدس وأنه مرة واحدة، وإن اختلف عبارات الرواة في أدائه أو زاد بعضهم فيه أو نقص منه فإن الخطأ جائز على من عدا الأنبياء عليهم السلام. ومن جعل من الناس كل رواية خالفت الأخرى مرة على حدة فأثبت اسراآت متعددة فقد أبعد وأغرب، وهرب إلى غير مهرب ولم يتحصل على مطلب. وقد صرح بعضهم من المتأخرين بأنه عليه السلام أسرى به مرة من مكة إلى بيت المقدس فقط، ومرة من مكة إلى السماء فقط ومرة إلى بيت المقدس ومنه إلى السماء وفرح بهذا المسلك وأنه قد ظفر بشيء يخلص به من الاشكالات. وهذا بعيد جداً، ولم ينقل هذا عن أحد من السلف. ولو تعدد هذا التعدد لأخبر النبي به أمته ولنقله الناس على التعدد والتكرر. قال موسى بن عقبة عن الزهري: كان الإسراء قبل الهجرة بسنة. وكذا قال عروة. وقال السدي بستة عشر شهراً. والحق أنه عليه السلام أسرى به يقظة لا مناماً من مكة إلى بيت المقدس راكباً البراق، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين، ثم أُتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقىى فيها، فصعد فيه إلى السماء الدنيا ثم إلى بقية السموات السبع، فتلقاه من كل سماء مقربوها وسلم على الأنبياء الذين في السموات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مر بموسى الكليم في السادسة وإبراهيم الخليل في السابعة، ثم جاوز منزلتيهما عليه وعليهما وعلى سائر الأنبياء، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام، أي أقلام القدر بما هو كائن. ورأى سدرة المنتهى، وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة وغشيتها الملائكة. ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح. ورأى الجنة والنار، وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ثم خففها إلى حمس رحمة منه ولطفاً بعباده، وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها. ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة. ويحتمل أنها الصبح من يؤمئذ، ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس، ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه. والظاهر أنه بعد رجوعه إليه، لأنه لما مر بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً وهو يخبره بهم، وهذا هو اللائق، لأنه كان أولاً مطلوباً إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى. ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوانه من النبيين ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامه، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك. ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس. والله سبحانه وتعالى أعلم. وأما عرض الآنية عليه من اللبن والعسل أو اللبن والخمر، أو اللبن والماء أو الجميع فقد ورد أنه في بيت المقدس وجاء أنه في السماء. ويحتمل أن يكون ههنا وههنا لأنه كالضيافة للقادم، والله أعلم. ثم اختلف الناس هل كان الاسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط على قولين، فالأكثرون من العلماء على أنه أسرى ببدنه وروحه يقظة لا مناماً، ولا ينكرون أن يكون رسول الله رأى قبل ذلك مناماً ثم رآه بعده يقظة، لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح والدليل على هذا قوله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ) فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام، فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء، ولم يكن مستعظماً، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه، ولما ارتدت جماعة ممن كان قد أسلم، وأيضاً فإن «العبد» عبارة عن مجموعة الروح والجسد وقد قال: (أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *