المُشْتَبِهات
1993/01/08م
المقالات
5,567 زيارة
قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن الحلال بيّن وإن الحرام بيّن وبينهما مُشْتَبِهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبُهات استبرأ ليدنه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعى حول الحِمى يوشك أن يرتع فيه. ألا وإن لكل مَلِكٍ حمى، ألا وإنّ حمى الله محارمه، ألا وإنّ في الجسد مُضْغَةً إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب».
عظّم العلماء أمر هذا الحديث، لما فيه من الفقه، وعدوه رابع أربعة تدور عليها الأحكام. قال الشاعر:
عُمْدةُ الدين عندنا كلماتٌ
.
|
|
مُسْنَداتٌ من قول خير البَرِيّهْ
.
|
أتركِ الشُّبُهات وازهو ودَعْ ما
.
|
|
ليس يَعنيك واعملنْ بنيّهْ
.
|
وأشار ابن العربي أنه يمكن أن ينتزع منه وحده جميع الأحكام. قال القرطبي: لأنه اشتمل على التفصيل بين الحلال وغيره وعلى تعلق جميع الأعمال بالقلب.
وحيث أننا نعيش حالة «صحوة إسلامية» نرجو لها أن تتحول إلى نهضة حقيقية وقيادة عالمية، حريٌ بنا أن نعرض بعض ما في هذا الحديث الشريف من فوائد تتعلق بواقعنا.
يفهم من الحديث أن لكل شيء حكماً في شريعتنا، وليس هناك أمور في ذات نفسها مشتَبِهة لا بيان لها في جملة أصول الشريعة. فإن الله تعالى لم يترك شيئاً يجب فيه حكم إلا وقد جعل فيه بياناً ونصب له دليلاً. فقوله: «لا يعلمهن كثير من الناس» يعني لا يعلمون حكمها ولا يعني أن لا حكم لها. جاء ذلك واضحاً في رواية الترمذي ولفظه «لا يدري كثير من الناس أمن الحلال هي أم من الحرام». ومفهوم قوله: «لا يعلمهن كثير من الناس» يعني أن هناك من يعلم حكمها من الناس، وهؤلاء هم المجتهدون والعلماء.
أما الشبهة، فقد تحصل في نفس المكلَّف، فيشتبه عليه وصف الشيء أو حكم الفعل، وقد تحصل في ذات الشيء أو الفعل، وذلك لمجاورة الحلالِ والحرامَ أو مخالطته إياه أو شكه به؛ وقد تحصل من الناس في المكلف، وذلك لاشتباه الناس به أنه يعمل الممنوع شرعاً. وتفصيل كل ذلك:
أولاً: أن يشتبه في الشيء هل هو حرام أو حلال، أو في الفعل هل هو فرض أو حرام أو مكروه أو مندوب أو مباح. ووجود هذه الشبهة في وصف الشيء، أو في حكم الفعل لا يجيز له أن يقدم عليه حتى يتبين حكم الشرع فيها. سواء أكان ذلك بعد اجتهاد له، أم بعد معرفته حكم الإسلام فيها، إما من مجتهد، أو من عالم بالحكم.
ثانياً: أن يشتبه عليه أن يقع بالحرام من فعله المباح لمجاورته للحرام، ولكونه مَظِنة أن يؤدي إليه، كوضعه مالاً أمانة في مصرف يتعامل بالربا، أو بيعه عنباً لتاجر يملك معمل خمر، أو قراءته للكتب التي يكثر فيها الكلام عن المهيجات الجنسية، أو ما شاكل ذلك، فإن مثل هذه الأعمال مباحة وتجوز له أن يفعلها ولكن الأولى أن لا يفعلها تنزهاً من قبيل الورع.
فالحلال حيث يخشى أن يؤول فعله مطلقاً إلى مكروه أو محرم ينبغي اجتنابه. نقل ابن المنير عن بعض مشايخه أنه كان يقول: «المكروه عقبة بين العبد والحرام، فمن استكثر من المكروه تطرق إلى الحرام، والمباح عقبة بينه وبين المكروه فمن استكثر منه تطرق إلى المكروه». ولا يخفى أن المستكثر من المكروه تصير فيه جراءة على ارتكاب المنهي في الجملة، أو يحمله اعتياده لارتكاب المنهي غير المحرم على ارتكاب المنهي المحرم. فمن تعاطى بشكل دائم مكثف ما نُهي عنه يصير مظلم القلب لفقدان نور الورع فيقع في الحرام ولو لم يختر الوقوع فيه.
ولنأخذ للتدليل على ذلك ولتقريبه للذهن حالة شاب يدرّس فتاة درساً رتيباً ولو بوجود أبيها؛ وهو يقرأ كل يوم ما يثير شهوته، ويضع أمواله أمانة في بيت الربا، ثم يتوسع في أعماله الدنيوية المباحة حتى تأخذ كل وقته، إلى غير ذلك، وكله مباح له. لكن أيؤمن عليه أن لا ينظر إلى الحرام أو أن لا يضيع فرضاً؟! بل ربما أنه إذا صلى سيغلب على ذهنه وقلبه واقعُهُ حتى يكاد لا يعي من صلاته شيئاً. فإذا حصل له ذلك تجرأ على الحرام ولا بد. قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: : «ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام». قال النووي في شرحه لهذا الجزء من الحديث: «يحتمل وجهين أحدهما أنه من كثرة تعاطيه الشبهات يصادف الحرام وإن لم يتعمده وقد يأثم بذلك إذا نسب إلى التقصير والثاني أنه يعتاد التساهل ويتمرن عليه ويجسر على شبهة ثم شبهة أغلظ منها ثم أخرى أغلظ وهكذا حتى يقع في الحرام عمداً».
قال الشوكاني: «وفي اختصاص التمثيل بالحمى نكتة، وهي أن ملوك العرب كانوا يحمون لمراعي مواشيهم أماكن مخصبة يتوعدون من رعى فيها بغير إذنهم بالعقوبة الشديدة، فمثل لهم النبي صلى الله عليه وآله وسلم بما هو مشهور عندهم، فالخائف من العقوبة المراقب لرضا الملك يبعد عن ذلك الحمى خشية أن تقع مواشيه في شيء منه فبُعْدُهُ أسلم له، وغير الخائف المراقب يقرب منه ويرعى من جوانبه فلا يأمن أن يقع فيه بعض مواشيه بغير اختياره، وربما أجدب المكان الذي هو فيه ويقع الخصب في الحمى فلا يملك نفسه أن يقع فيه، فالله سبحانه هو الملك حقاً وحماه محارمه». فَمَنْ أكثرَ تعاطى الشبهات صادف الحرام وإن لم يتعمده، وقد يعتاد التساهل حتى يصل إلى الحرام. أعاذنا الله منه.
أما المخالطة والشك في الشيء أو الفعل فتقع على وجوه؛ منها:
1- أن يكون الأصل الإباحة ثم يحصل الشك، فيبقى الأمر على أصل الإباحة. كمن كان على وضوء ثم داخله شك فيبقى على أصل الطهارة حتى يحصل اليقين بزوالها.
2- أن يكون الأصل الحظر وإنما يستباح على شرائط وهيئات معلومة، فإنه يبقى على الحظر حتى يحصل ما يبيح. وذلك كاللحم يباح منه الشرعي ولا يباح منه الميتة، فإذا اختلطت مذكاة بميتات وجب الامتناع عن الكل.
3- أن يتردد الشك حتى يصل درجة الوسواس دون أن يكون لاحتمالات الشك موقع. وقد أفرد البخاري في كتاب البيوع لمثل هذه الحالة باباً سماه «باب من لم ير الوساوس ونحوها من الشبهات». جاء في كتاب «فتح الباري» ما نصه: «وهذه الترجمة معقودة لبيان ما يكره من التنطع في الورع… وغرض المصنف هنا بيان ورع الموسوسين كمن يمتنع من أكل الصيد خشية أن يكون الصيد لإنسان ثم افلت منه، وكمن يترك شراء ما يحتاج إلية من مجهول لا يدري أماله حلال أم حرام وليست هناك علامة تدل على الثاني». فمثل تلك الشبهات لا عبرة فيها، لأنها ليست شبهات أصلاً، بل هي توهمات وتخيلات. وهذا الوصف لا يعارض حديث: «دع ما يَريبك إلى ما لا يَريبك»؛ بل يوافقه لأن الريبة يجب أن يوجد ما يبررها وإلا فلا تعتبر.
وعليه، فكل ما شك المكلف فيه فالورع اجتنابه. وهو على ثلاثة أقسام: واجب ومستحب ومكروه. فالواجب اجتناب ما يستلزمه ارتكاب المحرم؛ وهو ما انطبق عليه قاعدة «الوسيلة إلى الحرام حرام». والمندوب هو ما كان من قبيل الورع المذكور في «ثانياً». والمكروه ما كان من قبيل التنطع والوسوسة التي لا مسوغ لها؛ كما هو مذكور في «3».
وينبغي أن يُعلم، أن الصحابة الكرام كانوا أهل الورع كله، فاستحقوا المكانة الرفيعة، والنصر المبين. قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «كنا ندع تسعة أعشار الحلال مخافة أن نقع في الحرام». ورُوي أنه رضي الله عنه وصله مسك من البحرين، فقال: وددت لو أن امرأة وزنت حتى أقسمه بين المسلمين، فقالت امرأته عاتكة: أنا أجيد الوزن؛ فسكت عنها، ثم أعاد القول فأعادت الجواب، فقال: لا أحببتِ أن تضعيه بكفة ثم تقولين فيها أثر الغبار فتمسحين بها عنقك فأصيب بذلك فضلاً على المسلمين. وكان يوزن بين يدي عمر بن عبد العزيز مسك المسلمين. فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة وقال: وهل ينتفع منه إلا بريحه لما استبعد ذلك منه.
أين ذلك من أفعال المتسلطين على رقاب المسلمين اليوم. بل أي منه سلوك بعض من يحمل الدعوة إلى الإسلام، لا ترى في سلوكه شيئاً من ذلك الورع. روى ابن ماجه أن رسول الله قال: «ليبلغ العبد درجة المتقين حتى يدع ما لا بأس به مخافة ما به بأس».
ثالثاً: هو اشتباه الناس بعمل مباح أنه عمل ممنوع، فيبتعد المرء عن العمل المباح خشية أن يظن الناس به الظنون، وذلك كمن يمر في مكان مشبوه بالفساد، فيظن الناس به أنه فاسد، فخشية أن يقول الناس عنه ذلك يبتعد عن المباح. وهذا المعنى فيه ناحيتان:
إحداهما: أن يكون الشيء الذي يشتبه الناس به أنه حرام أو مكروه هو بالفعل حرام أو مكروه. ومن قيام الشخص بالعمل المباح يفهم الناس أنه قام بالعمل الممنوع. ففي هذه الحالة يتقى الشخص العمل المباح خشية أن يظن الناس به، وإلا عليه أن يفسره لهم. عن علي بن الحسين رضي الله عنهما أن صفية بنت حيي زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم أخبرته أنها جاءت رسول الله تزوره وهو معتكف في المسجد في العشر الأواخر من رمضان فتحدثت عنده ساعة من العِشاء ثم قامت تنقلب فقام معها النبي يقلبها، حتى إذا بلغت باب المسجد الذي عند مسكن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وآله وسلم مر بهما رجلان من الأنصار، فسلما على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم نفذا، فقال لهما رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «على رسلكما إنما هي صفية بنت حيي». قالا: سبحان الله يا رسول الله وكبر عليهما ما قال. قال: «إن الشيطان يجري من ابن آدم مبلغ الدم. وأني خشيت أن يقذف في قلوبكما». ويفهم من هذا الحديث أن الرسول دفع الشبهة التي قد توجد عند صاحبيه مع أنه عليه الصلاة والسلام فوق الشبهات.
ثانيهما: أن يكون الشيء الذي يشتبه الناس به أنه ممنوع هو في الحقيقة غير ممنوع، ولكنه خشية أن يقول الناس فيه أقوالاً يبتعد عنه لقول الناس لا لأنه ممنوع. ومثل هذا النوع من الشبهة لا يصح الابتعاد عنه إذا كان من الواجبات. بل يقوم به على الوجه الذي أمر به الشرع، ولا يحسب للناس حساباً. وقد عاتب الله الرسول على ذلك فقال تعالى: (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ) مما يدل على أن المسلم إذا رأى أن الشرع يأمر بالشيء فليفعله ولو قال الناس جميعاً أنه ممنوع.
في لبنان ـ مثلاً ـ وغيره من بلاد المسلمين يظن كثير من الناس أن التحزب مذموم. لكن الدليل الشرعي يثبت أن التحزب على أساس الإسلام مطلوب، والتحزب للدعوة إلى الإسلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإعادة الخلافة الإسلامية الراشدة فرض كفاية. ففي هذه الحالة يتصرف المسلم وفق الحكم الشرعي، ويدعو الناس للتقيد بهذا الحكم، ولا يلتفت لغضب الغاضبين أو ظن الظانين .
1993-01-08