الدعوة إلى الاسلام (14)
1992/11/08م
المقالات
2,011 زيارة
والآن وبعدما أوضحنا بأن ما نصب من أدلة على وجوب وحدة العمل الاسلامي لا يرقى لاعتباره دليلاً، فإن هذا يعني أن الرأي الآخر وهو جواز تعدد جماعات العمل صار هو المشروع على اعتبار أن نفي الشيء هو إثبات لضده فهذا خطأ. فلا بد من أدلة منضبطة تبرز فيها صحة الاستدلال ودقة الاستنباط. فما هي هذه الأدلة؟
إن أدلة جواز الاختلاف في الفروع دون الأصول أي في الأحكام دون العقائد أكثر من أن تحصى. وقد دلت السنة على جواز الاختلاف في الفروع، واختلف الصحابة فيما بينهم على ذلكن وكذلك تابِعوهم، وكذلك علماء السلف. أما النهي عن الاختلاف فهو النهي عن الاختلاف الذي اختلفه الكفار فيما بينهم وكان اختلافاً في أصول الدين لا في فروعه كاختلافهم على أنبيائهم، واختلافهم في البعث والنشور، واختلافهم في الحياة والموت. واختلافهم في كتبهم، حتى أصبحوا شيعاً وأحزاباً ومِللاً ونِحَلاً ضاعت عن الحق الذي أنزله الله إلى أنبيائهم وأضاعوا أتباعهم عنه. (فاختلف الأحزاب من بينهم فويل للذين كفروا من مشهد يوم عظيم) فحذرَنا اللهُ من مثل هذا الاختلاف الذي اختلفوا.
والرسول صلى الله عليه وسلم أقر يوم الخندق فهْمَ الصحابة المختِلف لكلامه لهم: «لا يصلينّ أحد العصرَ إلا في بني قريظة». وقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر».
ويستدل من هذا الحديث:
-
أن المجتهد يخطئ ويصيب وليس كونه مجتهداً أنه لا يخطئ.
-
إن الحكم الذي استنبطه المجتهد يعتبر حكماً شرعياً ولو كان خاطئاً.
-
إن المجتهد الذي أخطأ لا يعلم أنه أخطأ، وإلا لما جاز له البقاء على خطئه بل يرجح عنده فهمه على غيره.
-
إن المجتهد مأجور عند الله سواء أخطأ أم أصاب. ولكن يختلف الأجر بينهما.
وكذلك أجمع الصحابة على أن الإثم محطوط عن المجتهدين في الأحكام الشرعية في المسائل الظنية من الفقهيات.
يقول القرطبي رحمه الله في تفسيره: (ما زالت الصحابة يختلفون في أحكام الحوادث وهم مع ذلك متآلفون) وقد نقل البغدادي في كتابه الفقيه والمتفقه ن عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه قوله: (ما سرني لو أن أصحاب محمد لم يختلفوا لأنهم لو لم يختلفوا لم يكن رخصة).
وقد أُلفتْ الكثير من المؤلفات لعلماء المسلمين الكبار تبين أسباب هذا الاختلاف:
منها أن الإنسان بطبيعته كإنسان يتفاوت الفهم عنده من إنسان لآخر. فالقدرات تختلف والأفهام تختلف من هنا كانت الاجتهادات والاستنباطات المختلفة منذ عصر الصحابة إلى عصرنا اليوم وستبقى إلى قيام الساعة، ومنها أن طبيعة الشرع تحمل المسلمين على الاختلاف وفي هذا رحمه لقول الرسول: «اختلاف أمتي رحمة».
-
فاختلاف القراءات يؤدي إلى اختلاف الأفهام. كل مجتهد يفهم بحسب قراءته. وذلك مثل الاختلاف في آية الوضوء: أهو الغسل أم المسح بالنسبة للقدمين.
-
اختلاف العلماء والفقهاء على بعض الأحاديث. فقد يكون الحديث صحيحاً عند فلان من العلماء أو الفقهاء ويكون عند غيره ضعيفاً بحسب طريقة العالم في قبوله الحديث أو رده. ولنأخذ على سبيل المثال الحديث المرسل: فقد اختلف المحدثون والأصوليون والفقهاء من أئمة هذه الأمة في الاحتجاج بالمرسل. فمنهم من يحتج به ويعتبره حجة ومنهم من لا يحتج به ويعتبره كالحديث المنقطع.
-
تعارض الأدلة وذلك أن يأتي نص بتحريم التداوي بالنجس وبما هو حرام كما في الحديث: «لا شفاء في نجس» ثم يأتي نص آخر أو فعل آخر يبيح التداوي بالنجس أو بما هو حرام، كإباحة لبس الحرير لعبد الرحمن بن عوف لحكة كانت به.
-
عدم وجود نص صريح في المسألة، فيكون سبيل معرفة حكم الله في المسألة هو الاجتهاد، والاجتهاد حكم ظني فيه قابلية الاختلاف.
منها اتساع اللغة العربية في مدلولاتها كوجود الاشتراك أو الحقيقة والمجاز، والمطلق المقيد، والعام والخاص، فطبيعة اللغة العربية التي نزل الوحي بها تحتمل ألفاظها وتراكيبها المعاني المختلفة والمدلولات المتعددة.
فقوله تعالى: (فليتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء) عن المطلقات. فكلمة قرء قد تعني لغة: الطهر وقد تعني: الحيضة. فأي المعنيين هو المقصود؟ وقد كان هذا سبباً في اختلاف الفقهاء حول هذا الموضوع.
وهذا بالنسبة للشريعة بشكل عام. فهل ينسحب ما ذكرناه على موضوعنا الذي نحن بصدده أم لا؟ أي هل جواز الاختلاف في الأحكام الشرعية والذي أقره الشرع يجيز تعدد الحركات أو الجماعات أو الأحزاب العاملة في التغيير، أم أن هذا الموضوع له أدلته الخاصة به والتي تخرجه عن الحكم السابق؟
الجماعة أو الحزب يقوم على فهم شرعي قد يتعدد، مثله مثل أي فهم شرعي آخر، إلا إذا كانت أحكام قطعية. والأحكام الشرعية التي تتبناها الجماعة هي أحكام شرعية اجتهادية وفيها قابلية الصواب والخطأ. ولا يجوز لمسلم أن يرى الخطأ في جماعة أن يعمل معها. بل ينصحها ويفتش عن الجماعة التي تبرأ ذمته أمام الله بالعمل معها. وكما قلت فإن طبيعة الناس وعلمائهم وطبيعة الشرع وطبيعة اللغة كلها تدل على جواز تعدد الأفهام وهذا ما يبرر وجود أكثر من جماعة. وهذا لا ضير فيه. طالما أنه لا يعدو أن يكون خلافاً في الفهم. ويصبح العمل مع الجماعة أو الحزب الأقرب إلى الصواب هو الواجب.
وكذلك فإن قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون).
فالأمر في هذه الآية منصب على وجوب إقامة جماعة منهم على الأقل ويكون عملها: الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. وليس المقصود من الآية وجود جماعة واحدة. وإلا لقال أمة واحدة، بل المطلوب هو جنس الجماعة التي يكون عملها الدعوة والأمر والنهي. وهذا الفرض هو فرض على الكفاية، ويتحقق وجوده بوجود جماعة واحدة. أما إذا وجدت أكثر من جماعة لتعدد أفهام العمل فلا شيء عليه. وهذا النوع من التعبير يتكرر في مئات الآيات والأحاديث. نحو:
حديث: «من رأى منكم منكراً فليغيره بيده…» فليس المقصود منكراً واحداً بل جنس المنكر.
وحديث: «من رأى منكم إماماً جائراً مستحلاً لحرم الله، ناكثاً بعهد الله، يحكم في خلق الله بالإثم والعدوان، ولم يغير عليه بقول أو عمل كان على الله أن يدخله مُدْخَله». فكلمة «إماماً» ليس المقصود بها إماماً واحداً ولكن كل إمام هذه صفته. وقوله ولم يغير عليه بقول أو عمل ليس المقصود قولاً واحداً أو عملاً واحداً. وإنما كل قول أو عمل يأخذ صفة التغيير عليه.
وقد ذكر أبو الأعلى المودودي (رحمه الله) في كتاب «مفاهيم إسلامية حول الدين والدولة» وتحت باب: فرضية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر: [فالظاهر من كل هذا أن التبعيض في آية (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير..) ليس بمعنى أن المسلمون مطالبون بأن تكون فيهم جماعة تقوم بواجب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أما بقية عامة المسلمين فليس بواجب عليهم القيام بهذه المهمة أصلاً، وإنما معناه أن من الواجب أن لا تخلو الأمة بأي حال من الأحوال من جماعة ـ على الأقل ـ تسهر على إنارة سراج الحق والخير ومكافحة ظلمات الشر وغوائل الباطل. فإنه إذا لم تكن فيها ولا جماعة كهذه فمن المحال لها البتة أن تسلم من لعنة الله وعذابه الشديد فضلاً عن أن تكون خير أمة أخرجت للناس]. انتهى قول المودودي.
وبناء على كل ما تقدم:
– إننا يجب أن نعلم جيداً أن الذي يقره الشرع هو الرحمة. وإذا تحول إلى نقمة فإن ذلك يكون بسبب سوء فهم المسلمين ليس إلا. انظروا إلى هذا الفقه الجليل من إمامين عظيمين من أئمة هذه الأمة، جاء في كتاب «شذوذ الذهب» أن تلاميذ الشافعي جاءوا إليه وشكوا إليه كيف يزور الإمام أحمد بن حنبل بينما هم يتخاصمون مع تلاميذه بسبب اختلاف آرائهما فقال لهم الشافعي (رضي الله عنه):
قالوا يزورك أحمد وتزره
.
|
قلت الفضائل لا تفارق منزلَهْ
.
|
إن زارني فبفضله أو زرته فلفضله
.
|
والفضل في الحالين لهْ
.
|
وحدث مثل ذلك بين تلاميذ الإمام أحمد وبينه فقال لهم:
إن نختلف نسباً يؤلف بيننا
.
|
علم أقمناه مقام الوالد
.
|
أو يختلف ماء البحار فكلنا
.
|
عذب تحدّر من إناء واحد
.
|
– من أراد أن يجمع المسلمين كلهم في عمل واحد فهذا، فضلاً عن غفلته عن واقع الشرع، وغفلته عن وقاع الناس فإننا نقول له كما قال الإمام مالك لهارون الشريد حينما أراد أن يتبنى فهمه ومذهبه ويلزم الناس أو يمنع فهم الآخرين: «لا تضيق على المسلمين ما وسعه الله عليهم».
– ويجب الانتباه هنا إلى أن الكافر المستعمر والأنظمة التابعة لها، فإنها عندما ترى على ارض الواقع جماعة أو جماعات تعمل جادة لإقامة حكم الله فإنه بالإضافة إلى استعمال أسلوب الغلظة معها والإشاعة عليها، سيعمد إلى إجهاض وتفشيل هذه الجماعات عن طريق إنشاء جماعات تابعة له. ولو فرضنا أن التعدد لا يجوز فهذا معناه أن الجماعة يجب أن تتوحد مع غيرها وستحوي بذلك الغث والسمين. والعكس في هذه الحال هو المطلوب. فإنه يجب اطراح الغث والإبقاء على ما ينفع الناس.
– لما كان هذا الطرح، أي وجوب وحدة العمل الإسلامي وعدم جواز تعدديته، يخالف واقع الشرع وواقع الإنسان وواقع اللغة التي نزل بها الوحي، فإن هذا يجعله طرحاً لا يمكن تحقيقه. ويبقى الكلام فيه ألْهية عن العمل الأهم، وهو العمل لإقامة الخلافة. والقول بأن الله لا ينصر المسلمين إلا إذا توحدوا هو تحكم غير مقبول. بل إن الله لا ينصر المسلمين إلا إذا تقيدوا بالشرع واعتصموا بحبل الله وقاموا بأمره. فإن الله ينصرهم وإن كانوا قلة. فالواحد على الحق كثير، والكثير على الباطل غثاء.
وبقي أن نقول كلمة في هذا الموضوع: وهي أن وجود خليفة، ووجود الدولة الإسلامية هي أهم مظهر من مظاهر توحد المسلمين، ولا يوجد توّحد خارجه. تبقى الأفهام مختلفة ولكننا مأمورون بطاعته. فالإمام يتبنى، وهو بتبنيه يرفع الخلاف ولا يمنعه أو يزيله. وأمره نافذ ظاهراً وباطناً على المسلمين. أما أمير الحزب فإن أمره نافذ ضمن حزبه ويرفع الخلاف بين أعضاء حزبه وليس بين عامة المسلمين.
(يتبع)
1992-11-08