العدد 66 -

السنة السادسة، ربيع الثاني 1413هـ، تشرين الأول 1992م

النظام الدولي الجديد (4)

بقلم: محمد موسى

خرجت روسيا من الحروب النابليونية قوة كبرى دعامتها جيش من مليون رجل عامل، يردفه احتياط من خمسة ملايين رجل، فأصبحت تشكل تهديداً محتملاً لتوازن القوى في أوروبا، وبخاصة بعد أن اعترى الدول الأوروبية الأخرى الضعف جرّاء الحروب النابليونية الطاحنة. والأهم من هذا أنها بعد أن قضمت الكثير من الدولة العثمانية، فاحتلت مناطق آسيا الوسطى المحيطة ببحر قزوين والبحر الأسود اعتبرت نفسها الوارث الوحيد للدولة العثمانية بما في ذلك السيطرة على المضائق. كما أخذت تتدخل في البلقان لاحتلاله أو لإقامة دول عملية لها بحجة صلة العرق والدين. كانت روسيا بعملها هذا، لو نجحت فيه تهدد مصالح بريطانيا الحيوية، لأنها كانت هذه ستضع الإمبراطورية البريطانية وطرق مواصلاتها تحت رحمة روسيا، فإذا كان يتوجب على الدولة أن تدخل في حرب مع الخصم عندما يهدد مصلحة حيوية لها، فإن ذلك التصرف على الدولة الأولى أوجب. ولذلك فإن بريطانيا، بينما كانت تقوم مع الدول الأوروبية الأخرى أو بعضها، تصد محاولات روسيا تصفية الدول العثمانية وتكف يدها عن التدخل في شؤونها، كانت تتحين الفرص للدخول في حرب واسعة مع روسيا، وكانت من أجل هذا تتصيّد حليفاً أوروبياً يشارك بقوات برية كبيرة. وأخيراً وجدت الحليف في شخص نابليون الثالث، إمبراطور فرنسا عندما نشب صراع بين روسيا وفرنسا على حماية الأماكن النصرانية المقدسة في الدولة العثمانية، وكان تقدير قيصر روسيا أن بريطانيا ستقف على الحياد. فشنت بريطانيا وفرنسا هجوماً على الأسطول الروسي في البحر الأسود وحطمتاه تحطيماً كاملاً، وهدمتا جميع القلاع الروسية على البحر الأسود فيما سمي بحرب القرم 1854 ـ 1856. وقد حاولت بريطانيا مدّ الحرب إلى منطقة بحر البلطيق لطرد روسيا منه، إلا أن نابليون الثالث الذي رأى أن الحرب كانت حرب بريطانيا وليست حرب فرنسا أصابه الملل فرفض ذلك. وفرضت الدولتان في مؤتمر باريس 1856 ـ 1858 شروطاً قاسية.

وكان تهديد روسيا للإمبراطورية البريطانية يتخذ شكلاً آخر. فقد كانت روسيا تحاول التقدم جنوباً عبر أفغانستان وإيران باتجاه المحيط الهندي والخليج العربي، وكانت روسيا بأعمالها هذه تهدد الهند، درة التاج البريطاني وأحد مراكز تنبه بريطانيا القوية، لكن بريطانيا كانت تصدها كلما حاولت التقدم.

لاقت الوحدة الألمانية هوى في نفس بريطانيا فنظرت بعين الرضا لتنامي القوة الألمانية. فألمانيا القوية، في نظر بريطانيا، ستكون دعامة قوية للتوازن في أوروبا فتقف في وجه جارتها روسيا على المسرح الأوروبي، وبخاصة بعد أن شاخت إمبراطورية النمسا ـ المجر التي كانت تعتمد بريطانيا عليها في حفظ التوازن. ولما أقامت ألمانيا حلفاً مع النمسا (الألمانية) أخذت بريطانيا تأمل في أن يجر ذلك الحلف ألمانيا للتورط في مشاكل البلقان ومشكلة الصراع على تصفية الدولة العثمانية، ذلك أن النمسا كانت تتقاسم السيطرة على البلقان مع الدولة العثمانية، فكانت تقف في مواجهة مباشرة مع روسيا الطامعة. ومن هنا فلم يكن عجيباً أن يجر هذا الحلف ألمانيا للوقوف مع النمسا في مواجهة روسيا.

لكن بسمارك كان له رؤية أخرى إذ كان يرى أن مصير ألمانيا يتقرر، بسبب موقعها بين جارتين قويين، في أوروبا. وبعد أن جرح عظمة فرنسا في حرب السبعين أخذت فرنسا تعمل للثأر من ألمانيا. ولما لم تكن لها قدرة على مواجهة ألمانيا فإنها لن تنازل ألمانيا إلا إذا وجدت حليفاً قوياً. وللاعتبارات السائدة عند ئذ فإن روسيا كانت الحليف الممكن، لذلك كانت سياسة بسمارك تتركز على عزل فرنسا وبخاصة عن روسيا، فكانت سياسته تقوم على الاحتفاظ بصداقة إحداهما دون تنفير الأخرى. فأقام معاهدة الضمان مع روسيا إلى جانب حلفه مع النمسا. ثم أقام حلفاً ثلاثياً بين ألمانيا والنمسا وإيطاليا ليقطع طريق فرنسا باتجاه إيطاليا. كان بسمارك يعلم قيمة النظام الدولي فكان يعمل تحت مظلته. ومن هنا كانت أحلافه دفاعية لتقوية النظام الدولي لا لهدمه ولا للتأثير على مركز الدولة الأولى. لقد ارتاحت بريطانيا لبروز القوة الألمانية لكنها أرادت أن تسخرها لحماية مصالح بريطانيا ولتقوم بمعارك بريطانيا نيابة عنها فكانت تريدها أن تقف مع النمسا في وجه روسيا في البلقان وفي الشرق الأدنى أو المسألة الشرقية كانت تعني في العرف السياسي عند ئذ قضية المضائق وتصفية الدولة العثمانية، وأن تكون عموداً من أعمدة توازن القوى في أوروبا. كان بسمارك يدرك ذلك، فكان يصدّ بريطانيا دون أن يكسب عداوتها أن يشعرها بالعزلة أو يدفعها للعزلة.

عندما اعتلى ولهلم الثاني عرش ألمانيا سنة 1889، كانت ألمانيا قد بلغت من القوة درجة تهدد معها وبها توازن القوى في أوروبا. وقد غضّت بريطانيا النظر عن ذلك على أمل أن تستطيع توجيه تلك القوة لضرب روسيا التي لم تتراجع عن تهديد مصالح بريطانيا الحيوية أو التطلع لذلك. وزاد أمل بريطانيا في هذا عندما صرف الإمبراطور مستشاره بسمارك من الخدمة لأن توجه بسمارك السياسي لم يكن يعجب الإمبراطور، وعندها أهمل الإمبراطور شأن روسيا فلم يقم بتجديد معاهدة الضمان معها والتي انتهت سنة 1891. أصيب الإمبراطور وعسكريّوه بغرور القوة فأخذ يحلم بمقاسمة بريطانيا المكانة الدولية. من أجل هذا أخذ ولهلم منذ توليه الحكم يسعى لجر بريطانيا للانضمام لحلفه الثلاثي مع النمسا وإيطاليا. ولما كانت بريطانيا مصممة على الدفاع عن المضائق من روسيا، وكانت لذلك بحاجة إلى حليف أوروبي قوي، كما هي عادتها، فقد أرادت أن يكون الحلف لمجابهة روسيا بشكل حازم وحاسم وليس لتغطية أوروبا. لكن ألمانيا التي بقيت تأخذ بسياسة بسمارك القاضية بعدم دخول ألمانيا الحرب من أجل المضائق وبالتالي تعريض وجودها في أوروبا للخطر، رفضت مطلب بريطانيا هذا. ويقول آخر، كانت ألمانيا تريد حلفاً يعطيها اليد الطولى في مشاكل الإمبراطوريات الاستعمارية، بينما كانت بريطانيا تريد توريط ألمانيا وحلفها في قضايا إمبراطوريتها فتجعل منها أداة لحفظ الإمبراطورية ومصالح بريطانيا الحيوية، ويقول ثالث، كانت ألمانيا تريد أوروبا لنفسها وتترك لبريطانيا الإمبراطورية خارج أوروبا، أي اقتسام المكانة والنفوذ مع بريطانيا، ومن غير أن تساعد بريطانيا في الحفاظ على المصالح الإمبراطورية البريطانية. هذا بينما كانت بريطانيا تريد العكس، فكانت تريد من ألمانيا الحفاظ على المصالح البريطانية الإمبراطورية دون أن تطلق يدها في أوروبا لأن ذلك لو فعلته كان سيؤدي في النهاية إلى زوال بريطانيا نفسها. ومن هنا كان من الطبيعي أن تصل المفاوضات بينهما إلى طريق مسدود.

أدى إهمال ولهلم شأن روسيا، وعدم تجديد معاهدة الضمان معها إلى فتح الباب أمام تقارب فرنسي روسي، وتلك فرصة انتظرتها فرنسا طويلاً. والغريب أن فشل الإمبراطور مع بريطانيا لم يدفعه لإصلاح ذات البين مع روسيا، فوقعت فرنسا وروسيا حلفاً أصبح نافذ المفعول سنة 1894.

بعد أن أخفقت مفاوضات ولهلم مع بريطانيا، أخذ يضغط عليها بالتعرض لمصالحها لإجبارها على الرضوخ لطلبه، دون أن يفرّق بين مصلحة حيوية ومصلحة ثانوية أو بين تهديد المصلحة الحيوية وضربها. وتنفيذاً لهذه السياسة أعلنت ألمانيا مع نهاية سنة 1897 عن البدء بتنفيذ برنامج أسطول بحري ضخم ينتهي سنة 1904 متجاوزة بذلك أحد الخطوط الحمراء التي رسمتها بريطانيا. وأخذ يشاكسها في قضايا المستعمرات فوقف في وجهها في قضيتي مراكش والبوير. وكانت ثالثة الأثافي عندما أخذت ألمانيا بالتفاهم مع الدولة العثمانية. فقد قام الإمبراطور ولهلم سنة 1898 بزيارة للسلطان عبد الحميد في دمشق، وأعلن من هناك أنه يمكن لثلاثمائة مليون مسلم أن يعتمدوا على صداقة ألمانيا. ونتيجة لهذا التفاهم تعهدت ألمانيا بتحديث الجيش العثماني، وحصلت على امتياز لمد خط حديد برلين ـ بغداد، وبذلك اتصل وسط أوروبا الألماني بالخليج العربي، مما يعتبر تهديداً للإمبراطورية البريطانية وطرق مواصلاتها. وبذلك تكون ألمانيا قد تجاوزت جميع الخطوط الحمراء البريطانية. ولما كانت روسيا تعتبر نفسها الوارث الوحيد للدولة العثمانية فقد أثار التفاهم الألماني العثماني قلقها c

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *