النظام الدولي الجديد (3)
1992/09/07م
المقالات
1,937 زيارة
العلاقات الدولية
بقلم: محمد موسى
مقدمة:
تحمل الدولة مصالحها وترعاها خارج حدودها بما يسمى بالسياسة الخارجية. ولذلك فإن السياسة الخارجية هي عبارة عن صياغة المصالح في كل متناسق، وتصنيفها في سلم أولويات إلى مصالح حيوية ومصالح ثانوية، ثم صياغة تلك المصالح في أهداف قابلة للتحقيق بوضع العلاقة السببية بين ما هو موجود وما يراد تحقيقه، وبيان كيفية حملها خارج الحدود للحلبة الدولية بدراسة أثر ذلك على مصالح الدول الأخرى وبالتالي على تلك الدول، ثم السير في التنفيذ وذلك بالتنسيق بين أدوات التنفيذ، والملاءمة بين قدرات الدولة والأهداف المطلوب تحقيقها.
ولما كانت الدولة ليست وحيدة على الحلبة الدولية وإنما تعيش في مجتمع دولي، ولما كانت المصالح التي تتبناها لنا مساس بمصالح الدول الأخرى فإن سياستها الخارجية ستصطدم بسياسات تلك الدول. ومن هنا فإن النجاح في السياسة الخارجية يقتضي دقة في صياغة المصالح ولأهداف، وفي كيفية تحقيقها. فكما لاءمت بين أهداف وقدرات الدولة فإنها تلائم بين قدرات الدولة ووسائل تنفيذ تلك السياسة، وأي خطأ في ذلك يؤدي إلى كوارث.
والنجاح في السياسة الخارجية يقتضي فهماً صحيحاً للعالم وللموقف الدولي وللعلاقات الدولية فيه. فمثلاً على الدولة أن تعرف الدول التي ستقف إلى جانبها، والدول التي ستقف ضدها والدول التي ستقف في الحياد، ومدى التزام تلك الدول بتلك المواقف ومدى سيرها فيها. ولا سبيل إلى ذلك إلا إذا كانت الدولة على وعي تام على مصالح تلك الدول لتحقيقها، ومدى التزام الواحدة منها بتعهداتها وارتباطاتها، وبخاصة أن الدول تقوم بالمناورات السياسية وتنصب الفخاخ الدولية.
وتضع كل دولة قراراتها على ضوء تصرفات الدولة الخصم الفعلية أو المتوقعة، لذلك فهي بحاجة إلى معرفة قرارات الدولة الخصم. غالباً ما تتوصل الدوائر السياسية في الدولة إلى معرفة قرارات الدولة الخصم من خلال ما يسمى بلعبة التخمين، فتتخذ قراراتها المضادة على ضوء نتيجة تخمينها. وهذا وجوهر صانع السياسة. فالسياسة تُعنى بالأوضاع التي يعتمد فيها اختيار طرف على ما يظن أن الطرف الآخر قد اختاره فعلاً أو أنه سيختاره في المستقبل. ودراسة السياسة إذن هي دراسة الخيارات والتصرفات المتبادلة الاعتماد لأطراف الصراع.
وصياغة التوقعات في لعبة التخمين تقوم على فهم أقوال الطرف الآخر وتصريحاته، وهنا لا بد من التفريق بين الأقوال التي تتم فعلاً عن حقيقة الموقف والأقوال التي قد يطلقها الخصم ذراً للرماد في العيون، أو المعلومات الخاطئة التي يقوم بتسريبها عن عمد. وقد تقوم على فهم أعماله وتحركاتهن وهنا أيضاً يجب التفريق بين الأعمال التي يقصد بها المناورة والأعمال التي يراد بها غايات حقيقة.
وقد جرت العادة على إسناد التصرفات لشخصيات معنوية فيها صفة الجماعة، فيقال أن الدولة قد قررت كذا. إنه وإن كان هذا مقبولاً في عالم الصحافة والإعلام، إلا أنه مرفوض في بحث السياسة. وغني عن القول إن الفرد هو الذي يضع الغايات ويرسم الخطط، ويقوم بالتصرفات لتحقيق تلك الغايات. فرأس الدولة أو أصحاب الاختصاص والصلاحية فيها هم المتصرفون. ومن هنا تأتي أهمية المعرفة الكاملة بالأشخاص المتصرفين: عقائدهم، مفاهيمهم، قيمهم، طريقة تفكيرهم وبالأولويات لديهم.
ولا بد من الإشارة إلى أن المعني بالتصرفات هنا التصرفات العقلانية الهادفة ذات القصد. وتكون التصرفات هادفة إذا كانت من أجل تحقيق غاية محددة. أما التصرفات العبثية غير ذات القصد فلا اعتبار لها ولا حكم. وترتبط صياغة الأهداف عادة بالظرف. وللمرء عادة سلسلة من الأهداف المتصاعدة وحتى المتباينة، واختيار أحدها إنما يكون حسب الظرف. ومن هنا فإن دراسة الظروف المحيطة بصاحب القرار أو المهيأة له، أو التي يمكن تهيئتها كالظروف الاقتصادية، والأوضاع الداخلية، تساعد على تخمين الهدف الذي يمثل خياره، وبذلك يمكن أن يضع خياره المضاد على ضوء ذلك التخمين. وقد تكون الأهداف الموضوعة على درجة كبيرة من التعقيد بحيث يصعب حل لغزها وتخمينها حتى بالبحث العميق والدراسة المستفيضة، مما يضطر إلى إطلاق بالونات اختبار للمساعدة على حل لغزها. وسيبقى الحكم على ما ستكون عليه تصرفات الآخرين المستقبلية يشكل المأزق الأبدي للسياسة الخارجية.
تطور العلاقات الدولية:
إذا ألقينا نظرة على المسرح الدولي اليوم نجد أن الدول الفاعلة فيه هي الولايات المتحدة وروسيا والدول الأوروبية: بريطانيا وفرنسا وألمانيا ثم الصين واليابان. ولما كانت سياسة اليوم إن لم تكن استمراراً لسياسة الأمس فنها غير منقطعة عنها. لذلك فإن البحث يقتضي استعراضاً موجزاً لتطور سياسات الدول الكبرى هذه وتطور علاقاتها.
لقد كان المسرح الأوروبي يمثل لقرون وحتى الحرب العالمية الثانية المسرح الدولي الأول، عليه تطورات الأعراف الدولية، ومنه خرج القانون الدولي والشرعية الدولية. وكان يتفرع عن هذا المسرح بعد استقلال الولايات المتحدة وانحسار الوجود الأوروبي في نصف الكرة الغربي مسارح فرعية يدور على وراثة البلاد الإسلامية ممثلة بالدولة العثمانية والبلقان، ومسرح الشرق الأقصى وكان يدور الصراع على الصين. وقد تبادلت الدول الأوروبية مركز الدولة الأولى، فقد تبوأته كل من النمسا وأسبانيا وفرنسا وبريطانيا التي نازعتها ألمانيا إياه في فترتي الحربين العالميتين. وقد تكسرت على المسرح الأوروبي سياسة توازن القوى التي أصبحت سياسة رسمية لدول أوروبا.
لا تتصل الجزر البريطانية بأوروبا إذ يفصل بحر الشمال وجنوبه بحر المانش بينهما. وقد أوجد هذا الموقع الجغرافي أعرافاً سياسية بريطانية منها، أولاً: أن تعتبر بريطانيا نفسها دولة غير أوروبية بل دولة عالمية فأدارت ظهرها لأوروبا ومشاكلها إلا في حالات معينة، وانصرفت لتجارتها واستعمارها في شتى أرجاء المعمورة. ثانياً: أن تكون قوّتها من قوة أسطولها البحري، به تحمي أرضها من العدوان الخارجي وبه تحمي تجارتها وطرق مواصلاتها مع مستعمراتها، فأعطته كل عنايتها، مما جعل منها الدولة البحرية الأولى. وقد اصبح من الأعراف السياسية البريطانية بل والعالمية أن يكون الأسطول البريطاني مساوياً لمجموع أسطولي الدولتين التاليتين، ومن خرج عن ذلك فقد هدد مصلحة حيوية لبريطانيا. وقد بقي هذا العرف سائداً حتى سنة 1921 عندما نصت اتفاقية واشنطن للقوى البحرية أن يكون الأسطول الأميركي مساوياً للأسطول البريطاني. وقد حتم عليها كونها دولة بحرية عالمية المصالح أن تحتل جميع المواقع البحرية الاستراتيجية، ومن هدد طرق مواصلاتها فقد هدد مصلحة حيوية لها. ثالثاً: أن يكون الحفاظ على توازن القوى في أوروبا سياسة عليا لبريطانيا لأن سيطرة دولة ما على أوروبا يمنحها من القوة ما يمكنها من غزو الجزر البريطانية. فكانت تتابع مصالحها الدولية وعينها على أوروبا، فإذا ما اختل ميزان القوى أو تعرّضت الأراضي المنخفضة وبخاصة بلجيكا ـ أقرب المواقع الأوروبية لبريطانيا ـ تدخلت. ومن هذا المنطلق كانت منطقة بحر البلطيق تحتل مركزاً بارزاً في السياسية البريطانية تدافع عنها أمام مطامع الدول الكبرى. ولما كانت أوروبا مصدر الخطر على بريطانيا، فقد أصبح التوجس من أوروبا والريبة في تصرفاتها عرفاً شعبياً وسياسياً في بريطانيا.
وتقع فرنسا في غرب أوروبا على بحر المانش، فهي دولة أوروبية بحرية، تَنازَعتها دوران، الدور الأوروبي والدول العالمي، فوزعت جهدها بين الدورين، بين القوات البرية والأسطول البحري مما أضعف منها في الدورين. وكدولة أوروبية فقد عاشت مشاكل أوروبا، عاشت آمال الهيمنة على أوروبا وآلام هزائمها فيها. صارعت الدول الأوروبية وصارعتها الدول الأوروبية مما استنزف الكثير من قدراتها. كانت تعمل على حفظ التوازن في أوروبا حفاظاً على وجودها نفسه، وكانت تعمل للهيمنة على أوروبا من منطلق سياسة العظمة، وقد برز ذلك بشكل جليّ في عهدي لويس الرابع عشر ونابليون. وقد ضعف دور فرنسا في أوروبا وضعفت آمال الهيمنة بعد الحروب النابليونية وبعد أن برزت كل من روسيا وألمانيا كدول عظمى من الدرجة الأولى.
أما الدور العالمي القائم على قوتها البحرية، فقد تمثل في التجارة والمستعمرات في أرجاء المعمورة. وكانت منافساً لبريطانيا لكنها لم تكن منافساً خطراً لأنها كانت تعترف بالخطوط الحمراء التي تضعها بريطانيا. وقد تشبثت فرنسا بهذا الدور لأنه يوفر لها غنائم الاستعمار ويحقق لها الشعور بالعظمة الذي يشكل عنصراً رئيسياً في السياسة الفرنسية.
أما ألمانيا فتقع في وسط أوروبا بين جارين كبيرين فرنسا من الغرب، وروسيا من الشرق. كانت تدرك أن مصيرها إنما يتقرر في أوروبا، فجعلت من نفسها قوة برية وحسْب، وأعطت جيشها كل عنايتها. ولما لم تكن تحميها من جارتيها القويتين حواجز طبيعية جعلت من جيشها ومن تمرسّه على فنون القتال درعها التي تحميها. كانت دويلات أوروبا الشرقية أو أقاليمها التي تفصلها عن روسيا متنفسّاً لها ومجالاً لنشاطها. أوجد بسمارك عرفاً سياسياً يتمثل في أن لا تحارب ألمانيا على جبهتين غربية وشرقية. وعندما أصبت بغرور القوة وأهملت هذا العرف منيت بالهزائم. لم تكن لألمانيا مطامع استعمارية، فكانت دولة أوروبية الموقع والانتماء والفطرة والمطامع. وما امتلكته من مستعمرات بسيطة كانت لإكسابها الهيبة في أوروبا. وقد حلمت كغيرها من الدول الأوروبية في السيطرة على أوروبا، ولكنها منيت، كغيرها من الدول الأوروبية، بهزائم مؤلمة.
تحتل روسيا على الخارطة الجغرافية مساحة شاسعة في كل من أوروبا وآسيا، تحيط بها دول عديدة. وقد شكل هذا الاتساع مقتلاً لها إبان ضعفها، فكانت تداهمها الغزوات من كل مكان، غير أن هذا الاتساع أصبح مصدر قوة لها بعد أن أصبحت دولة كبرى، فأعطاها القدرة على التوسع في جميع الاتجاهات. وتخلو روسيا من البحار الدافئة وشواطئها مما جعل منها قوّة برية كبرى. وقد دفعها هذا لأن تمتد شرقاً وجنوباً نحو المياه الدافئة. كانت روسيا دولة إقليمية كبرى تمد استعمارها في محيطها الإقليمي في أوروبا وفي الشرق على حساب البلاد الإسلامية والصين. وكان امتدادها في أوروبا دفاعياً لأنها كانت تخشى الدول الأوروبية التي كانت تغزوها إبان ضعفها وإبان قوّتها، فكانت تسعى لأن تجعل من دول أوروبا الشرقية والبلقان مناطق نفوذ ومناطق عازلة. ومع أن توسعها كان من قبيل الاستعمار الصرف، إلا أنها حاولت أن تجعل لنفسها رسالة إقليمية. ولما كان الروس من الجنس السلافي فقد جعلت من نفسها حامية للجنس السلافي. ولما فتح المسلمون القسطنطينية وانتقلت الكنسية الأرثوذكسية إلى روسيا، فقد جعلت هذه ممن نفسها إبان قوتها حامية للنصارى الأرثوذكس. ولما اعتنقت روسيا المبدأ الشيوعي، فأخذت تعمل على إيجاد الثورة العمالية العالمية، فقد انتقلت من الدور الإقليمي إلى الدور العالمي.
كان الموقف الدولي منذ الحروب النابليونية وحتى الحرب العالمية الثانية، بيد بريطانيا، تمارس فيه دور الحكم، وكان النظام الدولي نظامها، تمارس فيه دور الدولة العالمية، بينما كانت الدول الأوروبية تلعب أدواراً أوروبية أكثر منها عالمية. لذلك فإن استعراض بعض جوانب السياسة البريطانية وانعكاساتها في تلك الفترة يكفي لأخذ صورة عن تطور العلاقات الدولية حتى الحرب العالمية الثانية.
كانت بريطانيا تترك للدول الأوروبية أمر إيجاد التوازن في أوروبا بينما تتفرغ هي بكليتها لبناء إمبراطوريتها الشاسعة المترامية الأطراف، وكانت لا تتدخل إلا إذا تعرّض الميزان لاختلال بيّن فأصبحت الحرب وشيكة الوقوع أو نشبت فعلاً. وكانت تتدخل عند ئذ إلى جانب الطرف الأضعف لإعادة التوازن، أو تتدخل إذا تعرّضت الأراضي المنخفضة للاجتياح أو خطر الاجتياح ممن قبل دول أوروبية طامعة في السيطرة على أوروبا. ولم تكن تقيم الأحلاف مع أحد في أوروبا إلا عند التدخل. ولما كانت قوة بريطانيا في أسطولها، فقد كانت تفتش عن حليف أوروبي يقدم القوات البرية.
كانت تعتمد بريطانيا تقليدياً على النمسا في حفظ التوازن في أوروبا لتخلّيها عن حلم السيطرة على أوروبا، ولأنها كانت تعمل على الحفاظ على الوضع الراهن لتحافظ على تماسك إمبراطوريتها المتنافرة. ولما أصاب النمسا الوهن، رحبت بريطانيا ببروز ألمانيا كقوة من الدرجة الأولى لتكون دعامة رئيسية لتوازن القوى. وكانت تطمئن لدور ألمانيا لأن بسمارك كان يعمل تحت مظلة النظام الدولي، ولأن العداء كان قد استحكم بين ألمانيا وفرنسا بعد أن هزمت ألمانيا فرنسا في حرب السبعين، سنة 1870 هزيمة منكرة وأسرت الإمبراطور نابليون الثالث، وانتزعت من فرنسا الالزاس واللورين، وتوجت الإمبراطور ولهلهم الأول في قصر فرساي بباريس. أخذت فرنسا منذ ذلك الحين تفتش عن حليف قوي يمكّنها من الانتقام من ألمانيا. ولما كانت روسيا هي الحليف الممكن كان بسمارك يعمل على أن يترك روسيا لفرنسا، وكان هذا التوجه محور سياسة بسمارك.
كان استعمار بريطانيا للهند، درة التاج البريطاني، معلماً بارزاً في السياسة البريطانية وذا أثر كبير على العلاقات الدولية. فقد أقامت بريطانيا في الهند حكومة بريطانية سمّتها حكومة الهند، وأصبحت الهند بحادة إلى مجال حيوي ومناطق عازلة، واحتاجت بريطانيا لطرق مواصلات آمنة تربطها بالهند. كان من الطبيعي أن تفكر بريطانيا، من هذا المنظور، بضم الولايات الإسلامية شرق آسيا الصغرى إلى مستعمراتها، فأخذت تهيئ الظروف لتصفية الدولة العثمانية. كانت تقوم سياسة بريطانيا في هذا الشأن على إعطاء دول البلقان الاستقلال والإبقاء على دولة تركية قومية في آسيا الصغرى تشكل مع دول البلقان المستقلة منطقة عازلة تعزل الدول الأوروبية عن المشرق بعد أن تضم المنطقة العربية من تركية إلى الخليج العربي إلى مستعمراتها.وتصفية الدولة العثمانية حسب هذا المنظور كانت تقتضي أن تعزل بريطانيا الدولة العثمانية عن نفوذ الدول الأوروبية الأخرى، وأن تعمل على إضعافها. ولإضعاف الدولة العثمانية واستنزافها أخذت تعمل بريطانيا على تأجيج الثورة في البلقان العثمانية، وبإحياء روح القومية والوطنية والقبلية في الولايات المختلفة. وكانت تتقاسم حكم البلقان عند ئذ كل من الدولة العثمانية وإمبراطورية النمسا ـ المجر.
1992-09-07