العدد 310-311 -

السنة السابعة والعشرون ذو القعدة وذو الحجة 1433هـ، تشرين الأول وتشرين الثاني 2012م

تحديد مدّة زمنية لمنصب الخلافة ليس من الإسلام

بسم الله الرحمن الرحيم

تحديد مدّة زمنية لمنصب الخلافة ليس من الإسلام

أيمن صلاح – فلسطين

في ظل ما تشهده البلاد الإسلامية من ثورات، بدأ الغرب وأعوانه ينشطون في وضع بدائل للأنظمة الاستبدادية. وحيث إنهم يعلمون أن الأمة اليوم تتشوق لحكم الإسلام ونظام الخلافة فقد أصبح همُّهم أن يُدخِلوا تغييرات على مفاهيم الإسلام المتعلقة بالدولة وشكلها ونظام الحكم فيها، بحيث لا تبقى دولة إسلامية. ومن جملة ذلك أنهم طرحوا مسألة استبداد الحاكم كمشكلة تحتاج إلى علاج، وأخذوا يسألون عن الضمانات العملية التي تحول دون ظلم الحاكم واستبداده. وكان الجواب أن الحل –كما في النظم الديمقراطية- يكون بتحديد مدة ولاية الحاكم بمدة محددة، وتحديد عدد مرات ترشحه للولاية بمرتين أو ثلاثة، بالإضافة إلى مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث (التشريعية والتنفيذية والقضائية). وقالوا إن ذلك يستبعد استبداده، ويقلل من صلاحياته. وقالوا إن كان الحاكم صالحاً فلا خوف منه، ولكن إن كان غير ذلك فإن الأمة لن تعيد انتخابه بعد ظهور فساده لمرة ثانية.

 جَرْياً وراء هؤلاء قام مفكرون وعلماء مسلمون ببحث المسألة على نفس الأساس، أي جعلوا أساس البحث الضمانات العملية التي تحول دون ظلم الحاكم واستبداده. فبدأت فكرةُ (الحكم المؤقت) تُبحث كإحدى الضمانات، كما اعتبر كثير من المفكرين السياسيين المسلمين المعاصرين أن الفصل بين السلطات لا يتنافى أيضاً مع الفكر السياسي الإسلامي، نظراً لتغير الظروف البيئية, ومن منطلق المصلحة حسب رأيهم. وبدأت محاولةُ التأصيل الشرعي لهذه الأفكار. فقال بعضهم بجواز تحديد مدة زمنية لمن يتولى زمام السلطة، وقالوا إن الإسلام جعل السلطان للأمة، والخليفة وكيل عنها، فلها أن تشترط في عقد البيعة ذلك خصوصاً وأنه لم يرد في الشرع ما يمنع ذلك!!. أي أنهم وصفوا عقد البيعة بأنه وكالة وأنزلوا عليه أحكام الوكالة، ومنها أن الوكيل يجوز أن يحدد مدة الوكالة، وله أن يعزل وكيله.

ومن الواضح لأي متابع أن البحث لم يكن على أساس أنهم يريدون أخذ نظام الإسلام وتطبيقه بعد انهيار الأنظمة الجبرية، وليس على أساس أن هذه المسألة هي إحدى المسائل الجزئية في نظام الحكم يجب فهمها وبيان الحكم الشرعي فيها حتى يطبق نظام الحكم في الإسلام كاملاً. فالقول بتحديد مدة زمنية للرئاسة لم يأت نتيجة استقراء للنصوص الشرعية المتعلقة بعقد البيعة وطبيعة نظام الحكم الإسلامي؛ بل جاء هذا القول متأثراً بضغط الواقع الذي عاناه الناس في ظل أنظمة استبدادية لعقود. ومن واقع التجربة الأوروبية التاريخية في ثورتها على حكم الملوك وسلطتهم المطلقة التي لم تكن تستند إلى قواعد شرعية ثابتة، وذلك على اعتبار أنهم وكلاء عن الله في الأرض، فهم أصحاب السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية، والذي انتهى حكمهم بما يسمى نظام الحكم الديمقراطي، فكانت الرؤية والمعالجة التي قدمتها الديمقراطية كضمانة لعدم استبداد الحاكم هي فصل الدين عن الحياة، وتجريد السلطة من صلاحياتها وجعلها بيد الشعب الذي هو مصدر السلطات.

وليس طرح بعض المفكرين لفكرة تحديد مدة زمنية (للخليفة) في نظام الحكم الإسلامي إلا تقليداً وتأثراً لما وصلت إليه الديمقراطية من حل لإنهاء الحكم المطلق. وهذا واضح في قولهم أن عقد البيعة للخليفة وكالة، بناء على رؤية الديمقراطية للسلطة؛ فإعطاؤهم عقد البيعة صفة الوكالة ما هو إلا محاولة لتأصيل شرعي خاطئ لفكرة (الشعب مصدر السلطات) التي تقول بها الديمقراطية، والذي كان نتيجته القولُ بجواز تحديد مدة زمنية لمنصب الخلافة. ثم قالوا إن للأمة أن تفسخ العقد معه متى شاءت ذلك، لأن الوكيل لا يملك من التصرف إلا ما يقتضيه إذن موكله، من جهة النطق أو جهة العرف لأن تصرفه بالإذن. مما يعني أن الإمام حسب تصورهم لا يتصرف إلا وفق إذن موكله أي الأمة.

وحيث إن الناس قد عانوا ظلم وفساد الأنظمة منذ عقود، فقد انطلت عليهم فكرة وضع حدٍ لاستبداد الحاكم على اعتبارها المشكلة الأهم. وقد كان لهذه الفكرة صدى لدى كثير من المسلمين، من الأفراد والجماعات، وبدؤوا يسألون: هل يوجد مانع شرعي لتحديد مدة الرئاسة؟!. لذلك كان لابد من التذكير بالأحكام الشرعية المتعلقة بهذه المسألة، وإرجاع المسألة إلى الأساس الشرعي الذي يجب أن تُؤصَّل عليه.

وقبل الخوض في الحكم المتعلق بمسألة تحديد مدة الرئاسة لابد أن ندرك أن قضية المسلمين ومعاناة الناس ليست من عدم تحديد مدة الرئاسة، بل إن السبب الحقيقي لمعاناة الناس، سواء المسلمين منهم أم الذميين، هو عدم تطبيق الإسلام عليهم، وتطبيق الأنظمة الوضعية، ومنها الأنظمة الديمقراطية التي تهيئ الأجواء للحاكم لاستغلال التشريع كأداة للسيطرة السياسية. ولم تكن مدة ولاية الحاكم هي المشكلة، فالناس يعانون حتى في البلاد التي تطبق فيها الأنظمة الديمقراطية كما في تركيا وباكستان وإيران وغيرها. والغرب عندما يتحدث عن مشكلة الاستبداد يقصد بها انفراد الحاكم واستقلاله بالحكم دون الرجوع إلى مجالس تشريعية لأخذ التشريع والخضوع للمحاسبة. وحيث إن طرح مسألة أخذ التشريع من مجالس تشريعية كحل للاستبداد يعيد بحث قضية السيادة والحاكمية، وهي مسألة محسومة بأنها للشرع، وتعتبر ضمانة حقيقية لمنع الاستبداد السياسي، ولا يمكن للدعاة والمفكرين المسلمين أن يقولوا بغير ذلك، فقد عمد عملاء الغرب الفكريين إلى محاربة نظام الخلافة من خلال طرح مسألة تحديد مدة الرئاسة.

ولمناقشة هذه القضية لابد من الرجوع إلى فهم واقع الخلافة والبيعة من النصوص الشرعية، وليس على أساس حل مشكلة الاستبداد. وبالرجوع إلى نصوص الشرع نجد ما يلي:

أولاً: لا يجوز أن يقال إن تحديد مدة الخلافة لا يخالف الإسلام فلا مانع من أخذه.

 لا يقال ذلك لأنه لا يجوز أخذ أي نظام يعالج المشاكل البشرية إلا من الإسلام، فإن لم يكن هذا الأمر في الإسلام أي لم يأت به الإسلام، فهو من الكفر ولا يجوز أخذه، وإلا كان تحاكماً إلى الطاغوت، قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً}.  وفي الحديث المتفق عليه عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ فَهُوَ رَدٌّ»، وفي رواية أخرى عند مسلم عنها: «مَنْ عَمِلَ عَمَلًا لَيْسَ عَلَيْهِ أَمْرُنَا فَهُوَ رَدٌّ». هذا إذا افترضنا أن الأحكام الشرعية لم تعالج هذه المشكلة ولم تعطِ حكماً فيها، والحق أن الأحكام الشرعية لم تُغفل شيئاً، وهي تدل بوضوح على منع تحديد مدة الرئاسة كما سيأتي.

ثانياً: إن عقد البيعة للخليفة ليس عقد وكالة، وإن الخلافة هي عقد مراضاة واختيار لمن ينوب عن الأمة في السلطان وفي تنفيذ الشرع، وله أحكام تخالف أحكام الوكالة في المضمون والآثار المترتبة عليه.

 فالوكالة عقد غير لازم، فإنه يجوز لأي من الطرفين إنهاؤه، فللموكل أن يعزل الوكيل وينهاه عن التصرف الذي أمره به، كما أن للوكيل أن يعزل نفسه منها أيضاً. وفي الوكالة ينحصر عمل الوكيل بما وُكل به وليس له عموم التصرف والنظر. بينما عقد الخلافة عقد لازم لا خيار في حله من جهة المبايِع دون سبب يقتضيه، والبيعة تُكسِب الإمامَ التصرفَ العام والاستقلال التام بالنظر في رعاية شؤون الأمة، وتُلزِمُ المبايِع بالسمعِ والطاعة والتسليمِ لرأى الإمام ما لم يأمر بمعصية. وهذا باتفاق الفقهاء. ولذلك قال ابن خلدون في مقدمته في شرح معنى البيعة: «اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة، كأن المبايِع يعاهد أميرَه على أنه يُسَلم له النظر في أمر نفسه وأمور المسلمين لا ينازعه في شيء من ذلك، ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره».

فكون الشرع جعل السلطان للأمة لا يعني أن لها فسخ عقد البيعة متى شاءت الأمة ذلك، كما في عقد الوكالة. ومن الأحاديث التي تدل على أن البيعة عقد لازم ما رواه مسلم وأحمد وغيرهما عن ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ يَقُولُ: «مَنْ خَلَعَ يَدًا مِنْ طَاعَةٍ لَقِيَ اللَّهَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا حُجَّةَ لَهُ». وحديث الأعرابي المتفق عليه عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: «أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْإِسْلَامِ، فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى الْأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى. ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى. فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ. فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ، تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا».

ثالثاً: يجب أن يُوَفَّى عقد البيعة للخليفة ما دام قائماً بالحكم بالإسلام دون أي شرط متعلق بالمدة. فالنصوص الشرعية توجب الوفاء بعقد البيعة للخليفة بالسمع والطاعة له، وتحرم الخروج عليه ما دام الخليفة محافظاً على الشرع، منفذاً لأحكامه، قادراً على القيام بشؤون الدولة دون أي شرط آخر، ولا توجد في النصوص الشرعية أية دلالة أو إشارة إلى تحديد مدة الرئاسة للخليفة بزمن معين. فقد روى البخاري عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «اسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَإِنِ اسْتُعْمِلَ حَبَشِيٌّ كَأَنَّ رَأْسَهُ زَبِيبَةٌ»، ورواه مسلم والنسائي عن أم حصين بزيادة «يَقُودُكُمْ بِكِتَابِ اللَّهِ». وعن عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ قَال: دَعَانَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ. فكان فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةً عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ» متفق عليه. والأحاديث في هذا الباب لا يتسع المقام لبسطها وما ذكرناه طرف منها.

كما أن إجماع الصحابة رضوان الله عليهم دالٌّ على عدم تحديد مدة الخلافة، فإن الخلفاء الراشدين قد بويع كل منهم بيعة مطلقة، وكانوا غير محدودي المدة، وتولَّى كل منهم الخلافة منذ أن بويع حتى مات، فكان إجماعاً منهم على أنه ليس للخلافة مدة محددة، بل هي مطلقة.

ورغم أن الشرع جعل السلطان للأمة بأن تُنَصبَ الخليفةَ وتبايعه، إلا أنه لم يجعل لها حقَّ عزله. فلو أراد الناس أن يخلعوا الأمامَ بعد أن تُعقدَ له البيعةُ على الوجه الشرعي ودون سبب يوجبُ عزلَه فلا يجوزُ لهم، وليس عليه أن يستجيب لهم، وقد كانت هذه وصيةُ رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه، فعن عَائِشَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَرْسَلَ إِلَى عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ وقَالَ: «يَا عُثْمَانُ إِنْ وَلَّاكَ اللَّهُ هَذَا الْأَمْرَ يَوْمًا فَأَرَادَكَ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تَخْلَعَ قَمِيصَكَ الَّذِي قَمَّصَكَ اللَّهُ فَلَا تَخْلَعْهُ». يَقُولُ ذَلِكَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ. قالت عائشة: فَلَمَّا رَأَيْتُ عُثْمَانَ يَبْذُلُ لَهُمْ مَا سَأَلُوهُ إِلَّا خَلْعَهُ عَلِمْتُ أَنَّهُ مِنْ عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهم عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الَّذِي عَهِدَ إِلَيْهِ» رواه الإمام أحمد وابن ماجة والترمذي. ومعنى الوصية أنهم إن قصدوا عزلَك عن الخلافة فلا تعزل نفسك عنها لأجلهم لكونك على الحق وكونهم على الباطل.

وفي هذه المسألة قال إمام الحرمين الجويني رحمه الله في الغياثي (غِياثُ الأمم في التياث الظُّلم): (الإمام إذا لم يَخْلُ عن صفات الأئمة فرام العاقدون له عهداً أن يخلعوه، لم يجدوا إلى ذلك سبيلاً باتفاق الأمة؛ فإنَّ عقدَ الخلافة عقدٌ لازمٌ لا خيار في حَله من غير سبب يقتضيه، ولا تنتظم الإمامةُ ولا تُفيدُ الغرضَ المقصودَ منها إلا مع القطع بلزومها).

وقال الإمام أبو بكر الباقلاني في التمهيد (تمهيد الأوائل في تلخيص الدلائل): (فإن قال قائل: فهل تملك الأمة فسخ العقد على الإمام من غير حدث يوجب خلعه كما أنها تملك العقد له؟ قيل له: لا. فإن قيل: فكيف يملك العقد من لا يملك فسخه؟ قيل له هذا في الشريعة أكثر من أن يحصى …).

وقد بين الماوردي في أحكامه السلطانية (ص 19-24): (أن بيعةَ الإمام دائمةٌ لا تنقطع إلا إذا مات أو طرأ عليه سببٌ يوجبُ العزلَ مِن نَقْصٍ في الدين أو نقص مؤثر في البدن).

رابعاً: إن عزل الخليفة إذا طرأ عليه ما يجعله معزولاً أو ما يجعله يستوجب العزل ليس تحديداً لمدته في الخلافة، وإنما هو حدوث اختلال في شروطها.

 فإن صيغةَ البيعة الثابتة شرعاً تجعلُ الخلافةَ غيرَ محددة المدة، ولكنها محددةٌ بقيام الخليفة بما بويع عليه، وهو العمل بالكتاب والسنة، أي تنفيذ أحكامهما، فإن لم يحافظ على الشرع أو لم ينفذه فإنه يكون قد أظهر الكفر البواح مما يجعل عزلَه أو قتالَه واجباً على الأمة لحديث: «إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللَّهِ فِيهِ بُرْهَانٌ».

خامساً: إن هناك فرقاً بين الإسلام والمبادئ الأخرى من حيثُ الضماناتُ لقيام الخليفة بما بويع عليه ومن حيث خضوعُه للمساءلة والمحاسبة وعدمُ تمتعه بالحصانة. فالقضية التي يركز عليها الإسلام هي تطبيق الإسلام، بتنفيذ أحكامه بإحسان وحمل دعوته، والضمانة الطبيعية لذلك هي تقوى الله في الحاكم وفي الأمة، فالحاكم الذي تتركز تقوى الله في نفسه تجعله حريصا على الإسلام أكثر من حرصه على حياته، وتوجد فيه الأحاسيس المرهفة التي تجعله يراقب الله في كل تصرفاته في كل لحظة، وعند كل عمل. وقد راعى الشارعُ واقعَ كون الخليفة شخصاً غير معصوم قد تضعف فيه التقوى، فجعل الأمةَ هي الوسيلةَ الماديةَ التي تُجبرُه على تنفيذ أحكام الإسلام، أو تقصيه عن الحكم. ولذلك كان واجب الأمة إذا رأت حاكماً جائراً مستحلاً لحرم الله ناكثاً لعهد الله أن تُغَيَّرَ عليه بالقول أو بالفعل أو تُغَيرَه. فأوجب على الأمة أن تناقش الحاكم وتحاسبه على تصرفاته كلما رأت منه تقصيراً. فمحاسبة الحاكم واجب على الأمة وحق لها، وهو واجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، قال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ }.وجعل محاسبة الحاكم الجائر من أفضل الجهاد، فقد جاء رجل وسَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ وَضَعَ رِجْلَهُ فِي الْغَرْزِ: أَيُّ الْجِهَادِ أَفْضَلُ؟ قال: «كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ» (رواه الترمذى وأبو داود وابن ماجه وأحمد والبيهقي وأورده الألباني في السلسلة الصحيحة). كما أوجب الشرع وجودَ أحزاب سياسية في الأمة تقوم على أساس الإسلام، قال تعالى: {وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}

وجعل عملَها مراقبةَ عملِ الحكام ومحاسبتهم، وعليها أن تأخذَ على أيديهم وتأطرَهم على الحق أطراً، وجعلَها ضمانةً أخرى تمنع الاستبداد. وجعل الشرعُ محكمةَ المظالم هيئةً قضائيةً عليا في الدولة تنظر في شرعية القضايا التي تختلف فيها الأمة مع الحاكم، وعليها مراقبة الحكام للتأكد من حسن تطبيق الإسلام، وجعل حكمَها ملزماً. قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً}

فإذا كانت الأنظمة الديمقراطية قد جعلت للحاكم مدة معينة، يستبد أثناءها، ويسيطر على السلطة التشريعية ويستغلها أداة للسيطرة السياسية، ويكون له حصانة في هذه الفترة، بحيث لا تملك الأمة عزله ولا نقض حكمه، بل تبقى في ظل استبداده تنتظر حتى انتهاء مدته، لتبحث عن مستبد آخر، فإن الإسلام لم يجعل للحاكم أي حصانة، بل هو تحت المراقبة والمحاسبة من أول يوم يُبايَع فيه.

وبهذا يتبين لنا أن نظام الإسلام هو نظام يملك الضمانات الكافية لمنع الظلم والاستبداد, وهو فوق ذلك أعظم نظام عرفته البشرية، لأنه من عند العليم الخبير الذي خلق الإنسان ويعلم ما يصلحه, قال تعالى: {أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}

هذا هو الحق وليس بعد الحق إلا الضلال…

 والحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *