مرحلة «تعفّن التاريخ» وحضارة اللامعنى
1992/07/31م
المقالات
2,036 زيارة
بقلم: روجيه غارودي
المقال التالي مأخوذ من الكتاب الجديد الذي ألّفه المفكر (روجيه غارودي)، ومن المعلوم أن هذا المفكر الفرنسي الجنسية كان في مطلق شبابه متحمساً للديانة النصرانية التي وُلد فيها. ثم تحوّل إلى الفكر الاشتراكي المادي وقضى ردحاً من عمره يؤلف الكتب ويدافع عن الاشتراكية الماركسية ثم الاشتراكية الجديدة (بعد إدخال تصحيحات وتعديلات على الاشتراكية الماركسية). وكان يعتبر من أكبر مفكري الاشتراكية، وكأي مفكر نزيه أصيل ظل قلقاً لأنه كان يحس أن الأفكار التي يشرحها ويدعو إليها لا تقنع عقله ولا تطمئن قلبه، وظل يبحث إلى أن هداه الله إلى الإسلام في أوائل الثمانينات، فأعلن إسلامه، وصار ينظر إلى حضارة الغرب على أنها حضارة التعفن واللامعنى.
وهو يرى في أميركا “حفاراً لقبور” الإنسانية ويرى أنها ليست مجتمعاً متماسكاً يقوم على ثقافة منسجمة بل هي عبارة عن منظمة إنتاجية تسيطر عليها نظرة المنتج والمستهلك والمستعمر.
وفيما يلي كلام الكاتب:
الثقافة، إذا ما فصلت عن التأثير في البنى الاجتماعية، تتآكل وتتفسخ، وتسلم الجماهير المتشظية إلى قوى التلاعب الإعلامي. وعزل الثقافة، وحرمانها من أن تلعب أي دور في الحياة الاجتماعية، عنصران جوهريان في تشكل الولايات المتحدة وتاريخها.
أما في أوروبا، فقد كان للثقافة والأيديولوجيات حضور دائم في الحياة السياسية: في أوروبا الأمم، والقوميات، والماركسية، وثورة أكتوبر. في حين أن كل سكان الولايات المتحدة اليوم من المهاجرين، في ما عدا الهنود، السكان الأصليين، الذين كان ينتظمهم نسق حضاري موحد، ولكنهم أخضعوا لأكبر عملية تصفية كان من نتيجتها أن همشوا، وأضحوا صالحين للعرض في متاحف الأثريات فقط.
وكل الذين ارتحلوا إلى الولايات المتحدة، سواء أكانوا من إيرالندا أو إيطاليا، أو عبيداً سوداً، أو مكسيكيين أو من بوتوريكو – فإنما كانوا يبحثون عن العمل والمال. كانت لهم حضارات وديانات مستقلة، ولم يكن عندهم توجه حضاري موحد، والرابطة الوحيدة التي كانت تقوم في ما بينهم شبيهة بالرابطة التي تقوم بين موظفين يعملون في شركة واحدة.
الولايات المتحدة منظمة “إنتاجية تخضع لعقلانية تكنولوجية وتجارية، وتسيطر عليها علاقة المنتج بالمستهلك. بهدف الارتفاع الكمي لمستوى الحياة. الهوية الشخصية، الحضارية، الروحية، الدينية هي شأن خاص، فردي، ولا يجوز أن يكون لها ارتسام أو تأثير على حسن سير النظام.
انطلاقاً من هذا الواقع الاجتماعي، لا يمكن أن يعيش الإيمان أو الاعتقاد بأن للحياة معنى، إلا عند بعض الجماعات التي لا تزال متمسكة بحضارتها القديمة أو عند بعض الأفراد “الأبطال”. أما عند الأكثرية المطلقة من سكان الولايات المتحدة فإن “الله قد مات” بعد أن جرد الإنسان من بعده المقدس، أي التفتيش عن معنى للحياة، وهذا الفراغ أفسح المجال أمام تفريخ الملل والنحل، والخرافات، والهروب إلى المخدرات، والشاشة الصغيرة، وهذه كلها محمية ومغطاة “بتطهرية رسمية” تتستر على كل أشكال اللامساواة والقهر والمذابح، بل وتبررها.
وكان توكفيل أول متفهم لواقع الولايات المتحدة والأكثر نفاذاً، فقد اكتشف منذ عام 1840، في كتابه “عن الديمقراطية في الولايات المتحدة” ما هو جوهري في هذه الآلية، التي كانت في بداياتها. فقد كتب يقول: “لا أعرف شعباً يستبد به حب المال أكثر من هذا الشعب. إنه تجمع من المغامرين والمضاربين” ويتابع توكفيل: “إن وضعاً اجتماعياً ديمقراطياً كمثل الوضع في الولايات المتحدة لا بد من أن يؤمن ظروفاً متفردة لقيام الطغيان، وهذا الطغيان أكثر نفوذاً من الطغيان الذي يمارسه أمراء أوروبا، ولا بد من أن يؤدي إلى انحطاط الإنسان…”.
هذه كلمات تصدر عن محلل خارق، منذ ما يقارب مائة وخمسين عاماً.. لكنها تصلح لأن تكون بوصلة تساعدنا على فهم واقع أكثر تعقيداً. أن إنزال كل وسائل التلاعب الأيديولوجي إلى السوق الحرة قد ألغى الثقافة وجعل منها عملية “غسل دماغ” أو على الأصح عملية “جمهرة للعقل” أو إلغائه، مما يؤدي، في نهاية المطاف، إلى إبعاد العقل عن كل إسهام مبدع في الحياة العامة.
لقد انقلب الإعلام إلى “سوق ضخمة” أكثر اتساعاً من سوق الصناعة والمال، وأضحى جزءاً لا يتجزأ من ثلاثية “التضامن الاجتماعي” التي تتحكم بالرأسمالية الظافرة.
إن سيطرة الرأسمال الفردي على شبكات إعلام قد جعل من “الحدث”، سلعة تتكيف مع “ذوق الزبون” . وتستجيب لضرورات الإعلان الذي بدأ يتحكم أمراؤه باختيار الأخبار وطرق تقديمها، وفرسان الصحافة من أمثال موردوله، وماكسويل وهرسان قد نجحوا في يقابلوا الإعلام إلى سوق تجارية، وأن يبيعوا الصور عن الأحداث. كما يبيعون السلع التجارية الأخرى، وكما تحتكر ثلاث وكالات أنباء غربية، هي “وريتر” و”اسوشيتد برس” و”فرانس برس” نشر الأخبار، وما الذي ينبغي أن يقال وما الذي ينبغي أن لا يقال، فكذلك هناك “بنك للصور” هو الاكشيتغ فيديو نيوز، يتحكم بما ينبغي أن يرى، وما الذي ينبغي أن لا يرى، ومما يلفت النظر أن كل شبكات التلفزيون في فرنسا عضو في هذه المؤسسة الاحتكارية، وتنفذ توجهاتها بشكل أو بآخر. أن كل شيء يخضع لقانون العرض والطلب، ففي العام 1988 سقط الألوف من سكان السودان من الجوع، وقتل ثلاثمائة طالب في الزائير، لكن “بنك الصور” ركز، في ذلك الوقت على ثلاثة حيتان احتجزت في صقيع ألاسكا.
التلفزيون يتفوق على المدرسة، لأنه “يحرر” الإنسان المشاهد من حقه في الفهم، والحكم، واتخاذ القرار أن الاستمتاع السلبي باستعراض الصور على شاشة التلفزيون يمهد للانتقال من الطفولة التلفازية إلى الشيخوخة السياحية. وكما كتب مارك فومارولي: “التلفزيون هو سياحة في الميدان، والسياحة هي تلفزيون متحرك، أن “طليعة الانهيار الحضارية والأمركة تنتظرك في كل مكان، مثل الركض في الغابات، والتبضع، والتطواف السياحي، وكل ما له علاقة بالثقافة الجاهزة الصنع، من ماكدونالد إلى الكوكا كولا”.
هذه هي السياسة الكبيرة! وكيف يمكن أن نهيئ الشعب لقبول العبودية بشكل أفضل، إن لم يكن بحقنه بكل أنواع المخدرات كي يتولد عنده شعار الشاشة، وهوس السياحة؟..
وليس من قبيل الصدفة أن الدولة تقدم مساعدات هامة إلى المؤسسات المتخصصة بالرسوم المتحركة، وبموسيقى الروك وبصناعة الدبابيس، على أنها مساعدات للنشاط الثقافي.
إن التلفزيون لم يلتهم المدرسة فحسب، وإنما السياسة أيضاً. وما دام كل شيء خاضعاً لقانون العرض والطلب، فإنه يتعذر الحصول على أي منصب في السلطة أو الأعمال أو الفنون، بدون البروز على الشاشة – هذا فيما يخص العرض – ثم أنه ليس أسهل من حكم شعب جاهل أو مجهل – وهذا فيما يخص الطلب. ومن هذين الواقعين المريرين ينشأ خلل دراماتيكي لا يعرف أحد إلى أين سيقودنا، في نهاية الأمر.
إن مظهر المرشح السياسي، أكثر أهمية من مشروعة أو حجمه، السيد ميشال نوار، رئيس بلدية مدينة ليون، منذ العام 1977 استفاد من دروس الانتخابات الأميركية التي جرت في العام 1976 وكتب يقول: “إن هدف المسؤول عن تسويق معجون الأسنان والمسؤول عن تسويق مرشح سياسي واحد: إقناع الناس بشراء سلعته أكثر سلعة أخرى”. وأضاف: “إذا كان الشكل أكثر أهمية من المضمون في النجاح، وإذا كانت البراعة في استخدام وسائل الاتصال الحديثة هي الشرط الأساسي في النجاح فإن الساحة السياسية ستكون مفتوحة أمام جيل جديد من السياسيين، “جيل النجوم” وهذا يعني أن المهمة الأولى للقائد السياسي هي تحسين صورته، لا طرح برنامجه.
وهكذا افتتحت سوق جديدة “لصناعة الصورة” المناسبة لرجال السياسة، وأصبح “مستشارو الإعلام” مطلوبين، وارتفعت أجورهم، وتقدر تكاليف صنع صورة مناسبة في الولايات المتحدة بمليوني دولار، إن اقتصاد السوق خلق سلطة “ديمقراطية” جديدة مؤلفة من ثلاثة عناصر: مدي المؤسسة الإعلامية، المقرر التلفزيوني ورئيس الحزب السياسي، وهكذا تصبح “الديمقراطية” الاسم السياسي المستعار لاقتصاد السوق.
إن الثقافات الأوروبية، تتدرج بسرعة خاطفة نحو الأمركة، وفي كل الميادين، بهدف تحقيق الهيمنة الاقتصادية، أو الهيمنة السافرة، والمثال الصارخ الذي يؤكد هذا التدرج هو التلفزيون الفرنسي الذي بدأ يفرز “عبقريات” ومشاهير أفذاذ، لا تعرف من أين أتوا، ولا كيف هبطت عليهم العبقرية فجأة.
إن صناع القرار في التلفزيونات الأوروبية، أمام تدفق الفيلم الأميركي، يحتمون بهذه الحجة الصفيقة: “إن إنتاجنا لا يستطيع أن ينافس إنتاج الغازي الأميركي. ولكي يصبح إنتاجنا مربحاً يتوجب علينا أن يكون ناطقاً باللغة الأميركية على أن نترجمها في الأسفل”. وينطبق هذا على الأغنية أيضاً، حيث يفرض على المغني لنجاح اسطوانته، أن يغني بالأميركية.
وهذه “واقعية عجيبة”يقحمها علينا المسحورون بالأمركة العاجزون عن التفكير خارج حدود الغرب، إنهم يتناسون أن 800 مليون إنسان، على الكرة الأرضية، يتحدثون بالصينية، وأن 300 مليون يتحدثون بالاسبانية، وأن 200 مليون يتحدثون بالعربية. إن الإخصاب المتبادل بين هذه الحضارات وبين حضارتنا لا يتطلب المرور عبر اللغة الأميركية، ولا تسريب “اللاحضارة” إلينا على أساس أن هذا هو الإرث الوحيد الذي يمكن أن يقدمه لنا التاريخ الأميركي.
إن هذه الغاية من الصور، التي تنتصر فيها الصورة الدموية للأفلام الأميركية، تحطم التواصل وتلغي القدرة على الانتباه والتفكير. إن الإنتاج البربري الذي يعتمد عليه المخرج الأميركي في عرضه للخبر أو الحدث، يهمش الرغبة ويفتت رفض غير المألوف وهذا الاختراق الفوضوي في منازلنا، لأسئلة لا جواب عليها، يقلص المشاهد إلى مستهلك للصور من دون أي مضمون إنساني، ومن دون أي معنى أو قيمة.
وليس صحيحاً “أن الجمهور يطالب بهذا” وليس صحيحاً أن الشباب “لا يعجب إلا بهذا” إننا نكيفهم بشكل مزور لكي يتولد عندهم مثل هذا السلوك. إننا نجرهم إلى أسفل.
وظهر هذا بشكل جلي حينما عرض جان فيلار مسرحيات شكسبير وبرخت، وحينما عرض حرب الجزائر وعمليات القمع التي تجري في مناطق مختلفة من العالم، وحينما احتفل جاك برل ثم جان بيات بدون كيشوت، وهناك آخرون وآخرون ما زالوا مستمرين في التعلق بما هو جدي وأصيل في الثقافة، ويلتف حولهم عدد كبير من الناس، وخصوصاً الشباب.
لقد اختزل السيد هرسان، وهو من أباطرة الإعلام الفرنسي، القانون الجديد الذي يتحكم بالإعلام، حينما قال: “أنا أقول بأن الفيلم أو البرنامج التلفزيوني جديد إذا كان مفيداً ورافداً للإعلان التجاري“. ولم يكن السيد البرت انسالم، أحد منتجي برامج المنوعات في القناة الأولى من التلفزيون أقل صفاقة حينما قال: “كلما هبط مستواها كلما كثر مشاهدونا. هذا هو الواقع، ولما تطلبون منا أن نتنكر لرغبة المشاهدين، لنكف عن إعطاء الدروس!”.
هناك دعوة مستمرة وحازمة للإثارة والديماغوجية والمخادعة، توجه إلى رأي عام تتلاعب به وسائل الإعلام، ومؤسسات الإعلان، وشبكات التلفزيون التي لا تصف الحدث، وإنما تصنعه، في محاولات دؤوبة لاستغفاله.
وكما حدث في أثناء انهيار الإمبراطورية الرومانية، نعيش اليوم مرحلة “تعفْن التاريخ“، التي تمتاز، من دون سواها، بالهيمنة التقنية والعسكرية الساحقة لإمبراطورية ليس لها مشروع إنساني يمكن أن يعطي معنى للحياة وللتاريخ £
1992-07-31