العدد 102 -

السنة التاسعة – جمادى الأولى 1416هـ – تشرين الأول 1995م

النظام الدولي وآليات الردع الاقتصادي

تقديم الأستاذ: إبراهيم ياسين آل إبراهيم

إن غطرسة الولايات المتحدة والدول الكبرى الأخرى خاصة فرنسا وبريطانيا أطلقت العنان لأطماعها الوحشية أكثر من أي وقت مضى في استغلال الشعوب وتقتيلها والضغط عليها، فمنذ سقوط المعسكر الشيوعي استفردت هذه الدول في بقية العالم مستخدمة كل الآليات الاقتصادية والعسكرية لكسر ما تبقى من أعمدة سيادة الكثير من الدول كما زرعت حروباً أهلية مدمرة لا تبقي ولا تذر… بل وأهلكت الحرث والنسل وجعلت العالم المستضعف يتطلع إلى إمكانيات لصد هذا التكالب، والمتتبع لواقع العالم المستضعف يجد أغلب الطبقات فيه تزداد يومياً حنقاً وحقداً على الغرب ومؤسساته بل ومفاهيمه عن الحياة، وما بعض الأعمال التي تصدر من دول مثل الصين والهند ومن شعوب مثل الجزائر ومصر إلا دليلاً على ما وصل إليه هذا العالم المستضعف نتيجة الهيمنة والسيطرة الغربية، ففي كل المؤتمرات التي انعقدت خلال السنتين الماضيتين مثل مؤتمر السكان في القاهرة ومؤتمر البيئة في برلين والمؤتمر الاجتماعي في كوبنهاجن ومؤتمر الذرة في نيويورك ومؤتمر المرأة الأخير في بكين، نجد أصوات ممثلي دول العالم الثالث ترتفع منددة بالغطرسة الغربية ومحاولة فرض الوصاية بالقوة على كل جوانب حياة الناس في العالم. ومما لا شك فيه أن السيطرة الاقتصادية هي المفتاح للسيطرة السياسية والمسك بخناق الدول. لذلك عمدت الدول الغربية وفي مقدمتها أميركا على إرساء قواعد مؤسسات اقتصادية وسياسية دولية تحاول من خلالها الوصول إلى مآربها التي تتمثل في الهيمنة المطلقة على اقتصاد الدول وأسواقها وسلبها سيادتها.

ووقفت أنا أطالع الجرائد على مقالة نشرتها جريدة المجاهد الجزائرية في عددها الأسبوعي 1829 بتاريخ 25 أغسطس 1995 تحت عنوان “النظام الدولي الجديد وآليات الردع الاقتصادي… ماذا بعد المديونية والارتهان السياسي”، رأيت أن أقدمها للقراء، وعلى الرغم من أنها تفتقر للحلول إلا أنها تعطي صورة مفصلة عن السياسة الاقتصادية الغربية والمؤسسات العالمية.

“النظام الدولي الجديد وآليات الردع الاقتصادي… ماذا بعد المديونية والارتهان السياسي”

[الهيمنة السياسية والتفرد بالقرار وفرضه مباشرة أو عن طريق النادي المضيف المتمثل في الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن الخاضع في تصرفاته للولايات المتحدة منذ 1990، تلك الهيمنة لها وجه آخر هو التسلط والاقتصادي والضغط المالي، حيث تشرف مؤسسات بريتون وودز على اقتصاديات العالم عن طريق مجلس أعل للوصاية تقوده مجموعة الدول السبعة الأغنى في العالم زائد الضيف الثقيل روسيا المنقلبة على أعقابها نحو الليبرالية.

في الاجتماع الأخير لمجموعة السبع زائد واحد (7 + 1) بمدينة هاليفاكس الكندية تلقى صندوق النقد الدولي والبنك الدولي تعليمات من السبع الأغنياء – أو المجلس الأعلى للوصاية – لتشديد الرقاة على اقتصاديات العالم بأسره وفرض حراسة مشددة على البلدان النامية التي خضعت للتكييف الهيكلي (Stuctural Adjustment) مقابل إعادة جدولة ديونها السابقة وفق كراسة الشروط المجحفة التي لا تبقي لها من حقوق السيادة الوطنية سوى المظاهر الشكلية.

حقيقة الليبرالية

نشأت الليبرالية ضمن التوسع الكبير للطبقة الوسطى وتراكم رأس المال نتيجة حركة التصنيع من جهة، والسلب والنهب المتواصل من جهة أخرى لمستعمرات يمثل سكانها ثلاثة أرباع العالم والقسم الأكبر من مساحته، وإلى جانب النزعة “الماركانتلية” أي الأسبقية المطلقة للربحية التجارية، تكونت أيضاً مؤسسات قاعدية مستقرة وبنية اجتماعية وثقافية مناسبة لها على وجه العموم. سمي الإطار العام لهذه الشبكة النظام الليبرالي الذي لم يتغير أي شيء من توجهاته الأساسية منذ منتصف القرن الماضي على الرغم من أزماته الداخلية وصراعاته الدموية والأيديولوجية داخل النظام نفسه (حربان عالميتان) أو على أطرافه (الحرب الباردة مع النظام السوفياتي).

إن اقتصاد السوق ليس وصفة سحرية ولا مجرد آلية تقنية منفصلة عن السياق التاريخي والراهن للدولة والمجتمع، ولا هي قابلة للتطبيق الميكانيكي في أي زمان ومكان، وكما فشلت اشتراكية التجميع القهري التكنوبيرقراطي، ستفشل في بلداننا كل أشكال الاستنساخ الليبرالي التي لا تقل عن السابقة ضرراً وغروراً وتغريراً.

من البديهيات التي ينبغي تكرارها كلما سنحن الفرصة هي أن العالم الثالث ليس صورة طبق الأصل للغرب الأورو – أميركي والسوق ليس وصفة سحرية ولا مجرد آلية تقنية منفصلة عن السياق التاريخي والراهن للدولة والمجتمع، ولا هي قابلة للتطبيق الميكانيكي في أي زمان ومكان، وكما فشلت اشتراكية التجميع القهري التكنوبيرقراطي، ستفشل في بلداننا كل أشكال الاستنساخ الليبرالي التي لا تقل عن السابقة ضرراً وغروراً وتغريراً.

أربع سنوات بعد إعلان الرئيس الأميركي ج. بوش أمام مجلس الشيوخ في أيلول 1991 عن النظام الدولي الجديد تقدم معظم دول العالم الثالث الصورة التعيسة التالية:

1- مديونية خانقة بفوائد فاحشة، نتج أغلبها عن طريق ما يسمى علاقات التعاون مع بلدان الشمال المصنعة والسبعة الأكثر ثراء في العالم بوجه خاص.

الاستدراج نحو المديونية أصبحت له صيغة كلاسيكية معروفة منذ السبعينات: تسهيلات مغرية في البداية تجتذب البلدان التي تتوفر على رصيد من الثروات الخام أوصلتها خلال الثمانينات إلى الاختناقات والاختلالات وما أعقبها من انفجارات الخبز.

2- رافق تراكم الديون الخارجية حالة من الركود الاقتصادي والتضخم المتسارع والاختلال المهول في الميزان التجاري، ارتفاع متزايد لفاتورة الواردات من السلع والخدمات وانخفاض متزايد أيضاً لمداخل الصادرات بطريقة مفتعلة تتمثل في التلاعب بأسعار المواد الأولية والمضاربة على النفط بالتواطئ مع حلفاء من كبار المصدرين للمحروقات أو عن طريق التلاعب بآلية العرض والطلب. مع العلم أن آلية العرض والطلب وهي القانون الأول في اقتصاديات السوق لا تطبق في البلدان المهيمنة على التجارة الدولية إذ سرعان ما تلجأ إلى حماية سوقها وإبطال ذلك القانون عندما لا يكون لصالحها.

3- بعد أن حقق الغرب بقيادة الولايات المتحدة هدفه الأول وهو الإطاحة بالمعسكر الاشتراكي والتشهير بإفلاسه الأيديولوجي والاقتصادي كانت الخطوة الثانية – والأسهل بلا شك – هي تحطيم آخر معاقل المقاومة في بلدان القاطرة، ومن المعروف أن كثيراً من تلك البلدان قام بتأميم ثرواتها وقاوم إلى حد كبير ضغوط دول المركز الأورو – أميركي التي وصلت إلى حد العدوان العسكري والمقاطعة والتشويه وتشجيع الانقلابات، وقد بدأت حركة مضادة منذ الثمانينات وصلت مع الإعلان عن النظام العالمي الجديد إلى ذروتها، وها نحن نشهد اليوم الانتقام العلني من حركة التحرر بما يسمى الخوصصة، أي إعادة تسليم نفس تلك الثروات إلى الاحتكارات الدولية والتحكم من الداخل في اقتصاديات دول مهلهلة سياسياً عن طريق ما يسمى المناطق الحرة والمشاركة، أي ما يشبه المناطق المنزوعة السلاح الآن و”الكنتوار” التجاري في أوائل القرن الماضي عند بداية التغلغل الاستعماري.

4- استطاع النظام الدولي الجديد فرض انضباط محكم إلى حد كبير بين أعضائه المستفيدين منه داخل الغرب المصنع حيث يمكن القول بأن الدول المصنعة هي الآن كتلة واحدة متضامنة تجاه مطالب العالم الثالث وعلى درجة عالية من التنسيق والفعالية، ويظهر ذلك التنسيق في الاجتماعات الدورية لمجموعة السبع G7 وعلى مستوى مؤسسات بريتون وودز التابعة لها، بينما يزداد عجز دول العالم الثالث المشتتة تجاه الكارتل الغربي القوي. ولقد تبين في الاجتماع الأخير لدول عدم الانحياز بالعاصمة الإندونيسية جاركارتا مدى هشاشة تلك البلدان بسبب ما تعانيه من الاضطراب السياسي والانهيار الاقتصادي وأن كل بلد مشغول بترقيع أحواله المتدهورة على المستويات السياسية والمالية، وبالنتيجة فإنها على الرغم من أهميتها العددية لا تستطيع أن تتخذ مواقف حازمة لحماية مصالحها لا كمجموعة ولا كدول منفردة، إذ أن الدول الغنية تستعمل اليوم سلاحاً خطيراً بطريقة ميكيافيلية، هذا السلاح هو الربط بين التعاون والديمقراطية وحقوق الإنسان، ومن السهل عزل الدول التي تقاوم الهيمنة الأحادية، وحتى ضربها من الداخل عن طريق الزعزعة والحصار الدولي.

5- الحقيقة المرة هي أن البلدان المسماة نامية تتقدم الآن راكعة الواحدة تلو الأخرى أمام الهيئة التنفيذية (صندوق النقد والبنك الدولي والمنظمة الدولية للتجارة) لتتلقى التعليمات الملزمة، وتجد نفسها من الناحية الفعلية تحت الوصاية المباشرة السياسية والاقتصادية والمالية للمجلس الأعلى للوصاية الدولية المتمثل في مجموعة السبعة الأثرياء. تسمى تلك الوصاية في اللغة الديبلوماسية نصائح وخبرة ومساعدات تقنية يشرف عليها مباشرة ثلاثة مندوبين للنظام الدولي الجديد وهم:

أ- جميس وولفصوهن رئيس البنك الدولي.

ب- ميشيل كمدسوس مدير صندوب النقد الدولي.

ج- ريناتو روجيروا أمين المنظمة الدولية للتجارة.

6- بعد الدخول الاضطراري أو التآمري في الحلقة الدائرية للجدولة وإعادة الجدولة وخاصة لمجموعة الدول المزعزعة سياسياًن يبدو لنا أن فخ المديونية كان جزءاً من المؤامرة، فالتفقير والتجويع والنهب على أوسع نطاق – فوائد المديونية تفوق في أغلب الأحيان أصل الدين وتتطلب قروضاً أخرى لدفعها) – والبطالة والكساد والاستيراد الإلزامي من البلدان المقرضة وبشروطها السياسية والمالية وقمع كل اعتراض نقابي أو سياسي، كل ذلك تقوم به اليوم سلطات فوضت نفسها داخل البلدان المعنية تبنت تلك السياسات المهلكة ضد مصالح الشعب والوطن على المدى المتوسط والبعيد، لا يهم تلك السلطات التابعة للمركز الأورو – أميركي سوى ملاحظات الثلاثي السابق الذكر والسيء الصيت، فملاحظة “مقبول” أو “جيد” من طرف الشخصين السابقين وولفصوهن وكمدسوس تعني رضا المجلس الأعلى للوصاية الدولية وغضبهما يعني غضب الأوصياء والعقوبة الوشيكة التي تبدأ بالتضييق والحصار وتصل إلى حد التدخل والقصف بصواريخ “توما هوك”.

7- تشير الظواهر السابقة إلى أن الأوضاع الاقتصادية في البلدان النامية سوف تزداد تدهوراً خلال السنوات الخمس الباقية من هذه العشرية. ينبني هذا التوقع على الحقائق التالية:

أ- سوف يزداد ثقل المديونية الخارجية بسبب ضعف الادخار الوطني والنمو البطيء أو المنعدم وتناقص الطلب على الموارد الأولية والتخفيض الإجباري لأسعارها، فضلاً عن تحويل المنافسة إلى مضاربة وتهريب رؤوس الأموال الوطنية إلى البنوك الخارجية.

ب- عجز الهياكل الموجودة عن اجتذاب الاستثمارات المنتجة، إذ أنها مصممة في الأصل كإطار بيروقراطي في سوق معدة للاستهلاك فحسب من جهة واحدة هي الغرب. ومن المعروف أن الشركات المتعددة الجنسيات هي التي تتوفر على قدرات استثمارية كبيرة، غير أن تلك الشركات تخصص 70% من نشاطها الاستثماري للبلدان المصنعة ذات الجاذبية.

ج- لجوء عدد كبير من بلدان العالم إلى الاستدانة من الأسواق المالية الغربية كرّس بالتدريج تبعيتها المطلقة لاقتصاديات الغرب وأوصلها إلى حالة قصوى من التهميش السياسي، فكلما ظهر عجزها عن الإبقاء بمستحقاتها المديونية سيقت إلى جدولة تفرض عليها مزيداً من التبعية ومزيداً من الشروط الثقيلة دون أي مقابل يذكر في ميدان الانتعاش والنمو. وتمثل الحالة الجزائرية في هذا السياق مثالاً صارخاً لهذه الآلية التركيعية، فقد أصر بلد واحد من بين كل الدائنين هو فرنسا (على الرغم من أنه ليس أهم المقرضين) على فرض الجدولة مستغلاً حالة الزعزعة الخطيرة والانفراط في الجبهة الداخلية، لأن فرنسا كانت على يقين بأن الوفرة المالية المؤقتة التي تتيحها الجدولة سوف تعود إليها من طريقين. أولهما السوق الداخلية المحتكرة تقريباً من الشركات الفرنسية، وثانيهما الإشراف المباشر على اقتصاد في حالة تخبط يحتاج إلى إشراف نادي باريس الذي يرأسه خبراء الخزينة الفرنسية والقرض الليوني وهما على علم بمليارات الفرنكات التي عبرت البحر أو لم تقطعه أصلاً نحو الجزائر.

د- تأكد في بداية هذا العقد أن الاقتراض من المؤسسات الحكومية الغربية ترافقه شروط مجحفة، فليس من الصحيح أن هناك فصلاً بين السياسة والاقتصاد إذ أن الاقتصاد السياسي هو المحور الحقيقي للنظام الدولي القديم والجديد، وبذلك أصبح ارتهان البلدان النامية مادياً واقتصادياً وسياسياً في آن واحد. لهذا الغرض بالذات تظهر بعض الدول الغربية سخاء مشبوهاً وفيه كثير من المكر والخداع، فالأنظمة التي تتفانى في خدمة أهدافها الجيوسياسية الكبرى تعفى من بعض ديونها مقابل ولائها غير المشروط (مثل مصر والأردن)، أما المترددة (ولا يكاد يوجد رفض صريح) فيضيق عليها الخناق حتى تدخل الصف وتبرهن على الولاء. وعلى أي حال فإن أولويات التعاون قد تم تحديدها بصورة نهائية من طرف القوى الاقتصادية الكبرى وهي الولايات المتحدة واليابان والاتحاد الأوروبي.

هـ- إن غرب أوروبا يستثمر الآن في شرقها من منظور أوروبا الكبرى، وبتأثير من عملاق الرايخ الألماني. لا يهتم الغرب كله بالعالم الثالث وجنوب المتوسط بوجه خاص إلا إذا تعلق الأمر بغلق المجال الأوروبي على هجرة البطاليين الفقراء وتشديد الرقابة عليهم حتى لا يتسللوا من شباك اتفاقية شغنن. ولا تذكر دول شمال غرب أفريقيا والجزائر بوجه أخص إلا مقرونة بالخطر الأخضر (الإسلام) وأمواج “اللجوء” المزعوم هرباً من الأصولية، وهي اختراع غربي لخطر جديد يعوض الماركسية ويسمح بوضع شعوب بأكملها تحت الحظر الصحي quarantaine لا يغير من هذه المعاينة مرافعات مضحكة تزعم على أن هذه الضفة من المتوسط توجد آخر معاقل الدفاع عن الغرب ضد الأصولية.

الواقع أننا نميل إلى هذا الاحتمال المأساوي، فالخطاب المهيمن اليوم في المنطقة وخارجها هو مضغ الكلمات الرنانة عن الاقتصاد الحر والتكيف مع السوق، وحتمية الجدولة، والإنفاق على الكماليات بلا حساب والمنافسة ومغالطات أخرى تجذب بلداننا أكثر فأكثر نحو الهاوية، وبينما يزداد الشمال الغني والموحد ثروة وسطوة، يزداد عالمنا الثالث فقراً وتشتتاً ويغرق في الديون والاضطراب والأزمات، أليس ذلك هو الوجه الحقيقي للنظام الدولي الجديد، والرد المتعجرف واللاأخلاقي على مطالب جنوب العالم بنظام اقتصادي أكثر عدلاً وتوازناً.

8- الجواب نجده في الحالة المزرية لما يسمى البلدان الأقل نمواً أو الأفقر (LDC) وتتكون هذه المجموعة من 48 بلداً، 33 منها موجودة في أفريقيا والبقية تتوزع على آسيا والكراييب، تصل مديونية المجموعة 127 مليار دولار، وتستهلك المديونية ما لا يقل عن 76% من ناتجها الوطني الخام.

يلاحظ مؤتمر الأمم المتحدة للتعاون والتنمية أن الثلث الأفقر في العالم لا يشارك إلا بحوالي 0,4% في الصادرات على مستوى العالم ولا يستورد أكثر من 0.7%، وأن مجموع الاستثمارات الأجنبية في البلدان المعنية لا تتجاوز حتى سنة 1993 0.4% مقارنة بالبلدان النامية الأخرى التي حصلت على قدر يزيد كثيراً عن السابق هو 0.7%، وبالنسبة للثلاثة والثلاثين بلداً أفريقياً الأفقر فإن الدخل السنوي للفرد لا يتجاوز 218 دولاراً، وفيما يخص القافلة الكبيرة لما يسمى البلدان النامية فإن تقارير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية لهذه السنة تشير إلى أن الغلاف المالي المخصص للمساعدة في تنمية بلدان العالم الثالث قد انخفض لأول مرة منذ عشرين عاماً وأن بلدان الشمال المصنعة تتجه على وجه العموم (باستثناء اليابان التي خصصت حوالي 213.2 مليار للتعاون) للانخفاض وتدور حول النسبة الضئيلة من دخلها الوطني الخام المقدرة بـ 0.29% أي بعيداً جداً عن النسبة التي حددتها الأمم المتحدة وهي 0.7%.

يقدر مجموعة “المساعدات” المقدمة للعالم الثالث 57.8 مليار دولار سنة 1993، 57.7 مليار دولار سنة 1994 يمثل القطاع المالي الخاص حوالي 40% منها.

ومنذ 1994 قامت البلدان الغنية بتخفيض كبير لمساهماتها في ميزانية التعاون، فعلى سبيل المثال أنقصت إيطاليا 36% من تلك الميزانية، وأنقصت بلجيكا 20% ويقدر التخفيض الذي قامت به مجموعة الاتحاد الأوروبي المكونة من خمسة عشر بلداً بحوالي 6%، أما الولايات المتحدة فإن مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه اليمين الجمهوري يهدد بتقليص المساعدات للبلدان النامية والمساهمة في المؤسسات المالية المتعددة الأطراف حيث أعلن رئيس الأغلبية المحافظة (بوب دول) في نهاية الشهر الماضي تموز 95 أن المساعدات المقدمة مباشرة للبلدان النامية وخاصة الأفريقية منها هي من باب الاستخدام السيئ لأموال دافعي الضرائب من الشعب الأميركي.

9- تظهر المفارقة المذهلة بالنسبة لمنطقتنا بالذات، عندما نعرف أن أكثر من 900 مليار دولار موجودة الآن في أوروبا وأميركا بعضها إبداعات في البنوك وبعضها الآخر استثمارات في البورصة والعقارات، وحسب تقديرات السيد حسن النعمان رئيس اتحادية غرف التجارة والصناعة في دولة الإمارات فإن 400 مليار دولار هي أموال حكومية والباقي إبداعات واستثمارات للخواص، ويرجح البعض أن يكون حوالي نصف المبلغ الإجمال السابق راجع للملكة العربية السعودية وشركائها الخمسة الآخرين في مجلس التعاون لدول الخليج.

هذه المبالغ الهائلة النائمة أو المستثمرة خارج المنطقة المضطربة وغير المأمومة هي إلى حد ما رهينة، فلقد تلقت المنطقة ودول الخليج بوجه خاص عمليات متعددة للردع الاقتصادي والمالي لتحجيم قوتها من فائض الادخار أو البترو دولار، نذكر منها على سبيل المثال:

أ- منعت الولايات المتحدة الأميركية شركة “سنتافي” من التنقيب عن البترول في أراضيها بعد أن اشترتها دولة الكويت.

ب- إلزام الكويت ببيع جزء من أسهمها في شركة بريتش بتروليوم BP لمنعها من التأثير في القرار الإداري السياسي.

ج- تصفية بنك الاعتماد والتجارة الدولي الذي تساهم دولة الإمارات بأكبر قدر في رأسمالية بقرار من بنك إنكلترا تحت غطاء حملة من الفضائح، تعرضت بنوك دولية لما يساويها ويزيد عليها، ولكنها حافظت على مصداقيتها المالية، فالمطلوب إذاً هو ردع بلدان الخليج ذات الوفرة المالية من الاستثمار في المناطق المحرمة عليها واستعمال المكيالين لتطبيق قوانين السوق المنافسة.

د- غير أن أكبر عملية ردع اقتصادي تمثلت في حرب الخليج الثانية، فلو تخيلنا أن بلدان الخليج الستة بالإضافة إلى العراق وربما إيران أيضاً والدول العربية المنتجة للنفط ليبيا والجزائر وضعت في مطلع هذا العقد استراتيجية موحدة ومنسقة للإنتاج والتسويق فإننا سنجد أن المنطقة ستتحكم في ثلاثة أرباع إنتاج دول الأوبيك وحوالي نصف الإنتاج العالمي للمحروقات. ولكن الولايات المتحدة ومن ورائها الغرب كله الذي جرب بمرارة أزمة 1973 لم يكن يعنيه أن يضمن فقط سلامة معابر النفط، بل إن الأسعار أصبحت في مقدمة اهتماماته وهذا ما يفسر بقاء أسعار النفط على ما كانت عليه أثناء وبعد حرب مدمرة دارت وسط شبكة الأنابيب وعلى مقربة من أكبر منابع الذهب الأسود في العالم بعد الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة. الأغرب من ذلك أن الأسعار اتجهت منذ نهاية الحرب إلى الانخفاض على الرغم مما حل بالكويت والعراق من دمار والحظر المفروض على بغداد (إنتاج حوالي ثلاثة ملايين برميل يومياً) إلى أجل غير معلوم.

هـ- نجحت الولايات المتحدة عن طريق الدعاية والضغط الديبلوماسي ولإعادة ترتيب العلاقات في المنطقة في وضع إسرائيل أثناء حرب الخليج الثانية فمن قائمة الدول المتعدى عليها مثلها مثل بقية الدول العربية الأخرى في الخليج والتي قبلت لأسباب مختلفة الاشتراك في الغارة على البترول لصالح الأحادية القطبية أولاً، ولإدماج إسرائيل نهائياً في المخطط الجيو سياسي للمنطقة وفك عزلتها الاقتصادية والسياسية ثانياً.

وتناقلت الأنباء في مستهل شهر آب 95 تأسيس واحدة من أكبر شركات تكرير النفط في مدينة الإسكندرية المصرية بأكبر تمويل يقدم دفعة واحدة ويقدر بثلاثمائة مليون دولار كمساهمة من بنك الاستثمار الأوروبي (ومقره في لكسمبورغ) بين مصر وإسرائيل التي يمثلها مستشار سابق لوزير الخارجية الحالي شمعون بيريز.

و- تعتبر إسرائيل رادعاً اقتصادياً للمنطقة بحكم صناعاتها العسكرية المتطورة واقتصادياتها الحربية أساساً، فهي تحتل المركز السابع بين مصدري السلاح في العالم حسب تقرير معهد ستوكهولم الدولي لبحوث السلام. ومن بين 640 متقاعداً من كبار الضباط في الفترة ما بين 1960 – 1985 يتوزعون على رتب من فريق أول إلى عقيد، توجه 80% منهم نحو الصناعات التابعة للقطاعين العام والخاص ولها كلها صلة مباشرة بالمجهود الحربي، فإذا سقطت إجراءات المقاطعة النسبية وهو ما تلح عليه الولايات المتحدة وأحياناً بغضب شديد، فإن إسرائيل سوف تضيف إلى تفوقها العسكري القائم على التكنولوجيا العالمية تفوقاً آخر هو التغلغل مباشرة في الأسواق العربية وإدارة فائض عوائد النفط نظراً لعلاقاتها القديمة والوطيدة مع البنوك الدولية القريبة بشكل أو بآخر من الشبكة الصهيونية العالمية، وبذلك تحقق الولايات المتحدة هدفين في آن واحد: أولهما تخفيف الأعباء عن الميزانية الأميركية التي تخصص سنوياً مبالغ ضخمة لمساعدة الاقتصاد الإسرائيلي الغارق بدوره في المديونية، وثانيهما تنصيب دركي قوي ووفي لواشنطن يقوم بدور كلب الحراسة الاقتصادية على المنطقة من الفرات إلى الأطلسي.

بعد الملاحظات الأولية السابقة يمكن القول بأن المنطقة والعالم الثالث كله لم يعرف طيلة ثلث القرن الماضي 1960 – 1990 وضعاً أسوأ مما عليه اليوم، فقد أصبح من باب السخرية والتهكم أن يتحدث أحد عن بلدان في الجنوب المهمش تستعد للإقلاع الاقتصادي في آفاق القرن القادم، أو حتى يصفها بأنها في طريق النمو إذ أن الهياكل القاعدية والتجهيزات الأخرى التي أنجزت حتى النصف الأول من الثمانينات بتكاليف باهظة تحتاج الآن إلى تكاليف أثقل لصيانتها وتجديدها نظراً للتطور السريع للتكنولوجيات واحتكارها من طرف الدول الأكثر تقدماً، بل إن الكثير من الخبراء يتساءلون عن الجدوى من صيانة هياكل صناعية تعود للسبعينات في بلدان تعيش على القروض ولا تتوفر في أغلب الأحيان على احتياطي من العملة الصعبة يتجاوز بضعة أسابيع لاستيراد حاجاتها من الغذاء والدواء. يعرف الغرب واحتكاراته الكبيرة ذلك وينبغي ألا يتوقع أحد أنه متلهف على الاستثمار في تلك الهياكل ويقبل برمي أمواله في الخردة البالية للعالم الثالث، خردة تحكي العصر الوسيط لتاريخ التصنيع، كما سنقرأ في العقد الثالث أو الرابع من القرن القادم.

إن الاستثمار الوحيد الذي مكن أن تتوجه إليه رؤوس الأموال الغربية والشركات المتعددة الجنسية هو الطاقة ولا شيء غير الطاقة والمواد ذات الصلة بها مثل المعادن (اليورانيوم – الزئبق – البوتاسيوم… الخ) ولكن ذلك يتطلب تدجين البلدان المعنية سياسياً، عن طريق زعزعة طويلة الأمة تكسر كل مقاومة وتدخلها نهائياً على بيت الطاعة وتغلقه عليها بمفتاح واحد يملكه النظام الدولي وقطبه المتنفذ الولايات المتحدة.

إن ما خطط له الغرب ونفذه هو من باب الصراع الدولي الدائم قبل أن نَظَرهُ مكيافيلي في حديثه عن صلاحيات الأمير وبعده، فالسياسة والاقتصاد ليس فهما مجال للعواطف الرقيقة والمشاعر الأخوية، قانونهما الموضوعي في كل زمان ومكان هو توازن القوة بين خصمين أو أكثر، إن الذي يثير الاستغراب في بلداننا المهمشة سياسياً والهزيلة اقتصادياً والمتسولة مالياً أناس يعتقدون عن قناعة أو سذاجة أن اقتصاديات السوق وقوانين المنافسة هي لصالح التنمية والإنعاش والإقلاع، فهل تقبل شعوبنا بعد كل ما حدث أن تتسلى حفنة من الناس بمستقبلها وتتلاعب به على مائدة القمار في نوادي لندن وباريس للجدولة والارتهان؟

قد يكون الخمود المؤقت للقشرة السطحية من البركان هي المرحلة الأخيرة التي تسبق انفجاره الذي لا يبقي ولا يذر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *