العدد 102 -

السنة التاسعة – جمادى الأولى 1416هـ – تشرين الأول 1995م

المقياس الشرعي

بقلم: محمد حسين عبد الله

“الحسن والقبح عقليان، فالأفعال حسنة وقبيحة في ذاتها، والعقل قادر على إدراكها، والإرادة حرة تختار الحسن والقبيح” هذا الفكر الذي ردده محمد عبد مفتي الديار المصرية لم يكن سوى فكر المعتزلة، والذي لم يرد من إحيائه إلا الإفساد وفتح الباب لإدخال الثقافة الغربية على الإسلام، والوعي تنشر هذا المقال المبسط لتلك القضية الهامة، وما يتعلق بها، تبصيراً لأبناء المسلمين وبياناً للحق.

ذلّت النصوص الشرعية على أن هناك مقاييس في الإسلام، تُقاس بها الأفعال والأشياء وهي: الخيّر والشرّ، والحسن والقبح، والحلال والحرام.

الخير والشر

كلمة ” الخير” لفظ مشترك من جهة الاشتقاق ومن جهة المعنى. أما من جهة الاشتقاق فهي اسم تفضيل، الأصل فيها أن تأتي “أخير” على وزن أفعل، ولكن حذفت الهمزة حذفاً شاذاً. وأما من جهة المعنى فكلمة “خير” تعني الإسلام كما في قوله تعالى: (وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ… ) وتعني المال، كما في وقوله تعالى: (وَمَا تُنفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ… ) وتعني الفعل الذي يرضي الله تعالى، كما في قوله: (وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا) 20 المزمل. وكلمة “شر” من جهة الاشتقاق تشبه كلمة “خير”، وأما من جهة المعنى فالشر ضدّ الخير.

وقد أطلق العربي “الخير” على كل ما يفعله، وأطلق الشر على كل ما يضره، فإن أصابه من الفعل نفعٍ أو فرح عدّه خيراً، وإن أصابه ضرر أو فاجعة عدّه شراً، قال تعالى: (فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ… )، وقال تعالى: (إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا… )، فهو يحب الخير بمعنى النفع، ويكره الشر بمعنى الضرر، فبين الله للإنسان عدم دقة هذا المقياس بقوله تعالى: (كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ)، وقال تعالى فيمن كرهوا زوجاتهم: (فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا)، فالخير والشر في الإسلام، بالنفع والضرر، لا في الأفعال التي تقع قضاء، أي تقع من الإنسان باختياره، لأنه لا يدرك بدقة إن كان الفعل أو الشيء نافعاً أو ضاراً له ولغيره، بسبب عدم معرفته للنتائج الحقيقية التي ستترتب على أفعاله في الدنيا والآخرة. ولنضرب مثلاً لذلك، الشخص الذي نام وتأخر عن موعد سفره بطائرة كانت ستقله لعقد صفقة تجارية رابحة، فكَرِهَ ما حصل، وعدّه شراً له، ولكنه عندما عمل أن تلك الطائرة قد سقطت بعد إقلاعها وتحطمت، وقتل جميع من كان عليها، حمد الله على تأخره وعدّه خيراً له. فوصف الإنسان للعمل بالخير أو الشر بناءً على النفع أو الضرر الذي يصيبه من جرّاء القيام به، وصف غير صحيح وغير ثابت، لأنه آتٍ من البشر، وهم عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض، والتأثر بالبيئة، وعقولهم عاجزة عن معرفة النتائج قبل حدوثها، فيكون الوصف الحقيقي للعمل أنه خير أو شر غير آتٍ من الإنسان، ولا آت من العمل نفسه، فالقتل عمل واحد، يكون من المسلم خيراً إن كان قتلاً للمحارب، ويكون شراً إن كان قتلاً للمواطن أو المعاهد، فوصف العمل بالخير أو الشر لا يأتي من ذات العمل، وإنما يأتي من عوامل خارجة عنه، وهذه العوامل تستند إلى وجهة النظر في الحياة وهي العقيدة التي يعتنقها الإنسان، كعقيدة عقلية ينبثق عنها نظام كامل شامل، وضع مقياساً دقيقاً لما هو خير ولما هو شر، فالعمل إن كان مما يرضي الله بإطاعة أوامره واجتناب نواهيه فهو خير، وإن كان العمل مما يغضب الله لمخالفته أوامره وإتباع نواهيه فهو شر. فالخير – عند المسلم – ما أرضى الله، والشر ما أغضب الله. فالصلاة والجهاد وحمل الدعوة خير لأنها ترضي الله، والربا والزنا والتجسس شر لأنها تغضب الله، بغض النظر عن النفع أو الضرر الذي يصيب الإنسان في الحياة الدنيا نتيجة قيامه بها، فهي حياة قصيرة تنتهي بالموت، ثم تليها حياة الآخرة، حيث النعيم المقيم في الجنة، أو العذاب الأليم في النار، جزاء لما فعل الإنسان من خير أو شر، قال تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَه @ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه). فعلى المسلم أن يقدم على فعل الخير لأنه يرضي الله، لا لأنه يحقق له منفعة دنيوية، وأن يحجم عن فعل الشر لأنه يسخط الله، لا لأنه يسبب له ضرراً.

وعليه أيضاً أن يسمي المسميات بأسمائها الشرعية، فالإسلام والإيمان وتطبيق الحدود خير، وأما الكفر والخيانة ومخالفة أحكام الله فشرً، وعليه أن يؤمن ويسلم بالقضاء والقدر خيرهما وشرهما من الله تعالى، وإن كان هو يحبّ ما ينفعه ويكره ما يضرّه، فهذا الحبُّ أو الكرهُ لا حساب عليه لأنه لا يملكه، فهو ليس من أفعاله الاختيارية.

الحسن والقبح

إنَّ الحكم على الأشياء والأفعال بالحسن والقبح، قد يكون من جهة ملائمتها أو منافرتها لفطرة الإنسان أو من جهة الثواب والعقاب عليها من الله تعالى.

أما من جهة واقعها، وملائمتها أو منافرتها للفطرة، فإن الإنسان يحسّه وعقله يستطيع الحكم عليها، فيحكم على الشيء الحلو كالعسل بأنه حسن، وعلى الشيء المرّ كالحنظل بأنه قبيح، ويحكم على العلم أو العني بأنه حسن، وعلى الجهل أو الفقر بأنه قبيح، لما فيها من الكمال والنقصان، لأن الله أودع فيه خصائص يمكن أن يدرك بها ذلك، وهي الغرائز والحاجات العضوية والتفكير. وأما الحكم على الأفعال والأشياء بالحسن والقبح من جهة الثواب والعقاب عليها من الله تعالى، فإنه ليس للإنسان، لأنه عاجز بما أُعطي من خصائص، عن معرفة كون الأمر مما يثيب عليه الله، أو مما يعاقب عليه الله، لأن ذلك لا يقع تحت حسِّه فلا يدركه إلا بإخبار من الله تعالى، وهذا الإخبار هو الشرع الذي جاء به الوحي إلى الرسل.

والشرع مدح أشياء وأفعال وبيَّن أن الله يثيب عليها، وذمَّ أشياء وأفعال وبيَّن الله يعاقب عليها، لذلك كان الحكم عليها بالحسن والقبح من جهة المدح أو الذم ومن جهة الثواب والعقاب عليها من الله تعالى، فإنه ليس للإنسان، لأنه عاجز بما أُعطي من خصائص، عن معرفة كون الأمر مما يثيب عليه الله، أو مما يعاقب عليه الله، لأن ذلك لا يقع تحت حسِّه فلا يدركه إلا بإخبار من الله تعالى، وهذا الإخبار هو الشرع الذي جاء به الوحي إلى الرسل.

والشرع مدح أشياء وأفعال وبيَّن أن الله يثيب عليها، وذمَّ أشياء وأفعال وبيَّن أن الله يعاقب عليها، لذلك كان الحكم عليها بالحسن والقبح من جهة المدح أو الذم ومن جهة الثواب والعقاب هو لله تعالى، وليس للإنسان. وإن حكم الإنسان عليها من جهة واقعها أو من جهة ملائمتها أو منافرتها لفطرته لا قيمه له، ولا دخل له عند قيام الإنسان بالعمل، فالمسلم يجاهد، ويحمل الدعوة، ويصوم كما أمره الله، وإن لم يدرك حسن واقع هذه الأعمال، وهو يجتنب الربا والزنا والتجسس، وإن لم يدرك قبح هذه الأعمال، أو كانت ملائمة لهواه.

ففي الإسلام، الحسن ما حسّنه الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، قال تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمْ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمْ الْخَبَائِثَ)، فالطيّب ما أحلّه الله، والخبيث ما حرّمه الله، وليس ما لائَم أو نافر فطرة الإنسان وعقله، فالعنب طيب وحسن، والخمر المصنوع منه خبيث وقبيح، والبيع حلال وحسن، والربا حرام وقبيح.

الحلال والحرام

إن ألفاظ، الخير والشر، والحسن والقبح، ألفاظ عربية، وضعها العرب أصلاً لتدلَّ على معانٍ معينة، واستعملها الشارع في القرآن والسنة، لتدل على معانيها اللغوية كما وصفها العرب في موضع، ولتدل على معان شرعية في موضع آخر، وذلك حسب القرائن المصاحبة لها. وأما الحلال والحرام، فهما لفظان نقلا من معناهما اللغوي إلى المعنى الشرعي، وأهمل المعنى اللغوي، فهما حقيقتان شرعيتان أينما وردتا في الكتاب والسنة، قال رسول الله r: «إن الحلال ما أحل الله في كتابه، والحرام ما حرم الله في كتابه، …» وبقوله r: «إن الحلال بيّن، والحرام بيّن… ».

فالحلال ما سمح الله به، ولم يرتب على فعله أي عقوبة والحرام ما حذر الله منه، ورتب على فعله عقوبة في الدنيا أو الآخرة.

فأحكام التكليف في الإسلام لا تخرج عن واحد من هذه الأنواع الخمسة، والتي يشملها المقياس الشرعي: “الحلال والحرام”، وأما أحكام الوضع وهي السبب والشروط المانع، والرخصة والعزيمة، والصحة والبطلان والفساد، فهي تابعة لها ومتعلقة بها،وتأخذ حكمها. فكان مقياس الخلال والحرام، هو المقياس الشرعي لكل الأشياء والأفعال اللازمة للإنسان في حياته الدنيا، فيجب عليه الالتزام به.

وقد ثبت باستقراء الأدلة الشرعية المتعلقة بالأشياء أنَّ “الأصل في الأشياء الإباحة ما لم يرد دليل التحريم” وأنَّ “الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي” فلا يوجد في الكون شيء أو فعل إلا وأنزل الله له حكماً شرعياً، إما حلالاً وإما حراماً، فإن لم يجد المسلمون حكماً لشيء أو فعل، فهو نتيجة تقصيرهم في الاجتهاد لاستنباط الأحكام الشرعية، وليس هو نتيجة قصورٍ أو نقصٍ في الأدلة الشرعية، لأن الله تبارك وتعالى نص بوضوح على اشتمال الإسلام لكل حكم يلزم الإنسان إلى يوم القيامة، قال تعالى: (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا) وقال عز وجل: (وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ) وكذلك، يحرم على المسلم أن يصف فعلاً أو شيئاً بالحلال أو الحرام دون دليل شرعي، قال تعالى: (وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمْ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ).

الفرق بين هذه المقاييس

هناك فرق بين وصف الأفعال بالخير والشر، وبين وصفها بالحسن والقبح، وبين وصفها بالحلال والحرام.

أما وصفها بالخير والشر فهو آت من حيث أثرها، ومن حيث الإقدام عليها أو الإحجام عنها، فالأصل في المسلم أن يقدم على فعل ما، ويصفه بالخير إن كان هذا الفعل يرضي الله، وأن يحجم عنه فعل ما، ويصفه بالشر إن كان هذا الفعل يجلب سخط الله، لأن الله وعد الذين رضي عنهم بالجنة، ووعد الذين غضب عليهم بالنار.

وأما الحكم على الأفعال بالحسن والقبح، فإنَّ المسلم يصف الفعل بالحسن إن كان الشرع قد مدحه أو رتّب عليه ثواباً، ويصفه بالقبح إن كان الشرع قد ذمه أو رتب عليه عقاباً، بصرف النظر عن قيام الإنسان بالفعل أو عدم قيامه به.

وأما مقياس الحلال والحرام فهو أكثر تفصيلاً، لأنه شامل لأنواع الأحكام الخمسة، وهي: الواجب والمندوب والمباح والمكروه والحرام، وما تعلق بها من أحكام الوضع وهي السبب والشرط والمانع، والرخصة والعزيمة، والصحة والبطلان والفساد. وقد عبر الفقهاء عن هذا المقياس بقولهم “الحكم الشرعي” وعرفوه بأنه خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع. والاقتضاء الطلب، فإن كان طلباً جازماً فهو الواجب، وإن كان غير جازم فهو المندوب، وإن كان الطلب طلب ترك جازم فهو الحرام، وإن كان غير جازم فهو المكروه، والوضع هو جعل الشيء سبباً أو شرطاً أو مانعاً أو رخصة وعزيمة أو صحة وبطلاناً.

والحكم الشرعي هذا يلزم المسلم أن يعرفه قبل قيامه بالفعل، أو تركه له لأن الأصل في الأفعال التقيد بالحكم الشرعي، وعليه فإن وصف الأفعال بالخير والشر، أو بالحسن والقبح، أو بالحلال والحرام هو للشرع الذي أنزله الله، وليس للقوانين التي وضعها الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *