العدد 104 -

السنة التاسعة – رجب الفرد 1416هـ – كانون الأول 1995م

البعد العقائدي والحضاري لهجوم الغرب على الإسلام والمسلمين

بقلم: محمد عبد القادر – تونس

لما أفل نجم المسلمين وتقلص نفوذهم وضعف سلطانهم هانوا على الكفار فطمعوا فيهم واحتلوا بلادهم وجزأوها وكان من سذاجة أبناء المسلمين أنهم لم يعوا على طريقة الغرب في تنفيذ فكرته إذ لم يروا في الكفار سوى المستعمرين غير مدركين أن الاستعمار بأنواعه من فرض للسيطرة السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية… هو طريقة نشر المبدأ الرأسمالي ووجهة نظر الغرب في الحياة بين الأمم الأخرى، فحصل لدى الشعوب الإسلامية أن فصل بين الاستعمار وكونه طريقة الغرب الثابتة في إيجاد وجهة نظره ونشر فكرته، ثم فصل بين الاستعمار المباشر الظاهر في السيطرة العسكرية المباشرة وأنواع التبعية الأخرى بأشكالها المختلفة من تبعية سياسية وثقافية وفكرية واقتصادية… ولذلك قاوموا الوجود العسكري المباشر ولم يواجهوا الفكر وناهضوا الاستعمار العسكري ورضوا بالتبعية بأنواعها الأخرى.

وهذا التناقض المبكي ما كانوا ليقعوا فيه لو خبروا المبدأ الرأسمالي فكرة وطريقة إذ لو كان الحال كذلك لما رضوا باستقلالات مزيفة ولا بحدود مصطنعة ولا بحكام أخلصوا لكل شيء إلا لمبدئهم ولما فيه خير أمتهم ولما قبلوا بمفاهيم تبعدهم عن التقيد فكراً وسلوكاً بما انبثق عن عقيدتهم. ومن هنا ندرك ما عبر عنه القاضي تقي الدين النبهاني في وصفه لكل نوع من الكفاح لا يستهدف المبدأ ولا يربط بين الاستعمار بأنواعه وكونه طريقة الغرب الثابتة في نشر المبدأ الرأسمالي أو لا عي على تغيير أشكال الاستعمار وأساليبه… بأنه كفاح رخيص وإن بذلك فيه الدماء الوفيرة فهو وإن كان يناهض شكلاً من أشكال الاستعمار فإنه يمهد للأشكال والأساليب الأخرى وهو وإن كان يناهض فكرة الاستغلال وابتزاز خيرات الشعوب فإنه يقبل وينحني أمام الكفر: عقائدَ ونظماً من مثل الديمقراطية وما تقول به من سيادة الشعوب والحريات العامة…

ويمكننا أن نلقي الأضواء على ما خفي من أشكال صراع الغرب مع الأمة الإسلامية أو لنقل ما تعمد الغرب إخفاءه عنا ليتمكن من استمرار فرض سيطرته، ولننطلق من أساسيات البحث في هذا الموضوع، يقول الدكتور محمد محمد حسين في كتابه (الإسلام والحضارة الغربية) محاولاً استكشاف أنواع الصراع الدائر في العالم الإسلامي: “إذا كان الصراع السياسي والاقتصادي هو أبرز ما يستلفت النظر في هذه الصراعات وقد يبدو للنظرة المتعجلة أخطرها، فهو عند المتأمل المتأني المتعمق يبدو أقل خطراً من الصراع الفكري والحضاري، ذلك لأن الظروف السياسية والاقتصادية كثيرة التقلب سريعة التبدل… أما التغيير الفكري والحضاري فهو بطئ في سريانه وفي تفاعله ولكنه في الوقت نفسه طويل المدى في تأثيره. فالتغير السياسي والاقتصادي قد يحدث فجأة بين عشية وضحاها بسبب انتصار حربي أو بسبب تغير أشخاص ذوي فاعلية سياسية كبيرة أو ثقل دولي أو بسبب ضغوط اقتصادية أو حربية أو نفسية لهذا أو ذاك من الأسباب وفي هذه أو تلك من الصور والأساليب الظاهرة أو الخفية وبمقدار ما هو سريع في التغير والتقلب فهو سريع في زوال آثاره بحيث تبدو الأمور حين نزلوا أسباب التغير السياسي والاقتصادي وكأنه لم يكن، أما الصراع الفكري والحضاري أو التفاعل الفكري والحضاري فهو لا يتم بهذه السرعة ولا يكاد الذين يعيشونه ويعاصرونه يدركون آثاره، فليس من السهل فصل الناس عما ألفوا من عادات وتقاليد وما توارثوا من عقائد”.

فإذا أضفنا إلى هذا البحث في أنواع الصراع ما ذكره القاضي تقي الدين النبهاني عن المبدأ الرأسمالي في قوله: “وأما الطريقة التي يتبعها المعسكر الرأسمالي لتنفيذ فكرته فهي الاستعمار أي فرض السيطرة السياسية والعسكرية والثقافية والاقتصادية على الشعوب المغلوبة لاستغلالها. وهذه الطريقة وهي الاستعمار ثابتة لا تتغير مهما تغيرت الحكومات… والاستعمار ليس كما يقول لينين هو أعلى مرحلة من مراحل الرأسمالية بل الاستعمار هو جزء من وجهة النظر الرأسمالية وهو الطريقة التي تُنشر الرأسمالية بواسطتها في الشعوب والأمم… ويجب أن يلاحظ عند فهم طريقة المعسكر الغربي أن هذه الطريقة تتطور مع الزمن ومن جملة تطورها ما حصل فيها من تغير في أساليبها وكونها أصبحت أقرب لأن تكون غاية من أن تكون طريقة، أما تغير أساليبها فإن ما يسمى بالاستعمار الجديد قد تغيرت فيه السيطرة العسكرية، فأميركا أصبحت تعتمد في استعمارها على الناحية الاقتصادية من أمثال القروض وما يسمى بمشاريع التنمية… وإنجلترا صارت تعتمد على إيجاد رجال يكونون لها عملاء وعلى رجال الاستخبارات الإنجليزية وعلى حكام البلاد من عملائها. وتعتمد إلى جانب ذلك على الناحية الاقتصادية من مثل القروض والصفقات التجارية المشبوهة… ” وفي توكيده على أن الاستعمار يبقى دائماً طريقة تنفيذ المبدأ الرأسمالي رغم كونه أصبح غاية أكثر منه طريقة يقرر النبهاني. ولكن مع هذا فإن المدقق يرى أن نشر الفكرة الرأسمالية وحضارة الغرب وعقيدته وإن اتخذت لها أساليب من مثل المدارس والجامعات والمبشرين وغير ذلك فإن هذه وأمثالها إن هي إلا أساليب، وحتى هذه الأساليب لا يتمكنون من استعمالها إلا إذا وجدت السيطرة أي إذا وجد الاستعمار ولذلك لا يزال الاستعمار هو طريقة المعسكر الغربي لتنفيذ فكرته” ندرك وقاع سياسة الغرب تجاه العالم الإسلامي ووجوب مقاومة الأشكال المتعددة للاستعمار وأخصها الثقافي وكفاحها.

أما كيف مارس الغرب هذه السياسية؟

حرص الغرب منذ زمن بعيد على أن يحدث تغيرات سياسية واقتصادية في العالم الإسلام تثمر تحولات سريعة ولكنه كان أكثر حرصاً على إيجاد التغير في المفاهيم الحضارية أي المفاهيم والمقاييس والقناعات المتعلقة بوجهة النظر في الحياة فعمد إلى الهجوم على مفاهيم العقيدة الصحيحة محاولاً تعكير صفوها في أذهان المسلمين وإيجاد الغشاوة على حقائقها الناصعة. وكذلك إلى الهجوم الواسع على الأحكام الشرعية التي تمثل النظام الذي يضبط علاقات الدولة والمجتمع، مستهدفاً بذلك على المدى البعيد تحلل استبدال بمفهوم الإسلام الصحيح عن السعادة مفهوم الغرب الخاطئ عنها.

ويلحظ الناظر في التاريخ أن أعمال الغرب لتحقيق أهداف التغير الحضاري أخذت صوراً متعددة منها:

1- الغزو التبشيري للعالم الإسلامي:

بالرغم من الانحطاط الفكري الذي أصاب الأمة الإسلامية منذ أواخر العصر العباسي إلا أن الأمة الإسلامية احتفظت بدورها القيادي في هداية الأمم والشعوب وبقيت حاملة راية الجهاد مما مكنها من فتح شرق أوروبا وجنوبها مثل بلغاريا وألبانيا ويوغسلافيا ومن قبلها اليونان وقبرص وصقلية مما حدا بالغرب الممزق إلى توحيد جهوده في حرب شعواء للقضاء على الإسلام ودولته، ومن أساليب هذه الحرب إنشاء الجمعيات التبشيرية التي انتشرت بشكل واسع في بلاد المسلمين للتبشير بدين النصرانية وتسريب الثقافة الغربية للمسلمين مع ما رافق من تشكيك المسلمين في دينهم وحملهم على الامتعاض منه وعلى احتقار تاريخهم وتمجيد الغرب وحضارته ثم عملت هذه الجمعيات على بذر الأفكار القوية وتوجيه حَمَلتها من العرب والأتراك على وجه الخصوص لتحقيق غرضين أساسين هما:

1- فصل العرب عن الدول العثمانية كمقدمة للإجهاز عليها.

2- “الإصلاح الديني وتطوير الفكر الإسلامي”:

لقد عمل الغرب على إيجاد عملاء له في أوساط علماء المسلمين من أجل خدمة أغراضه في تحوير الفكر الإسلامي بشكل يتفق مع حضارته ووجهة نظره في الحياة، ولاقى في عمله هذا نجاحاً منقطع النظير فاق ما حققته جيوشه طوال عقود. فقد أحاط رجالَه هؤلاء بهالة من التقديس وأبرزهم كمصلحين همهم انتشال الأمة مما تردت فيه وغايتهم تحقيق نهضتها والنـزوع بها إلى الرقي. ومن هؤلاء على سبيل المثال لا الحصر جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. وقد لجأ الغرب إلى هذا الأسلوب لِما لمسه عند المسلمين من رفض له ولمفاهيمه ومن ارتباط بالإسلام وإجلال لعلمائه في المقابل. ولذل فإنه ولج باب صناعة العملاء من بين العلماء الذين ابتاعوا عَرَض الدنيا الزائل برضوان الله ونعيم الآخرة. يقول الدكتور محمد محمد حسين “إن هدم العقيدة من ناحية ومحاصرتها من ناحية أخرى هو أصلح تمهيد لإقناع المسلمين بتطوير قيم الإسلام، فهذا التطوير لا بد – لكي يثمر ثمرته المرجوة – أن يَحْدُث بأيدي المسلمين أنفسهم، وهم لا يفعلونه إلا إذا ضعف يقينهم بالإسلام فاعتقدوا أنه يتعارض مع الحياة اليومية من ناحية أو تعوّدوا إهماله وعدم التقيد بالتزام قواعده في شؤون الحياة من ناحية أخرى اقتناعاً منهم بأن دائرته لا تتجاوز شؤون العبادات ولا تتعداها إلى السلوك والمعاملات وتنظيم المجتمع” ويضيف: “ومن أخفى هذه الوسائل التي يقترحونها لتطوير الفكر الإسلامي اتخاذ التلفيق الفقهي وسيلة للاقتراب من الفكر الغربي وتقليد أنماطه الاجتماعية أو تسويغها باسم الاجتهاد ووجوب فتح بابه لمواجهة ما جد وما يجد من كائنات. وبذلك تيسر إيجاد إسلام لفقت شرائعه من هنا ومن هناك وليس مهماً أن تتعارض الأصول والأسس التي قامت عليها هذه الآراء الفقهية الملفقة وليس مهماً أن يكون أصحابها أكفاء أو غير أكفاء، ولكن المهم أن يوجد إسلام جديد يمثل ما يدعو إليه الاستعمار من تفاعل الإسلام والحضارة الغربية. فالإسلام الجديد مأخوذ من مصادر إسلامية لا شك وليس منقولاً عن مصادر غربية، ولكن الذي يخفى على الناس هو أن اختيار المصادر والآراء الإسلامية جرى على أسس ومقاييس غربية، وصدر عن رغبة في مطابقتها أو الاقتراب منها” ولقد كان من يسمونهم برواد الإصلاح طلائع جيش العلماء العملاء الذين أوجدوا “الإسلام الغربي” وما زالت نبتتهم الخبيثة تطرح بشوكها في طريق نهضة الأمة. إن هذا التطوير الذي استهدف الغربُ تحقيقه في العالم الإسلامي، أراد به الغرب شيوع الحضارة الغربية في شتى علاقات المجتمع في بلاد المسلمين. يقول الدكتور محمد محمد حسن: “والواقع أن أدراك حقيقة الشيء يستلزم النظرة الشاملة التي تحيط به من كل نواحيه. والذي ينظر إلى التطوير هذه النظرة الشاملة يستطيع أن يدرك خطورته ومدى آثاره فإذا عمل صاحب اللغة على تطوير اللغة العربية، وعمل الخطاط على تطوير الخط العربي، وعمل الأديب على تطوير الأدب وطرائق التعبير والتخيل والنظم والأسلوب بل والموضوع، وعمل الموسيقي على تطوير الألحان ونظامها، وعمل الاخلاقيون على تطوير القيم والعادات والتقاليد وتطوير الزي واللباس والأثاث، فأي صلة تبقى لنا بالماضي؟ وأي خلية من خلايا عقولنا وأي زاوية من ضمائرنا وأي قطاع من شخصيتنا يصبح امتداد لعقول الآباء والأجداد وضمائرهم وشخصياتهم؟ بل أي صلة سوف تربط المسلم بالمسلم… وأي مُثل صالحة من نماذج السلف الصالح نقتدي بها، وأي قيم موحدة يمكن عند ذلك أن تجمعنا؟”

لذا وجب على المسلمين أن يعوا حقيقة الصراع بين الغرب والمسلمين ويفقهوا أن البعد العقائدي والحضاري هو أساس الصراع، وليعلموا أن عملية تزوير الإسلام والتلفيق الفقهي والتشريعي لا تزال قائمة على قدم وساق، فالإسلام الغربي ما زال له دعاته ومروجوه ومعاهده مؤسساته، فحملة الدعوة للديمقراطية والتعددية ودعاة الحريات العامة، وحوار الحضارات، وأصحاب دعوات التجديد ما زال لهم قوة المال ووجاهة السلطان، فالحذرَ الحذرَ أيها المسلمون من دعاةٍ على أبواب جهنم، وليكن لكم في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم معتصماً وإماماً مبيناً، واستجيبوا لقول الحق تبارك وتعالى: (فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *