العدد 106 - 107 -

السنة العاشرة – رمضان وشوال 1416هـ – شباط وأذار 1996م

من التاريخ: عبرة من الأندلس

بقلم: طالب نصر الله

دام حكم المسلمين في الأندلس ما يقرب من ثمانية قرون، في البداية كان الحكم يتبع الخلافة الأموية ثم تحول إلى الإمارة بعد قدوم (عبد الرحمن الداخل) من الشام عقب سقوط الأمويين، ثم أعلن عبد الرحمن الناصر الخلافة في الأندلس عندما علم بضعف الخلافة العباسية، واستمر عهد الخلافة ما يزيد قليلاً عن قرن.

جاء بعد الخلافة عصر ملوك الطوائف (بين سنوات 1301 و1094م) وتبعه عصر المرابطين مدة 36 سنة ثم دولة الموحدين التي عاشت 78 سنة، وصمدت غرناطة لوحدها قرابة قرنين حتى ضياع الأندلس بالكامل سنة 1492م.

هذه المقدمة ضرورية لاستخلاص العبرة من قصة نموذج من نماذج الخيانة والتفريط.

انقسمت الأندلس إلى عدد كبير من الدويلات الهزيلة بعد انهيار الخلافة التي أسسها عبد الرحمن الناصر لدين الله، وهذا هو عصر ملوك الطوائف، كان شعار أحدهم المقولة السائدة في ذلك الوقت (الإمارة ولو على الحجارة). لقد رضيت أنفسهم الدنيئة أن يكون ملك الواحد منهم قطعة تافهة من الأرض، وكانت أقوى تلك الكيانات الكرتونية مدينة أشبيلية وضواحيها الواقعة تحت الحكم الذاتي لسلالة آل عباد، وهؤلاء عرب من أصل قحطاني. من أبرز حكام دويلة أشبيلية المعتمد بن المعتضد بن عباد. لقد سرق هؤلاء الملوك الأقزام أسماء الخلفاء العباسيين العمالقة رغبة في نفخ أنفسهم وجعلتهم عقدة النقص لا يرضون إلا بلقب أمير المؤمنين. أورد ابن خلدون في المقدمة بيتي شعر للشاعر ابن شرف يتحدث عن ذلك الواقع البائس:

مما يزهدني في أرض أندلس

                  أسماء معتضد فيها ومعتمد

ألقاب مملكة في غير موضعها

                  كالهر يحكي انتفاخا صورة الأسد

كان ملوك الطوائف عملاء للمالك النصرانية الشمالية، وكانت دويلاتهم تدفع الجزية لملوك الأسبان. كشف بعض الرجال الواعين عملة المعتمد بن عباد لمملكة قشتالة النصرانية لكنهم لم يعلنوها لأنها كانت سرية، وكان هو يتظاهر بالاستقلالية. بالإضافة إلى ذلك كان المعتمد حاكماً مستبداً امتاز بالقسوة المفرطة على مخالفيه، وكانت أجهزة الأمن الوقائي لديه تمارس القمع والبطش ضد الجماهير في مكان يدعى حديقة الرؤوس.

كانت علاقة المعتمد بن عباد بغيره من ملوك الطوائف مليئة بالخيانة والغدر وتدبير المكائد، فقد جعل مثلاً ابن ذي النون يخسر قرمونة وقرطبة بالخداع. لم يكن ملوك الطوائف يتورعون عن الاستعانة بالكفار ضد بعضهم البضع واستخدموا جنوداً مرتزقة من الأسبان في حروبهم القذرة. كان أحدهم يقول للأسبان: انصرني على ابن عمي ولك قلعة، فيقول الآخر: إن نصرتني على ابن عمي أعطيتك قلعتين. فيختار الأسبان ما يريدون ويجعلون الجميع يخسرون في نهاية المطاف.

بتشجيع من المعتمد، قامت في أشبيلية سوق رائجة لفنون الشعر والغناء والرقص، وكان البلاط الملكي يقيم الحفلات للخلافة والمجون يتباهى من يحضرها بمغازلة النساء وحتى الغلمان بدون حياء. حين كانت أشبيلية غارقة باللهو والانحلال، كان الأعداء يحاصرون مدينة طليطلة، ولدى سقوطها في قبضة الكفار الذين نحروا الآلاف من سكانها، لم تزحزح صيحات الاستغاثة المعتمد عن لعبة الشطرنج مع وزيره أبي بكر بن عمار.

أدرك الأسبان مدى سقوط أخلاق الأندلسيين وفسادهم آنذاك فطمعوا بالحصول على المزيد من المكاسب إضافة إلى طليطلة التي يقال إنه صاحب سقوطها خسارة 80 موقعاً. أرسل ألفونسوا ملك قشتالة إلى ملوك الطوائف مُطالباً بمبالغ إضافية مع تسليم عدد من القلاع والحصون. من ضمن ذلك الرسالة الشفهية التالية التي وجهها إلى المعتمد (كيف أترك قوماً مجانين تسمى كل واحد منهم باسم خلفائهم العظام: المعتضد والمعتمد والمعتصم والمتوكل… وكل واحد منهم لا يسل في الذب عن نفسه سيفاً ولا يرفع عن رعيته ضيماً ولا حيفاً؟ قد أظهروا الفسوق والعصيان واعتكفوا على المغاني والعيدان، وكيف يجوز لبشر أن يقر منهم على رعيته أحداً وأن يدعها بين أيديهم سدى؟).

كما كان رد المعتمد عاجزاً جباناً فكذلك كان جواب المتوكل على الله، وهو ملك طوائف لا تكاد سلطته تتخطى حدودها مدينة بطليوس الواقعة شرق مدينة لشبونة، ومثلها أيضاً كانت ردود الفعل التافهة لحوالي 30 من ملوك الطوائف.

تقدم ألفونسو واحتل ضواحي أشبيلية ووقفت جيوشه قبالة مدينة أشبيلية المحصنة ومن هتاك أرسل متهكماً يطلب مروحة من المعتمد ليطرد الذباب عنه، على نفس ورقة الرسالة. كتب له المعتمد أنه سيتعين بجيوش المرابطين في المغرب.

أثناء الحصار، قال الرشيد لوالده المعتمد (حاول الأمر بجهدك مع النصراني، ولا تستعجل بإدخال من يسلبنا الملك وتشتت الشمل، فالناس من علمت)، فقال له المعتمد: (يا ولدي لأن أرعى البعير في صحاري المغرب خير من أن أرعى الخنازير في جبال قشتالة).

نيابة عن ملوك الطوائف أرسل المعتمد إلى يوسف بن تاشفين سلطان المرابطين طالباً المساعدة، فلبى هذا البطل النداء وعبر من المغرب إلى الأندلس ويسر الله له النصر فاستعاد الأندلس بكاملها فيما عدا مدينة طليطلة.

ما كاد يوسف بن تاشفين ينهي واجبه، حتى أحاطه ملوك الطوائف بالمؤامرات وأفرغوا في ذلك المخزون القدر المتراكم لديهم. لذلك قرر البطل تنحيتهم عن عروشهم فكان مصير المعتمد النفي للمغرب. الناجي الوحيد كان ملك طوائف يدعى المستعين بالله بن هود حاكم سرقسطة، حيث حافظ على كرسيه النتن بإرسال الولاء والهدايا ووعد يوسف بأن يكون سداً منيعاً بينه وبين الكفار.

ما إن توفي يوسف بن تاشفين حتى أصيبت دولة المرابطين بالهزال لأن القوم من بعده استسلموا لحياة الترف والفساد، فسقطت سرقسطة في يد الأعداء في عهد على بن يوسف.

قامت دولة الموحدين في المغرب فقضت على المرابطين وحلت محلهم في شمالي أفريقية والأندلس، واستعادت قسماً كبيراً من الأندلس. وعلى الرغم من أن هذه الدولة قد قامت لمعالجة الانحراف، إلا أنها لم تلبث أن سقطت في وهدة الفساد الداخلي والترف والصراع القبلي فانهزمت في معركة العقاب في عهد أميرها الخامس الناصر أبي عبد الله محمد. كانت الهزيمة مريرة في عصر الطوائف الثاني هذا، واندفع الأسبان بعدها يتخطفون مدن الأندلس واحدة وراء الأخرى، فسقطت بلنسية ومرسية وجيان وقرطبة وشاطبة وأشبيلية، ولم يتبق سوى غرناطة التي صمدت حتى انهارت ما يقارب القرنين.

لقد زرعت دويلات الطوائف الأولى خلال 63 سنة من عمرها أوبئة من الفسق وجرائم من الفجور انهارت أمامها مقاومة المرابطين ثم الموحدين من بعدهم. كان هؤلاء القوم يتصفون بالبساطة ويعيشون على الفطرة في المغرب. صحيح أنهم قد سيطروا على الحكم، لكنهم لم يبنوا دولة بمعنى الكلمة ولم يوجدوا الوعي العام، ولم تكن لديهم تهيئة فكرية قوية للصمود أمام شهوات الحياة، لذلك يمن القول إن الفساد الذي أنهى ملوك الطوائف زراعته سنة 1094م قد أثمر الزقوم بعد أربعة قرون حين سقطت غرناطة سنة 1492م.

ليس من طبع المسلم أن يأسى على ما فات، ولكن عليه أن يتعلم من الأحداث، ومن النادر أن ترى إنساناً يفكر في أبعاد وامتدادات ما يقترفه من إثم. كانت الأندلس مليئة بالخونة وقصار النظر وضيقي الأفق والأنانيين في عصر الطوائف الأول، استهانوا بأفعالهم الدنيئة حين ارتكبوها لكنها كانت مثل شرارة صغيرة نشرت حريقاً في غابة كبيرة. كانوا يجهلون أن حماقات اليوم قد تكون باعثاً على مآسي الغد، وانطبق عليهم قول المتنبي: لا يبلغ الأعداء من جاهل ما يبلغ الجاهل من نفسه.

لم يستجيبوا لوصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن كل واحد من المسلمين على ثغرة من ثغور الإسلامي فلا يؤتين من قبله. أعمتهم متعة اللحظة عن تصور مصيبة المستقبل، وزين لهم الشيطان سوء أعمالهم. اندثروا وزال عنهم كل ما كانوا يحرصون عليه وكأن القوم ما كانوا.

ماذا بقي لنا من الأندلس بعد خمسة قرون من فقدانها؟ لقد ذهب المفرطون والخونة إلى مزابل التاريخ، ولم يتبق لنا سوى السيرة العطرة لأولئك الأبطال الذين سطروا فعال المجد على ثرى الأندلس وعلى من يهمه أمر هذه الأمة أن لا يسمح بتكرار هذا المأساة.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ المُقسطينَ عند الله على منابر من نورٍ: الَذين يعدلونَ في حُكمهم وأهليهم وَمَا وَلوا». رواه مسلم.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أهلُ الجنةِ ثلاثةٌ: ذُو سلطانٍ مُقسطٌ مُوفق، ورجلٌ رَحيمٌ رَقِيقُ القلبِ لِكُل ذي قُربى ومسلمٍ، وَعفيفٌ متعَفف ذو عيالٍ». رواه مسلم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *