العدد 108 -

السنة العاشرة – المحرم 1417هـ – أيار 1996م

الملف السياسي: الحزب السياسي والقيادة السياسية واقعهما في الإسلام (6)

بقلم: فتحي عبد الله

في الأمة الواحدة وفي المجتمع الواحد لا يتأتى وجود قيادتين سياسيتين مبدعتين في آن واحد… وقد يتوهم الكثيرون وجود مثل هاتين القياديتين السياسيتين لما يظنونه من وجود شبه أو أوجه للشبه بينهما… ولو فرض وجود مثل هذا التشابه لاستحال وجودهما حركتين… إذ لو كانتا كذلك لما كانتا إلا حركة واحدة وقيادة سياسية واحدة… والمثل السائر على ألسنة الناس أن جوادين لا يربطان على مَذْودٍ واحد… فمن نافلة القول إذن أن يقال… أو أن يجري التساؤل لم لا تتوحد الحركات الإسلامية وهي كلها تحمل فكرا واحداً وأهدافاً واحدة… إن مثل هذا التساؤل أو هذا القول غير وارد هنا فلو كانت الحركات تحمل فكرا واحدا وأهدافا واحدة لما كانت إلا حركة واحدة فقط.

هذه القيادة السياسية المبدئية ليست شخصا بحد ذاته وليست أشخاصا كذلك وإنما هي فكرة كلية لمع في ذهن شخص حباه الله من عمق التفكير واستنارته ومن الإحساس المرهف ما جعله يحلق بفكره هذا عن أجواء المجتمع رغم أنه يعيش فيه ويرتفع عن الواقع السيئ الذي تتردى فيه الأمة في هذا المجتمع بجعله موضع التفكير لتغييره لا مصدر التفكير. فهو لا يستقي فكره إلا من الفكرة التي لمعت في ذهنه ومن طريقتها التي اهتدى إليها بتفكيره المستنير بعد أن صدق بالفكرة والطريقة تصديقا جازما لا يتطرق إليه أدنى شك أو ارتياب. ولما كان هذا الفكر الذي يحمله من أشرقت في ذهنه اللمعة الأولى للدعوة إليه فكرة عالمية عن الوجود تصحبها طريقة من جنسها لتنفيذها… فهو على هذا الأساس فكر عالمي لبني الإنسان ففي كل زمان ومكان لا يطيق أن يبقى حبيسا في ذهن من اهتدى إليه بل يدفعه دفعا ويسوقه سوقا إلى الدعوة إليه  فيناقشه مع غيره من أبناء أمته لينتقل إليهم انتقالا طبيعيا بناءا على التصديق الجازم به ليصبح لديهم قناعات لا تحتاج إلى نقاش في قرارة نفوسهم ومتى انتقلت الفكرة من خليتها الأولى إلى غيرها من الناس لا تعود هذه الفكرة ملكا لأحد بل تصبح ملكا للجماعة التي تلقتها وآمنت بها فينشأ من ذلك كيان فكري عقائدي يأخذ على عاتقه مسؤولية العمل لتغيير الواقع وهدم الكيانات السياسية القائمة ليحلَّ هو محلها كي يقوم بعملية تنظيم المجتمع وإحداث النهضة. هذا الكيان الفكري هو كل فكري شعوري وهو القيادة السياسية المبدئية الكفيلة بصرع أضخم الكيانات السياسية وأعتاها وهو قيادة تكون بادئ أمرها بطيئة الحركة ولكنها طويلة النفس بعيدة مدى الرؤية السياسية، ترى ما لا يرى الناس فتبصر ما وراء الجدار ومثل هذه القيادة السياسية لا يكون تكتلا روحيا ولا تكتلا علميا ولا تعليميا ولا تكتلا خيريا ولا منظمة قتالية ولا شيئا من هذا ولا ذاك وإنما هي تكتل سياسي روحها الفكرة التي قامت عليها وهي نواتها وهي سر حياتها.

وقيام مثل هذه القيادة السياسية أو الحزب السياسي أمر لا بد منه في مجتمع كالمجتمع القائم في العالم الإسلام ي… لا بل إن الإسلام يفرض مثل هذه القيادة السياسية وهذا الحزب السياسي استجابة لأمر الله في محكم التنزيل )وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ( بغية إنهاض الأمة الإسلامية من كبوتها وانتشالها من الهوة السحيقة التي ما زالت تتردى فيها والانحدار الشديد الذي وصلت  إليه  ولتحررها من أفكار الكفر وأنظمته وأحكامه ومن سيطرة الدول الكافرة ونفوذها ولا سيما الدول الكبرى أشد أعداء الإسلام  والمسلمين.

في الوقت الذي تعمل فيه القيادة السياسية أو الحزب السياسي لإعادة دولة الخلافة الإسلامية إلى الوجود حتى يعود الحكم بما أنزل الله وتحمل رايات الجهاد لإنقاذ العالم من الأنظمة الوضعية الكافرة وجورها وفسادها وإفسادها كالرأسمالية والديمقراطية وغيرها من النظم التي تريد مشاركة الباري عز وجل في تنظيم شؤون حياة الناس.

حقيقة مهمة القيادة السياسية

ومسؤولية هذه القيادة السياسية لإنهاض الأمة الإسلامية من الانحدار الذي وصلت إليه  تقتضي أن تقوم هذه القيادة بالعمل على رفع هذه الأمة فكرياً عن طريق تغيير الأفكار والمفاهيم التي أدت إلى انحطاطها تغييرا جذريا شاملا وإيجاد أفكار الإسلام ومفاهيمه ومقاييسه الصحيحة لديها كي تقوم الأمة بتكييف سلوكها وتصرفاتها في الحياة وفق هذه الأفكار والمفاهيم والمقاييس الإسلامية.

وهذه العملية تعني إحداث الانقلاب الفكري الشعوري لدى الأمة الإسلامية حتى يتغير حالها ويتغير واقعها (إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) وهي عملية تختلف كل الاختلاف عما عاشته هذه الأمة من عمليات أو محاولات لإنقاذها أو إنهاضها من كبوتها… فهي عملية فكرية سياسية بحتة لا تمت إلى الأعمال المادية بصلة كحمل السلاح مثلا ولا تمت إلى الأعمال الإصلاحية أو التربوية أو الخيرية أو التعاونية أو إصلاح الأخلاق أو إصلاح الأفراد بأي صلة مطلقا… لأن هذه كلها أعمال غفلت عن فساد المجتمع وسيطرة أفكار الكفر وأنظمته عليه… وإصلاحه لا يكون بمثل هذه الأعمال أبداً بل بإصلاح أفكاره ومشاعره وأنظمته مما يؤدي حتما إلى إصلاح أفراده… فالمجتمع ليس أفرادا فقط بل هو أفراد وعلاقات… والعمل يجب أن ينصب على العلاقات أي على الأفكار والمشاعر والأنظمة كما فعل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حين حول المجتمع الجاهلي إلى مجتمع إسلامي… حيث عمل على تغيير العقائد الموجودة بأفكار العقيدة الإسلامية وعلى تغيير الأفكار والمفاهيم والعادات الجاهلية بأفكار الإسلام ومفاهيمه وأحكامه، ثم بتغيير مفاهيم الناس من ارتباطها بعقائد الجاهلية وعاداتها وأفكارها إلى الارتباط بالعقيدة الإسلامية… حتى قيض الله له أن يغير المجتمع في المدينة حيث أصبحت جمهرة أهلها تدين بالعقيدة الإسلامية وتتبنى أفكار الإسلام وأحكامه وعندها هاجر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إليهم وأصحابه بعد بيعة العقبة الثانية وأخذ يطبق الإسلام فأوجد بذلك المجتمع الإسلامي في المدينة ومن ثم في الجزيرة العربية كلها. ولابد لهذه الحركة الجماعية أو القيادة السياسية المبدئية أن تفرق وهي تحمل الدعوة إلى فكرتها بين دار الكفر ودار الإسلام وهي بدورها لا بد أن تفرق بينهما كي تتبين كيفية العمل وكيفية حمل الدعوة إلى الإسلام… فالدار التي تعيش فيها هذه القيادة السياسية اليوم هي دار كفر لأنها تطبق أحكام الكفر وهي شبيهة بمكة أيام بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فحمل الدعوة فيها لا يكون إلا بالأعمال السياسية وليس بالأعمال المادية التي هي من عمل الفرد أو من عمل الدولة تماما كما حمل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الدعوة في مكة. حيث اقتصر على حملها فقط ولم يستعمل الأعمال المادية مع قدرته هو وأصحابه على استعمالها. فالمراد اليوم ليس تغيير حاكم حَكم بأحكام الكفر في دار الإسلام حتى يشهر السلاح في وجهه بل المراد تغيير دار الكفر بأفكارها وأنظمتها.

 

مسؤولية الحزب السياسي

ومسؤولية هذه القيادة السياسية أو هذا الحزب السياسي لإعادة دولة الخلافة والحكم بما أنزل الله آتية من حيث أن الله سبحانه وتعالى أوجب على الأمة الإسلامية التقييد بسائر الأحكام الشرعية كما أوجب عليهم الحكم بما أنزل. ولا يتأتى ذلك إلا بوجود دولة إسلامية وخليفة للمسلمين يطبق الإسلام على الناس… والأمة الإسلامية مر عليها أكثر من سبعين عاما وهي تحكم بغير ما انزل الله منذ هدم خلافتهم في استنبول في الحرب العالمية الأولى مما جعل دارهم دار كفر. والعمل لإعادة الخلافة الإسلامية وإعادة الحكم بما أنزل الله فرض حتمي على المسلمين يوجبه الإسلام ولا خيار لهم في ذلك ولا هوادة في شأنه وتقصير المسلمين في القيام به من أكبر المعاصي يعذبون عليه أشد العذاب من الله. لقوله صلى الله عليه آله وسلم “من مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية” فالقعود عن هذا العمل قعود عن القيام بالفرض لا بل قعود عن القيام بأبي الفروض الذي يتوقف على وجوده إقامة أحكام الإسلام جميعها وهو الحكم بما أنزل الله لا بل يتوقف عليه إيجاد الإسلام حيا في معترك الحياة، “وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”.

وقد تلافت هذه القيادة السياسية إلى جانب هذه المسؤولية الكبرى الملقاة على عاتقها أمام الله جميع النواقص وتبرأت من جميع الأسباب التي أدت إلى إخفاق التكتلات والحركات التي قامت وما تزال تقوم لإنهاض المسلمين بالإسلام… فأدركت بحمد الله الإسلام بفكرته وطريقته إدراكا فكريا دقيقا مما نزل به الوحي من كتاب الله وسنة رسوله ومما ارشدا إليه من إجماع الصحابة والقياس وجعلت الواقع موضع تفكيرها لتغيره وفق أحكام الإسلام والتزمت طريقة سيد المرسلين رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في سيره في حمل الدعوة والسير بها في مكة حتى أقام دولة الإسلام في المدينة وجعلت الرابط الذي يربط بين أفراد حركتها رباط العقيدة وما تبنته من أفكار الإسلام وأحكامه. فهي قيادة سياسية هاضمة لفكرتها مبصرة لطريقتها تعرف ما الذي يجب هدمه وما الذي يجب بناءه لأنها قامت على تفكير مستنير قائم على هدي الكتاب والسنة وما أرشدا إليه من إجماع الصحابة الكرام والقياس. جديرة بأن تحتضنها الأمة وأن تسير معها بل إن الواجب يحتم على الأمة الإسلامية أن تسير معها وأن تسلمها قيادتها لأنها هي القيادة السياسية الوحيدة التي التزمت في العالم الإسلامي بترسم سيرة الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وآله دون حيد قيد شعرة عنها ودون أن يثنيها أحد عن تحقيق غايتها وهي استئناف الحياة الإسلامية بإقامة الدولة الإسلامية وحمل الدعوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *