العدد 113 -

السنة العاشرة – جمادى الثانية 1417هـ – تشرين الثاني 1996م

سياسة التجارة الخارجية للدولة الإسلامية

سياسة التجارة الخارجية للدولة الإسلامية

إن واقع التجارة الخارجية يتمثل في عمليات البيع والشراء التي تجري بين الشعوب والأمم، أي تجري بين أفراد أو مجموعات من دول مختلفة، وتقوم الدول بتنظيم هذه التجارة والإشراف المباشر عليها، وتتحكم بحركتها عبر المراكز الحدودية بين الدول.

والتجارة الخارجية تعتبر من أهم المصادر التي ترفد الدول بالثروة وتحقق لاقتصادياتها فوائد عظيمة لما ينجم عنها من أرباح حقيقية طائلة.

والذي يؤكد هذه الحقيقة ما نشاهده من تطاحن شديد، وتنافس حاد بين الدول الكبرى من أجل فتح أسواق جديدة أو المحافظة على الأسواق القديمة لتصريف أكبر قدر من البضائع والخدمات ولاستيراد المواد الخام اللازمة للتصنيع من دون عوائق بقدر الإمكان.

إن التنافس الحاد بين الدول على الأسواق كثيراً ما أدى إلى نشوب حروب تجارية مريرة بين الدول والتكتلات الاقتصادية الكبرى في العالم.

والتجارة الخارجية للدولة والتجارة الدولية أصبحت من لوازم وجود الدول وبقائها فهي أمر لا مفر منه بالنسبة لكل دول العالم مهما اختلفت أيديولوجياتها ومناظيرها الاستراتيجية، فلقد انتهى العهد الذي كان يعيش فيه الأفراد لأنفسهم، وانتهت الأجيال التي كانت تعيش فيها كل أمة أو شعب بمعزل عن غيرها من الشعوب والأمم، وغدت التجارة الخارجية من مقتضيات الحياة لدى كل شعوب المعمورة. أما السبب الرئيس المنشط لقيام التجارة الخارجية والدولية بعد الحاجة والبقاء فهو الاختلاف في نسب تكاليف السلع المختلفة بين دولة وأخرى، وباختلاف نسب تكاليف السلع المختلفة يصبح من صالح الدول نشوء التجارة الدولية بينها وتصبح التجارة الخارجية لكل منها أحد أعمدة الاقتصاد فيها إن لم يكن عصبه الحقيقي، ونجاح التجارة الخارجية لدولة من الدول يعني نجاح أهم القطاعات المنتجة فيها كالصناعة والزراعة والجهود البشرية.

والدولة عادة أو الكيان التنفيذي فيها كالحكومة هي التي ترعى شؤون التجارة الخارجية مع الدول الأخرى، وبعد غياب الدولة الإسلامية منذ زمن بعيد طغت الأفكار الرأسمالية النفعية على سياسات جميع الدول المتعلقة بالتجارة الخارجية، وتعتمد أحكام التجارة الخارجية للدول الآن على منشأ البضاعة، بمعنى أن الرأسمالية تنظر للمال باعتبار المنشأ الذي أنتجه، أي أن الدول الآن لا تهتم بالتاجر وتابعيته وإنما تركّز اهتمامها على المال ومنشأ المال، أي تهتم بالدول التي جاءت منها البضاعة ونوع الأموال والجمارك والضرائب التي تفرض عليها من قبل المنشأ، هذه النظرة للمنشأ أوقعت العالم في مشاكل وتعقيدات ومآزق شديدة، وتمخّض عنها سيطرة القوى الكبرى -وهي محدودة العدد- على اقتصاد العالم، فأوجدت هذا الغنى الفاحش للقلّة القليلة القادرة وهذا الفقر النسبي أو الفقر المتقع للكثرة الكاثرة المكبّلة، كما وكانت هذه النظرة سبباً في إشعال المعارك والحروب التي أنتجت الاستعمار بشكله العسكري ابتداءً وبشكله الاقتصادي انتهاءً.

وأنتجت هذه النظرة إلى المنشأ سياسات ضرائبية وجمركية متباينة ألزمت الدول بالتمحور والتشكل في إطارات من نماذج متعددة من الاتفاقيات الخاصة بالتعرفة الجمركية وتوحيدها وكانت اتفاقية «الجات» وهي الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية أبرزها وأشملها والتي تحولت بعد مخاض عنيف عام 1993 إلى منظمة التجارة الدولية تلك المنظمة التي سبق تأسيسها مفاوضات شاقة امتدت عشرات السنين بين أمريكا والاتحاد الأوروبي واليابان في حين كانت بقية دول العالم تقف منها موقف المتفرج الذي لا يملك إلا التوقيع على ما اتفق عليه.

هذا ما أفرزته السياسة الرأسمالية للتجارة الخارجية في القرن الحالي وواضح أن ما أفرزته لا يخرج عن دائرة الاستعمار والخراب والحروب والدمار وهو في أحسن صوره ارتفاع مستوى المعيشة في حفنة من الدول وانخفاضها في أكثر الدول.

أما بالنسبة لسياسة التجارة الخارجية في الإسلام فإن أحكامها تتعلق بالأفراد أي بالتجار ولا تتعلق بالمنشأ، ذلك أن الحكم الشرعي، وهو خطاب الشارع المتعلق بأفعال العباد، نزل في حق أفراد بني الإنسان، فأحكام المال كغيرها من الأحكام متعلقة بالأفراد، ومن هنا كانت أحكام التجارة في الإسلام باعتبار التجار لا باعتبار نوع المال، فأحكام المال تابعة لمالك المال وما يصدق من حكم على المالك يصدق على المال المملوك له.

والتجار الذين يدخلون أراضي الدولة الإسلامية أو يخرجون منها ثلاثة أصناف:

فهم إما أن يكونوا من رعايا الدولة سواء أكانوا مسلمين أو ذميين، وإما أن يكونوا أشخاصاً معاهدين، وإما أن يكونوا أشخاصاً محاربين، أما المعاهدون فيعاملون في التجارة الخارجية بحسب نصوص المعاهدات المعقودة مع دولهم، وأما الحربيون وهم الذين ليس بيننا وبين دولهم معاهدات فلا يدخلون لدار الإسلام إلا بأمان، وأما الذين هم من رعايا الدولة وهم المسلمون والذميون فهم محل البحث وهم محور التجارة الخارجية للدولة.

فهؤلاء ابتداءً لا يجوز لهم إخراج الأسلحة والمواد الاستراتيجية من بلاد الإسلام لأن هذا العمل يعتبر تعاوناً مع الحربيين ولا يجوز لهم ذلك لقوله سبحانه وتعالى: (ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) أما ما عدا ذلك فلتجار الدولة الإسلامية الحق في إدخال وإخراج ما يريدون من أموال وتجارة، ومن سلع وخدمات ما دامت داخلة في المباحات. وقوله سبحانه وتعالى: (وأحلّ الله البيع) عام يشمل كل تجارة.

ولا يجوز في حق الدولة الإسلامية أن تأخذ جمارك أو ضرائب على تجارة تجارها المسلمين أو الذميين لقوله عليه وآله الصلاة والسلام: «لا يدخل الجنة صاحبُ مَكْس» ولإجماع الصحابة على فعل عمر بن الخطاب الذي لم يأخذ من التجار المسلمين والذميين مكوساً، فعن عبد الرحمن بن معقل قال: سألت زياد بن حدير من كنتم تَعْشُرون؟ قال: «ما كنا نعشر مسلماً ولا معاهداً. قلت من كنتم تعشرون؟ قال: تجار الحرب كما كانوا يعشروننا إذا أتيناهم» والعشر هنا قيمة المكس.

إن نتائج وآثار هذه الأحكام إن طبقت من خلال دولة إسلامية -وستطبق قريباً بإذنه تعالى- فإنها تكسب الدولة الإسلامية وزناً تجارياً كبيراً بين الدول وترفدها بالمال الوفير والثروة العظيمة، وتجعل من تجار الدولة الإسلامية محل جذب واستقطاب من قبل الشركات المنتجة ومؤسسات التصدير المختلفة في الدول. وعندما لا يدفع تجار الدولة الإسلامية جمارك أو ضرائب على البضائع التي يدخلونها إلى أراضي الدولة أو يخرجونها منها، ولا يُسألون عن الأماكن أو المصانع أو المنتجين الذين يتعاملون معهم طالما هم يتعاملون بمواد أباحها الشرع لهم فإنهم بهذه الصفة يتحررون من قيود المنشأ ومشاكل الضرائب والجمارك مع دولتهم وبذلك يُعطون الحق والقدرة المطلقة على المتاجرة، ويتحلون بوضع التجار المرموقين المفضلين، وهذه الميزة تمنحهم مركزاً قوياً بين التجار من الدول المختلفة، مما يجعل أصحاب الأموال والمصدرين يتهافتون عليهم، الأمر الذي يجعل تجار الدولة الإسلامية يقومون بتخير أجود الأموال وأقلها تكلفة، ويستطيعون بذلك إنشاء تجارة نشطة يكسبون من خلالها أرباحاً طائلة يعودون بها للدولة فينفعونها وينتفعون منها.

ويستطيع تجار الدولة اعتبار الدولة الإسلامية مجرد معبر للبضائع وممر للسلع التي يدخلونها لإعادة تصديرها بعد أن يغيروا منشأها، فلو اشترى تجار الدولة أجهزة كهربائية من اليابان مثلاً وأدخلوها إلى الدولة ثم أخرجوها منها وباعوها لدول أخرى في آسيا أو أفريقيا أو غيرها فإنهم يحققون بذلك أرباحاً معقولة تماثل الأرباح التي يحققها المُصدِّر الياباني إن لم يكن أكثر وذلك بفضل عدم أخذ ضرائب على السلع من دولتهم لأن الدولة داعمة لتجارتهم بفضل إعفائهم من الجمارك.

وبفضل هذه السياسة يتمكن الصناعيون من إقامة أنجح المرافق الصناعية وغيرها باستخدام أفضل الآلات والأجهزة والمواد ذات الجودة العالية والأسعار الرخيصة التي يدخلها تجار الدولة مما يساعد في ازدهار الاقتصاد ورفع مستوى المعيشة بسرعة وزمن قياسيين ويستطيع تجار الدولة من مسلمين وذميين ممن لا يملكون الأموال الكافية للمتاجرة العملَ كوكلاء أو سماسرة لمصدرين من دول أخرى ويُقبل عليهم أصحاب الأموال والتجارات بحوافز ومشجعات تغريهم للعمل معهم بحكم أن دولتهم لا تأخذ ضرائب وجمارك على بضائعهم، وهذا يفيد قطاعات كبيرة من أفراد الدولة الإسلامية للعمل في السوق الدولية للمتاجرة والسمسرة والوكالة، فيطّلعون بعملهم هذا على خفايا وأسرار الأعمال التجارية المختلفة مستفيدين من مركزهم المرموق، وهذا المركز المرموق والمكانة الرفيعة لهم تؤهلهم للعمل في أخطر الأعمال وأدقها وأكثرها ربحاً، فقد يعملون تجار سلاح بين الدول أو يقومون بالمشاركة بصفقات وبيوعات خارجة عن قوانين بلدان كثيرة وهي ليست كذلك في الدولة الإسلامية.

لا يستطيع تجار الدول الأخرى التي تسير دولهم على أساس المنشأ مجاراة تجار الدولة الإسلامية، لأن دولهم لا تستطيع أن تغير سياساتها بسهولة ولأن حكومات تلك الدول تعتمد في تمويل احتياجاتها على الضرائب والجمارك بشكل رئيسي بينما الدولة الإسلامية لا تعتمد مطلقاً على الضرائب والجمارك في تمويل ميزانيتها، وبسبب تميز النظام الاقتصادي الإسلامي ووجود ثلاثة أنواع من الملكيات وهي الملكية الفردية والملكية العامة وملكية الدولة وبسبب وجود أحكام للزكاة والجزية والخراج بالإضافة إلى أحكام الغنائم وغيرها من أحكام الأموال، كل ذلك يجعل الدولة الإسلامية لا تلتفت للضرائب والجمارك باعتبارها مصدراً من مصادر ميزانية الدولة، وهذا ما يجعل منافستها في هذا الحقل أمراً بالغ الصعوبة اللهم إلا إذا أقبلت الدول على أحكام الإسلام وطبقتها وهذا أمر غير متصور في غير ظل الإسلام والدولة الإسلامية.

ثم إن الاتفاقيات التجارية بين الدول تسعى لتقليل التعرفة الجمركية لا العكس ومن هنا يمكن القول إنه لا مجال للدول الأخرى بالتدخل والطلب من الدولة أن تفرض الجمارك أو الضرائب على تجارها، ويكفي معرفة أن الدول الكبرى والأفراد الموسرين الأثرياء يعتبرون البلدان التي تفرض ضرائب وجمارك وفوائد ربوية قليلة على الأموال والتجارات، يعتبرون تلك البلدان جنَّات ضريبية، فما بالكم بالدولة الإسلامية التي لا تأخذ فوائد ربوية مطلقاً ولا تأخذ جمارك وضرائب على تجارها مطلقاً، إنها حتماً ستكون بحسب اصطلاحاتهم أُم الجنات الضريبية وليس مجرد جنة ضريبية عادية.

ترى لو أدرك أصحاب الأموال والتجار ومن لديهم الرغبة في العمل بالتجارة الخارجية وعموم المسلمين، ترى لو أدركوا ما تمنحهم الأحكام الشرعية من حوافز ومغريات ومستوى عيش رغيد في زمن قياسي إذن لعملوا وسارعوا إلى العمل مع حَمَلَة الدعوة لإقامة الدولة الإسلامية وتنصيب خليفة للمسلمين يمنحهم هذه الميزات فضلاً عن أنه سيحكمهم بكتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.      

                

أحمد الخطيب – القدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *