العدد 115 -

السنة العاشرة – شعبان1417هـ – كانون الثاني 1997م

الفكر السياسي في الإسلام (4)

بقلم: فتحي عبد الله

سبقت الإشارة في الحلقة الماضية من موضوع الفكر السياسي في الإسلام إلى أن الجهاد في سبيل الله هو إزالة للحواجز المادية التي تقف عائقاً في وجه دعوة الإسلام وتبليغه إلى العالمين… وهو قمة التفكير السياسي عند الأمة الإسلامية. كيف لا وهو ذروة سنام الإسلام ومن أعظم العبادات عند الله تعالى، كما ورد ذلك في الكتاب والسنة صريحاً… (أجعلتم سقاية الحاجِّ وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله، لا يستوون عند الله والله لا يهدي القوم الظالمين). وجاء في الحديث الشريف قوله صلى الله عليه وسلم «لغدوة أو روحة في سبيل الله خير من الدنيا وما فيها» وغير ذلك الكثير من الآيات الكريمة والأحاديث الشريفة التي بيّنت فضل الجهاد ورفعة درجة المجاهدين في سبيل الله والشهداء…

والجهاد قمة التفكير السياسي عند المسلمين لأنه متعلق برعاية شؤون الإنسان، من زاوية معينة، بغض النظر عن عرقه ولونه ودينه وزمانه ومكانه… أما الزاوية المعينة التي بموجبها ينظر إلى رعاية شؤون الإنسان من حيث هو إنسان فهي «لا إله إلا الله    محمد رسول الله». كما سبق وأشرنا في تلك الحلقة إلى أن هذه الرعاية لشؤون الإنسان من هذه الزاوية المعينة فرضٌ جعله الله في أعناق الأمة الإسلامية بأسرها… وأن هذا الفرض لا يتحقق إلا بطريقته الخاصة التي جاءت معه ثابتةً لا تتغير ولا تتبدل وهي الدولة التي تحمل الإسلام إلى الناس كافةً بطريقه السياسي وهو الجهاد في سبيل الله وما يقتضيه هذا الجهاد من أعمال سياسية لافتة للنظر تسبقه. وهذه الدولة نائبة عن الأمة في السلطان، أي في رعاية الشؤون. فالأمة الإسلامية إذن هي الدولة الإسلامية والدولة الإسلامية هي الأمة الإسلامية.

           والأمة الإسلامية ملزمة والحالة هذه بفهم السياسة الخارجية فهماً من شأنه أن يحفظ كيانها وكيان دولتها لتتمكن من حمل الدعوة إلى الإسلام، ومن تنظيم علاقاتها بغيرها من الأمم… وكيف ستنظم علاقاتها بغيرها من الأمم وهي لا تفهم واقع هذه الأمم أو تفتقد الرسالة المكلفة بتبليغها إلى الأمم والشعوب ولا تعرف لها قضيةً تحيا من أجلها وتموت من أجلها؟…

           ولذلك يخطئ أولئك المتأولون من أدعياء العلم سواءٌ الأحياء منهم أو الأموات الذين راحوا يؤولون الأحكام الشرعية المتعلقة بحمل الدعوة الإسلامية إلى العالم بالجهاد في سبيل الله، ويلوون أعناق النصوص لتوافق الواقع الموجود وتوافق أهواءهم، بأن الجهاد حرب دفاعية فقط وليس حرباً هجوميةً، إرضاءً للمهيمنين من الدول الكافرة التي هاجمت الإسلام، وهو الحق، بأفكار باطلة… بأن الجهاد سفك لدماء البشر وهو حرب همجية لا إنسانية… فأتى أولئك من أدعياء العلم من المسلمين منكراً عظيماً وباؤوا بغضب من الله حين قالوا إن الجهاد حرب دفاعية فقط وحين أوَّلوا غيره من النصوص الشرعية الأخرى المتعلقة بالحكم والسلطان والاقتصاد والاجتماع لا لشيء إلا لضعف فيهم، أو إرضاءً لأسيادهم من الحكام ومن هم وراء الحكام من الدول الكافرة المستعمرة… أولئك لن ترحمهم الأجيال القادمة ولا التاريخ وستظلُّ أسماؤهم في القائمة المظلمة السوداء عند شعوب الأمة الإسلامية، وسيحاسبهم الله يوم القيامة على صنيعهم هذا.

           إن الجهاد في سبيل الله هو قتال الكفار لكفرهم وهو فرض كفاية ابتداءً إذا قام به الجيش الإسلامي سقط عن بقية الأمة التي هي رديف للجيش… قال تعالى: (قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظةً…) وقال جل شأنه: (قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرَّم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون) فوصفهم الباري عزَّ وجلَّ بأنهم غير مؤمنين أي كفار وكشفهم الله سبحانه وتعالى بأنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ثم زاد على ذلك بأنهم لا يحرمون ما حرَّم الله ورسوله، وأضاف بعده أنهم لا يدينون دين الحق.

           ولِمَ كان تسييره صلى الله عليه وسلم للجيوش وعقده الألوية إلى بلاد الشام وتسيير الخلفاء، رضي الله عنهم، من بعده لهذه الجيوش إلى بلاد فارس والروم وإلى بلاد الخزر وشمال أفريقيا؟ لِمَ كانت الفتوحات الإسلامية التي زينت صفحات التاريخ العالمي بدماء الشهداء الأبرار؟ وماذا كانت هذه الفتوحات العظيمة من أقاصي الشرق إلى أقاصي الغرب… هل كانت هذه الفتوحات وهذه الانتصارات التي تفيأت الشعوب والأمم ظلال حضارة الإسلام من جرائها قروناً طويلة فنعمت بالخير والطمأنينة والسعادة… هل كانت هذه الفتوحات حرباً دفاعية…؟ لقد آن لأدعياء العلم أن يرعووا ويرجعوا عن غَيهم بعد أن زين لهم الشيطان سوء تفسيراتهم وتأويلاتهم لأعظم أفكار الإسلام السياسية وهي الجهاد في سبيل الله لإعلاء كلمته في الأرض (قاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوْا فإن الله بما يعملون بصير) لقد بين الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه وآله هذه السياسة الخارجية التي تنظم علاقات الأمة والدولة بغيرهما من الأمم والدول وأوضح معالمها بما قام به من أعمال سياسية تسبق حالة الحرب، فأرسل الرسل إلى الملوك والقياصرة ورؤساء الدول يدعوهم إلى الإسلام، وكانت القوة والعظمة والتحدي ظاهرة في رسائله إليهم التي أوردتها كتب سيرته العطرة صلوات الله وسلامه عليه وآله. وها هو المثال في إحدى رسائله إلى هؤلاء الملوك والقياصرة… حين كتب إلى هرقل عظيم الروم: «سلام على من اتبع الهدى أما بعد. فإني أدعوك بدعاية الإسلام. أسلم تسلَمْ يؤتك الله أجرك مرتين فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين. يا أهل الكتاب تعالوْا إلى كلمة سواءٍ بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئاً ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون الله فإن تولوْا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون…».

           لقد كان في هذه السياسة الخارجية الإسلامية وهي الجهاد عزُّ الأمة الإسلامية وظهورُها في الأرض، وكان فيها خيرها وأمجادها وسؤددها وسيادتها في العالمين، فكانت دولتها هي الدولة الأولى في الموقف الدولي لأكثر من خمسة قرون.. ولم تنزل عن مكانتها الدولية هذه إلا بعد أن عُطِّلت هذه السياسة الخارجية أي بعد وقف الفتح والغزو في سبيل الله… فتجرأت عليها الدول وهاجمتها وغزتها في عقر دارها حين داهمها التتار وداهمها الصليبيون والأوروبيون فصدق فيها قول رسولها الكريم صلى الله عليه وسلم: «ما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا أو ضربهم الله بالذل.. وما ترك قوم الجهاد إلا وغزوا في عقر دارهم..».

           لقد بشر الله سبحانه وتعالى المؤمنين بعد صلح الحديبية بالمغانم الكثيرة ووعدهم بها كما بشرهم بفتح فارس والروم بقوله جل شأنه: (وعدكم الله مغانم كثيرةً تأخذونها فعجَّل لكم هذه وكفَّ أيديَ الناس عنكم ولتكون آيةً للمؤمنين ويهديكم صراطاً مستقيماً* وأخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها وكان الله على كل شيء قديراً* ولو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون نصيراً* سنة الله التي قد خلت من قبل ولن تجد لسنة الله تبديلاً..).

            إن الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس، لأنها صاحبة رسالة عالمية، فهي أمة الجهاد. فبالجهاد أعزها الله تعالى، وبتركها له ذلت وتداعت عليها الأمم كما يتداعى الأكلة إلى قصعتهم، فدبَّ الوهن في قلوبها وهو حب الدنيا وكراهية الموت… ولن ترجع هذه الأمة كسابق عهدها أمة كبرى ودولة كبرى إلا إذا أحيت فكرة الجهاد في سبيل الله في نفوسها، فهي الزناد الذي يقدح الشرر فيها. فكونها أمة كبرى ما زال كامناً فيها كمون الشرر في حجر الصوان… فهو لا يحتاج إلا إلى ما يقدحه حتى ينبعث منه الشرر، وهو النار والنور: النار التي تحرق الفساد وتزهق الباطل والنور الذي يضيء طريق الهدى والحق والصلاح. وإحياء فكرة الجهاد في نفوس الأمة الإسلامية لا يحتاج إلى كبير عناءٍ ولا إلى زمن طويل. فالفكرة كامنةٌ فيها كما أسلفنا وما على القائمين على أمر إنهاضها من كبوتها من حَمَلَةِ الدعوة الإسلامية إلا أن يوطدوا العزم على ذلك، كما وطدوه من قبل على إحياء فكرة الخلافة الراشدة، وقد أحيوها بحول الله وفضله… وليحرص الجميع على الأخذ بيدها للحيلولة بينها وبين أن يأخذ بيدها المضللون والكذابون ممن لبسوا رداء الإسلام وراحوا يوهمونها بأنهم يحكمون بالإسلام بعد أن استفحلت فكرة الخلافة الراشدة وصار بعثها وإقامتها قاب قوسين أو أدنى، تماماً كما حدث في الجزيرة العربية قبل أربعة عشر قرناً حين استفحلت فكرة النبوة وراحت تكتسح القبائل والمدن والقرى حاضرها وباديها فظهر الأنبياء الكذابون وأدعياء النبوة من أمثال مسيلمة وسجاح والأسود العنسي وطليحة الأسدي… ولكن الله العزيز الحكيم أبى إلا أن يتمَّ نوره ويرغم أنوف هؤلاء الكذابين ويحصد شوكتهم في ومضة قصيرة من ومضات الزيف.وكذلك الحال في هذا العصر فإن الكفار لن يتوانوْا لحظة إذا ما أدركوا أن دولة الخلافة قادمة، لن يتوانوْا عن إقامة خلافة أو خلافات كذابة لحرف المسلمين عن الحق إلى باطلهم. كل هذا باسم الإسلام وبأيدي المنحرفين والمضللين من أبناء المسلمين: (هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *