العدد 117 -

السنة العاشرة – شوال 1417هـ – شباط 1997م

نظرة في مفهوم الفقر والغنى في الإسلام

نظرة في مفهوم الفقر والغنى في الإسلام

 

لم يترك الإسلام صاحب المال مطلق التصرف في ماله بل حدد له كيفية التصرف في حياته وبعد مماته، فإذا أراد زيادة ماله وتنميته بين له أحكام التجارة والزراعة والصناعة وأحكام الإجارة والشركة والبيع والاستصناع وغير ذلك وإذا أراد إنفاق ماله على وجه الصلة والنفقة حدد له ذلك أيضاً سواء أكان ذلك صلة كالهدية والهبة أو كان نفقة كإنفاقه على نفسه وعلى من تجب عليه نفقتهم، ولم يكتف الإسلام بذلك بل فصل في حكم هذه الصلة والنفقة إباحة وندباً ووجوباً سواء للمنفق أو للمنفق عليه حين بين حال الغني وحال الفقير وحكم النفقة منهما ولهما، وسأحاول في هذا المقال بيان معنى الفقر والغنى ومعالجة الإسلام للفقر.

وقد ورد الغنى والفقر في الشرع بأكثر من معنى وذلك من حيث التصرف وفق الحال. قال ابن قدامة في المغني ج7 ص313 (والغنى يختلف فمنه غنى يوجب الصدقة وغنى يمنع أخذها وغنى يمنع المسألة).

أولاً: غنى يجيز دفع الصدقة، وهو أن يملك الإنسان ما يفضل عن حاجاته الأساسية له ولعياله، فالإسلام منع الفرد أن يهب أو يهدي أو يتصدق إلا فيما يبقى له ولعياله غنى قال رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم: «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى» رواه البخاري في باب لا صدقة إلا عن ظهر غنى، قال ابن حجر العسقلاني في الفتح ج3 ص249 (كأنه أراد [الإمام البخاري] تفسير الحديث المذكور بأن شرط المتصدق أن لا يكون محتاجاً لنفسه أو لمن تلزمه نفقته، ويلحق بالتصدق سائر التبرعات) وجاء في الطبعة الجديدة من كتاب (النظام الاقتصادي في الإسلام) للشيخ تقي الدين النبهاني ص200 (والمراد من النهي عن الصدقة في قوله عليه السلام «إنما الصدقة عن غنى»… هو أن الفقير الذي لم يشبع حاجاته الأساسية لا يجوز أن يتصدق بما هو ضروري له لسد حاجاته الأساسية لأن الصدقة إنما تكون عن ظهر غنى أي عن استغناء عن الناس في إشباع الحاجات الأساسية. أما الذي لديه مال يزيد عن حاجته الأساسية… فيندب لهذا أن يفضل الفقراء على نفسه، أي يؤثر الفقراء على نفسه، ولو كان في حاجة إلى ماله ليشبع حاجاته الكمالية) ونقل ابن حجر عن الإمام القرطبي قوله (فمعنى الغنى في هذا الحديث حصول ما تدفع به الحاجة الضرورية…).

أما ما اشتهر في السيرة وصححه الترمذي من أن أبا بكر رضي اللـه عنه قد تبرع بكل ماله فقال له رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم ما أبقيت لأهلك؟ فقال أبقيت لهم اللـه ورسوله فقد قال الإمام الطبري وغيره في الجمع بين الحديثين: (قال الجمهور: من تصدق بماله كله في صحة بدنه وعقله حيث لا دين عليه وكان صبوراً على الإضافة ولا عيال له أو له عيال يصبرون أيضاً فهو جائز).

ثانياً: غنى يمنع أخذ الصدقة، أي من ملك دونه جاز له أخذ الصدقة وهو الفقير، وقد عُرّف الفقير في (النظام الاقتصادي في الإسلام) كما يلي: (الفقراء هم الذين يملكون أموالاً ولكن نفقاتهم أكثر مما يملكون) وجاء تعريف الغني في كتاب (الأموال في دولة الخلافة) للشيخ عبد القديم زلوم مفصلاً إذ جاء ص92 (فمن ملك خمسين درهماً فضة أي 148.75 غراماً فضة أو عدله ذهباً فاضلة عن مأكله وملبسه ومسكنه، ونفقة أهله وولده وخادمه اعتبر غنياً، ولا يجوز له أن يأخذ من الصدقة) وقال العلامة ابن قدامة في المغني ج7 ص314 (فالفقير الذي لا يقدر على كسب ما يقع موقعاً من كفايته ولا له من الأجر أو من المال الدائم ما يقع موقعاً من كفايته ولا له خمسون درهماً أو قيمتها من الذهب).

إذاً من ملك دون هذا الحد المذكور لم يعتبر غنياً، أي اعتبر فقيراً يجوز له أخذ الصدقة كما يجوز له السؤال، وذلك لما روى عبد اللـه بن مسعود عن رسـول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم أنه قال: «ما من أحد يسأل مسألة وهو عنها غني إلا جاءت يوم القيامة كدوحاً أو خدوشاً أو خموشاً في وجهه، قيل يا رسـول اللـه وما غناه أو يغنيه، قال خمسون درهماً أو حسابها من الذهب» رواه الخمسة، وهذا الحديث يفسر قول الرسول عليه الصلاة والسلام: «لا تحل الصدقة لغنيّ ولا لذي مِرّة سَوِيّ».

وقد ذهب أصحاب الرأي إلى أن الغنى الموجب للزكاة هو المانع من أخذها لقول النبي عليه الصلاة والسلام لمعاذ: «فأعلمهم أن اللـه افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم وترد على فقرائهم» رواه البخاري عن ابن عباس فجعل عليه السلام الأغنياء من تجب عليهم الزكاة، فيدل ذلك على أن من تجب عليه غني ومن لا تجب عليه ليس بغني أي فقير، والرأي الصحيح أن الغنى المانع من الزكاة غير الموجب لها ودليل ذلك حديث ابن مسعود وهو أخص من حديث معاذ فيجب تقديمه، فحديث معاذ دل على الغنى الموجب وحديث بن مسعود دل على الغنى المانع فلا تعارض بينهما فيجب الجمع بينهما.

ثالثاً: غنى يوجب الصدقة، جاء في كتاب (النظام الاقتصادي في الإسلام) ص216: (ويعتبر الشخص في غناه إذا كان ممن تطلب منه الصدقة… ويقول الفقهاء: والغنى هو ما يقوم بقوت المرء وأهله على الشبع من قوت مثله وبكسوتهم كذلك وسكناهم وبمثل حاله من مركب وزي) فمن ملك نصاباً من مال زكاتي فاضلاً عن ديونه ومأكله ومسكنه وقوته وقوت أهله ومن تجب عليه نفقتهم أي فاضلاً عن حاجاتهم الأساسية والكمالية لمثلهم فهو غني لأنه تطلب منه الصدقة. وهذا ذاته أساس لبقية التكاليف المالية من دفع ضريبة أو مشاركة في دفع دية أو غير ذلك. أما من ملك مالاً غير زكاتي يسد حاجاته ويكفيه فهو غني أيضاً ولا تحل له الزكاة من باب التعريف الثاني للغنى، وهكذا كل من يدفع الزكاة غني وليس كل من لا يدفع الزكاة فقيراً، وكل من يأخذ الزكاة فقير، وليس كل من لا يأخذ الزكاة غنياً.

إذاً فمقياس اعتبار الغنى واحد، فنفقة الإنسان على نفسه وعلى غيره تكون بالمعروف، أي بالمتعارف عليه، وذلك لأن الشرع أوجب على الإنسان نفقة زوجته بالمعروف، قال اللـه تعالى: ]وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف[ فتكون نفقته على نفسه أيضاً بالمعروف وليس الكفاية فحسب، قال عليه الصلاة والسلام لهند امرأة أبي سفيان: «خذي ما يكفيك وولدَك بالمعروف» رواه البخاري وأحمد. فهو عليه السلام لم يقل: «ما يكفيك» بل زاد: «بالمعروف» أي ما يكفيها وولدها بالنسبة إلى حالهما وأمثالهما، فلا يقدر غِناه – الذي لا بد من توفره حتى تجب عليه التكاليف المالية الشرعية – بما يكفي حاجته الأساسية بل وبما يكفي حاجاته الأخرى التي يعرف بين الناس أنها من حاجاته أيضاً. وذلك لا يقدر بمقدار ثابت بل يترك للشخص ومستوى المعيشة الذي يعيش عليه، فالغني الذي يجب عليه ما يجب على المسلمين من التكاليف المالية هو الذي ملك ما يفضل عن إشباع حاجاته بالمعروف لا حاجاته الأساسية فحسب.

وقد عالج الإسلام الفقر علاجاً شافياً، فقد أوجب العمل على الفرد حتى يوفر المال الكافي له ولعياله لسد حاجاته الأساسية، فإذا وفرها كان بها، وإن عجز جعل الشرع إعانته على غيره فرضاً حتى يتوفر له ما يشبع هذه الحاجات الأساسية. وقد فصل الفقهاء أحكام النفقة هذه على الأقارب أوسع تفصيل، فإن لم يكن له أقارب ممن أوجب اللـه عليهم نفقة قريبهم انتقلت نفقته على بيت المال في باب الزكاة قال اللـه تعالى: (إنما الصدقات للفقراء والمساكين) فإن لم يَفِ قسم الزكاة من بيت المال في سد حاجات الفقراء والمساكين كان واجباً على الدولة أن تنفق عليهم من أبواب أخرى من بيت المال، قال رسـول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم: «من ترك مالاً فلورثته ومن ترك كَلاًّ فإلينا» رواه مسلم. والكَلُّ الضعيف الذي لا ولد له ولا والد، ذلك أن الشرع قد جعل للدولة سلطة جباية أموال دائمية حتى تقوم بما أوجبه اللـه عليها وذلك كالخراج والجزية، وكذلك جعل الملكية العامة تحت إدارتها تتولاها هي حين منع الأفراد أن يتولوها ومنع الدولة أن تملكهم أصلاً من أصولها. وهذه الملكية العامة من بترول وحديد ونحاس وغيرها أموال لا بد من استغلالها وإنفاقها وتنميتها ليس للقضاء على الفقر فحسب بل لتحقيق التقدم الاقتصادي والازدهار للأمة أجمع، لأن هذه الأموال هي أموال الأمة والدولة تتولاها لتنميتها وإدارتها، وهكذا إذا قامت الدولة بتوفير الأموال ونهضت بأعباء رعاية الشؤون، وقام كل فرد بكسب المال والسعي إلى الرزق فقد توفرت الثروة التي تكفي لإشباع الحاجات الأساسية إشباعاً كلياً لكل فرد لا لمجموع الأفراد فحسب…

أما إن لم يوجد في بيت المال مال، سواء في قسم الزكاة أو الأقسام الأخرى، فيجب على الدولة أن تفرض ضريبة على أموال الأغنياء وتحصلها لتنفق على الفقراء والمساكين منها فإن خشيت حدوث ضرر استدانت ثم جمعت، لأن كفاية الفقراء والمساكين واجب على الأمة أيضاً، قال عليه الصلاة والسلام: «أيما أهل عرصة أصبح فيهم امرؤ جائع فقد برئت منهم ذمة اللـه تبارك وتعالى» رواه أحمد.

ولم يكتف الإسلام بذلك بل جعل للدولة حق الحمى، إذ لها أن تحمي ما تراه مناسباً من أموال الملكية العامة، وأن تجعل ريعه لصالح جهة من الجهات التي أوجب اللـه تعالى عليها رعاية شؤونها ومنهم الفقراء والمساكين، هذا إضافة إلى أن الإسلام قد أوجب تداول المال بين جميع أفراد الرعية، ومنع حصر تداوله بين فئة من الناس فقال اللـه تعالى: (كي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم) أي كي لا يتداول بين الأغنياء فقط. والدُّولة في اللغة اسم للشيء الذي يتداوله القوم، وهي اسم لما يتداول من المال. فيكون معنى الآية: كي لا يكون الفيء واقعاً بيد الأغنياء فقط ودُولةً بينهم، فعلى الدوْلة أن تعمل، إذاً، على إيجاد التوازن الاقتصادي في المجتمع بإعطائها من أموالها التي تملكها أو من أموال الملكية العامة لمن قصرت به أمواله حتى تكفيه وحتى توجد بهذه الكفاية الإشباع الكامل لجميع الحاجات الأساسية لجميع أفراد المجتمع فرداً فرداً، ولإشباع الحاجات الكمالية أيضاً، بالمعروف، قدر الإمكان. وهذا هو شرع الإسلام الذي يطبقه خليفة المسلمين. ونسأل اللـه أن يوفق المسلمين لإقامة دولة الخلافة عمّا قريب، وأن يعجّل بالخليفة الذي يحثو المال حثواً كما ورد في الحديث الشريف: … عن أبي سعيد الخدري قال: قلت واللـه ما يأتي علينا أمير إلا وهو شر من الماضي، ولا عام إلا وهو شر من الماضي. قال: لولا شيء سمعتُه من رسول اللـه صلى الله عليه وسلم لقلت مثلَ ما يقول، ولكن سمعت رسـول اللـه صلى الله عليه وسلم يقول: «إنّ مِن أُمرائكم أميراً يَحْثِي المال حَثْياً، ولا يَعُدُّهُ عَدّاً، يأتيه الرجل فيسأله، فيقول: خُذْ. فَيَبْسُطُ الرجلُ ثَوْبَهُ، فَيَحْثِي فيه» وبسط رسول اللـه صلى الله عليه وسلم ملحفة غليظة كانت عليه يحكي صنيعَ الرجل، ثم جمع إليه أكنافها قال: فيأخُذُهُ ثم ينطلق» رواه مسلم وأحمد واللفظ لأحمد .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *