لماذا يتأخر النصـر عن المسـلمين؟
2016/10/19م
المقالات
7,879 زيارة
لماذا يتأخر النصـر عن المسـلمين؟
بقلم: أسامة أبو سراج – الشام
إن عوامل النصر التي يعددها كاتب هذا المقال في بحثه هي بمثابة شروط للنصر وليست أسباباً، ذلك أن حصول الشرط لا يلزم منه حصول المشروط، بينما حصول السبب يلزم منه حصول المسبَّب. فقوله تعالى: (إن تنصروا اللـه ينصركم) هو بمثابة الشرط وليس شرطاً بالمعنى الدقيق، إذ قد ينصر اللـه الكفار. إن اللـه وعد أن ينصر من ينصره ولكنه لم يحدد فترة زمنية لتحقيق نصره، ولم يحدد نوعية نصره. فهذا رسول اللـه نوح عليه السلام لبث في قومه يدعوهم ألف سنة إلا خمسين عاماً، ولم يستجيبوا له. ولا أحد يتهم نوحاً بأنه كان مقصّراً في تحقيق شروط النصر. وأما نوع النصر الذي حققه اللـه له بعد هذه المدة فكان بإهلاك قومه بالطوفان. إذاً لا يجوز لنا أن نتهم العاملين في الدعوة الإسلامية لـمجرّد إبطاء النصر عنهم، بل نتهمهم إذا رأيناهم يخالفون شرع اللـه أو يقصرون في أداء ما أوجبه اللـه عليهم.
«الوعـي»
إن الجماعات المسلمة تعمل جاهدة من أجل الخلاص من الواقع السيء الذي ترعرعت به الأمة الإسلامية. وهذه الجماعات فيها جماعات مخلصة للـه، وكلها تعمل لكي ينصر اللـه الأمة الإسلامية النصر الأكبر وهو: أن تُرفع رايتنا وتقام خلافتنا ويحكم كتاب اللـه أمّتنا. ولكن هذا النصر لم يأت بعد، والجميع يسأل ويقول: لماذا تأخر نصر اللـه علينا؟ هل لعدم إخلاص هذه التكتلات؟ أو لعدم تقوى هذه التكتلات؟ أو لأن اللـه أخر النصر لابتلاء المسلمين؟
كل هذه الأسئلة تدور في ذهن الشباب المسلم الذي يعمل مع هذه التكتلات. لماذا تأخر نصر اللـه؟
ولكن قبل الخوض في هذا البحر يجب علينا أن نتنبه إلى أن للنصر عوامل وشروطاً إذا لم نطبقها فإن نصر اللـه لا يأتي إلينا، ونحن وإن حملنا الدعوة إلى اللـه وقصّرنا بمفهوم النصر وبشروطه فإن اللـه لا ينصرنا. لذلك فإن هذا الموضوع متشعب وحوله أسئلة كثيرة.
نقول وباللـه التوفيق إن سنة اللـه في نصره للمؤمنين لا ولن تتخلف أبداً لأنها إخبار من عند اللـه الصادق الناصر المعين. والدليل على هذا الكلام هو:
أ- قول اللـه تعالى: (ولقد كُذبت رسل من قبلك فصبروا على ما كُذبوا وأوذوا حتى أتاهم نصرنا ولا مُبدل لكلمات اللـه…) الأنعام – 34.
وجاء في تفسير ابن كثير (لا مبدل لكلمات اللـه) أي التي كتبها في الدنيا والآخرة بالنصر لعباده المؤمنين.
ب- قول اللـه تعالى: (ولقد سبقت كلمتُنا لعبادِنا المرسلين* إنهم لهم المنصورون* وإن جندَنا لهم الغالبون) الصافات:171-173.
وجاء في تفسير الزمخشري في تفسير هذه الآية، والمراد الوعد بعلوهم على عدوهم في ملاحم القتال في الدنيا وكذلك علوهم عليهم في الآخرة. تفسير الزمخشري 4/67.
جـ- قول اللـه تعالى: (كتب اللـه لأغلبن أنا ورسلي إن اللـه قوي عزيز) المجادلة -21 وجاء في تفسيرها: «أي قد حكم اللـه وكتب في كتابه الأول وقدَرِه الذي لا يُخالَف ولا يُمانع بأن النصر له ولكتابه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة». ابن كثير 4-229.
د- قول اللـه تعالى: (إنا لننصر رُسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد) غافر-51. قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: «وهذه سنة اللـه في خلقه في قديم الدهر وحديثه إنه
ينصر عباده المؤمنين في الدُنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم. وقال الإمام السدّي لم يبعث اللـه عز وجل رسولاً قط فيقتلونه أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلونهم فيذهب ذلك القرن حتى يبعث اللـه تبارك وتعالى لهم من ينصرهم فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك في الدنيا، ثم قال: فكانت الأنبياء والمؤمنون يُقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها». ابن كثير-4/83/84. ومعنى ذلك أن الغلبة للمؤمنين وإن قوتلوا وعُذبوا.
هـ- قول اللـه تعالى: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) الروم – 47.
معنى الآية أن فيها مزيد تشريف وتكرمة للمؤمنين حيث جُعلوا مستحقين على اللـه تعالى أن ينصرهم، وإشعاراً بأن الانتقام لأجلهم، وظاهر الآية أن هذا النصر في الدنيا وأنه عام لجميع المؤمنين فيشمل مَن بعدَ الرسل من الأمة. تفسير الألوسي 21-52.
والأدلة كثيرة جداً من الآيات والأحاديث على أن نصر اللـه لن يتخلف عن المؤمنين. ولن نوردها لكي لا نُطيل الموضوع.
وقبل أن ننتقل إلى عوامل النصر ومعوقاته لا بد لنا أن نبين أن نصر اللـه لعباده المؤمنين قد يتأخر لأن اللـه يريد لهم النصر الأكبر والأعظم والأكمل والأدوم والأكثر تأثيراً في واقع الحياة، وفي عموم الناس بعد أن يتهيأ في المؤمنين القاعدة اللازمة لاستحقاقهم هذا النصر الأكبر واستقبالهم له، ويدل على ذلك أن نصر رسول اللـه صلى اللـه عليه وآله وسلم ومعه المؤمنون لم يحصل في يوم وليلة ولا في سنة واحدة وإنما تأخر فلم يحصل إلا بعد مضي أكثر نبوته صلى اللـه عليه وآله وسلم، فقد حصل هذا النصر بالغلبة والانتصار على قريش وفتح مكة وذلك في سنة ثمان للـهجرة، أي قبل وفاته عليه الصلاة والسلام بسنتين وقد دخل بسبب هذا النصر الناس في دين اللـه أفواجاً وأُنزل قوله تعالى: (إذا جاء نصر اللـه والفتح* ورأيت الناس يدخلون في دين اللـه أفواجا* فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا) النصر.
وكذلك قد يسبق نصرَ اللـه أذى من العدو شديد على المسلمين وهذا، من الابتلاء لكي يثبتوا على الحق، ولكي يتربوْا على الصبر كما أرادهم اللـه لا يخافون في اللـه لومة لائم، لذلك قال اللـه تعالى مبيناً لنا حال من سبقونا: (إن يمسسكم قرح فقد مس القومَ قرح مثله وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلمَ اللـه الذين آمنوا ويتخذَ منكم شهداء واللـه لا يحب الظالمين* ولـيُمَحِّصَ اللـه الذين آمنوا ويمحق الكافرين) آل عمران-140/141. فقد بين لنا اللـه تعالى في هاتين الآيتين أن المؤمنين الذين يصيبهم قرح أي جراحات بسبب القتال يجب أن لا يضعفَ ذلك همتهم في جهاد العدو لأنه كما أصابهم قرح فقد أصاب عدوهم مثله قبل ذلك، وعدوهم لم يتأثروا لما أصابهم من القرح من محاربتكم مع كونهم مبطلين، فأنتم أيها المؤمنون أهل الحق أولى أن لا تضعفوا ولا تفتروا عن مجاهدة ومحاربة هؤلاء القوم الأعداء المبطلين. الرازي 9/14.
والآن لا بد لنا أن نسأل السؤال المهم: ما هي عوامل النصر وشروطه؟ إن من أهم عوامل النصر:
1- الإيمان الكامل الحقيقي: لأن الإيمان هو الشرط لنصرة اللـه للمؤمنين. قال تعالى: (وكان حقاً علينا نصر المؤمنين) الروم – 47. وهذه الآية نص صريح في ربط النصر بالإيمان وكذلك فهو عام لجميع المؤمنين في بقاع الأرض. وكذلك قوله تعالى: (إن تستفتحوا فقد جاءكم الفتح وإن تنتهوا فهو خير لكم وإن تعودوا نعد ولن تغني عنكم فئتكم شيئاً ولو كثرت وإن اللـه مع المؤمنين) الأنفال -19.
أي من كان اللـه في نصره لم تغلبه فئة وإن كثرت. القرطبي 7-387.
ومن الواضح أن هذه (المعية الإلهية) للمؤمنين هي معية خاصة بهم ولهم بسبب إيمانهم، فهي تتناسب مع مقدار إيمانهم وعمقه، ومدى ذوبانهم وتأثرهم به. ولا شك أن الصحابة الكرام المخاطبين بهذه الآية بوصف (المؤمنين) وأن (اللـه معهم) كان لهم النصيب الأكبر من هذه المعية الخاصة بأهل الإيمان لما عُرفوا به من عمق الإيمان وسعته وذوبانهم وتأثرهم به، ولذلك تحقق لهم النصر على قلة عددهم وكثرة عدد أعدائهم في زمن النبي عليه وآله الصلاة والسلام وبعد وفاته.
2- ومن عوامل النصر تقوى اللـه: لقوله تعالى: (إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين* بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين) آل عمران -124/125. وجاء في تفسيرهما: والظاهر في المدد أن الملائكة يُشركون الجيش في القتال إن وقعت الحاجة إليهم، ويجوز أن لا تقع الحاجة إليهم في نفس القتال، وأن يكون مجرد حضورهم كافياً في تقوى القلب. وجعل مجيء خمسة آلاف من الملائكة مشروطاً بثلاثة أشياء: الصبر والتقوى ومجيء الكفار على الفور. الرازي 8/228.
فمدد الملائكة للمؤمنين كان بسبب تقواهم، لأن صبرهم من جملة تقواهم لأن التقوى كما قال ابن تيمية يرحمه اللـه تعالى: «فعل كل أمر أمر به اللـه وترك ما نهى عنه». مجموع الفتاوى 8/526.
والصبر من جملة ما أمر اللـه به. ولتأكيد هذا الكلام نورد وصية عمر بن الخطاب رضي اللـه عنه لسعد بن أبي وقاص وجنده في حرب العراق قائلاً: [فإني آمرك ومن معك من أجناد بتقوى اللـه على كل حال، فإن تقوى اللـه أفضل العدة على العدو، وأقوى المكيدة في الحرب. وآمرك ومن معك أن تكونوا أشد احتراساً من المعاصي منكم من عدوكم فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم. وإنما يُنصر المسلمون بمعصية عدوهم للـه، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة، لأن عدونا ليس كعدوهم ولا عُدتنا كعدتهم فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا بالقوة، وإلا نُنصر عليهم بفضلنا لم نغلبهم بقوتنا. واعلموا أن عليكم حَفَظَةً من اللـه يعلمون ما تفعلون، فاستحيوا منهم، ولا تعملوا بمعاصي اللـه وأنتم في سبيل اللـه، ولا تقولوا إن عدونا شرٌّ مِنّا فلن يُسلَّط علينا وإن أسأنا، فرب قوم قد سُلِّط عليهم شرٌّ منهم، كما سلط على بني إسرائيل لـمّا عملوا بمساخط اللـه، كفار المجوس فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً. واسألوا اللـه العونَ على أنفسكم فكما تسألونه النصر على عدوكم. أسأل اللـه ذلك لنا ولكم].
3- ومن عوامل النصر نصرة الدين: لقوله تعالى: (إن تنصروا اللـه ينصركم) محمد – 7. ومعنى الآية: إن تنصروا دين اللـه ورسوله ينصركم على عدوكم ويفتح لكم ويثبت أقدامكم، في مواطن الحرب. الزمخشري 4/318. وقال الرازي في تفسيره: وفي نصرة اللـه تعالى وجوه (الأول) أن تنصروا دين اللـه وطريقه. (الثاني) أن تنصروا حزب اللـه وفريقه. الرازي 28/48. ونصرة دين اللـه تتحقق بأن يسلم المسلم نفسه بالكلية للـه رب العالمين، فلا يبقى فيه شيء خارج عن الاستسلام المطلق والانقياد التام للـه رب العالمين. ويظهر هذا الخضوع والاستسلام بالاستسلام الكامل لشرع اللـه تعالى، وهذا في نفسه وما ينطوي عليه قلبه وتقوم به جوارحه، ثم تظهر النصرة لدين اللـه بعمل المسلم الدائم لإقامة شرع اللـه في الأرض بحيث يكون هذا الشرع هو المهيمن والحاكم لجميع العلاقات بين الناس فلا يتحاكمون إلا إليه ولا يقبلون إلا شرعه. وبهذا علينا أن نغار على الجماعات المسلمة بأن ننصحهم إذا مالوا عن الحق وأن ننصرهم إذا ظُلموا، فهذا حق علينا إن استطعنا نصرهم باليد أو باللسان أو بالقلم، فلننصر المظلومين كي ينصرنا اللـه على الكافرين.
4- من عوامل النصر ذكر اللـه: وهذه النقطة من العوامل التي ينصر اللـه بها أتباعه والتي قد تركها كثير من شباب الحركات الإسلامية. فقد قال اللـه تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا اللـه كثيراً لعلكم تفلحون) الأنفال – 45. ومعنى الآية: أي إذا لقيتم فئة من الكفار أو البغاة فاثبتوا لهم ولا تفروا من أمامهم فإن الثبات قوة معنوية طالما كانت هي السبب الأخير للنصر والغلبة بين الأفراد والجيش (واذكروا اللـه كثيراً) أي وأكثروا من ذكر اللـه في أثناء القتال وقبله. أذكروه في قلوبكم بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين، وبمعيته الخاصة للمؤمنين الصابرين، وبذكر نهيه تعالى لكم عن اليأس مهما اشتد البأس، وبأن النصر بيده تعالى ينصر من يشاء، وهو القوي العزيز. فمن ذكر هذا وتذكره لا تخوفه قوة عدوه واستعداده، لإيمانه بأن اللـه تعالى أقوى من عدوه. وفي الأمر بذكر اللـه تعالى كثيراً إشعار بأن على المسلم أن لا ينشغل عن ذكر اللـه بأي شاغل. تفسير الزمخشري 2/226 الألوسي 10/14 المنار 10/21.
وكذلك فقد روى الإمام أحمد والترمذي ومالك في الموطأ: أن النبي صلى اللـه عليه وآله وسلم قال: «ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قيل بلى يا رسول اللـه قال: ذكر اللـه».
لذلك فإن النصر ليس بالشيء الهيّن، إنه محفوف بالمشاق والصعوبات التي يعجز عن احتمالها إلا من اصطفاهم اللـه لقيادة البشرية. فإن اللـه تعالى قال: (أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولمـّا يأتكم مَثَلُ الذين خلوْا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه: متى نصر اللـه؟ ألا إن نصر اللـه قريب) هذا الخطاب كان للرسول عليه وآله الصلاة والسلام ولصحابته الكرام الذين أقاموا دولة الإسلام وحملوا رسالته رسالة عالمية إلى الناس كافة. وهكذا واجه حزب الرسول عليه وآله الصلاة والسلام المصاعب القاتلة وخاضوا تجربة عميقة جليلة. لذلك فإن هذا السؤال من الرسول والذين آمنوا معه [متى نصر اللـه] لِيُعلمنا اللـه مدى شدة المحنة التي واجهت حَمَلَةَ الدعوة، ولا نقدر أن نصف هذه المحنة التي جعلت الصحابة والرسول r يقولون [متى نصر اللـه]، ولكن عندما ثبت الصحابة على إيمانهم وعلى عهدهم مع اللـه جاء الجواب من اللـه [ألا إن نصرَ اللـه قريب] فإن نصر اللـه لا يتنزل إلا على أناس استحقوا النصر. الذين يثبتون على السراء والضراء الذين يصمدون للزلزلة. الذين لا يَحْنون رؤوسَهم للعاصفة. الذين يستيقنون أن لا نصر إلا نصر اللـه وعندما يشاء اللـه. وحتى حين تبلغ المحنةُ ذُروتها فهم يتطلعون إلى نصر اللـه فحسب لا إلى أي حل غيره، ولا إلى أي نصر لا يجيء من عند اللـه. ويجب علينا أن نتصور النصر أمام أعيننا لقوله تعالى: (ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين* إنهم لهم المنصورون* وإن جندنا لهم الغالبون) لأن هذه حقيقة كل دعوة يُخلص فيها العاملون، ويتجرد لها الدعاة، ويصبح لديها قناعات بأنها منصورة مهما وُضعت في سبيلها العوائق وقامت في طريقها العراقيل، مهما رصد لها الأعداء من قوى الحديد والنار، وقوى الدعاية والافتراء، وقوى السجن والقتل. وما هي إلا معارك تختلف نتائجها ثم تنتهي إلى الوعد الذي وعده اللـه لرُسُله والذي لن يُخلَف، ولو قامت كل قوى الأرض لهزيمتنا فالوعد لنا بالغلبة والنصر والتمكين. وهذا الوعد سُنّة اللـه الكونية. سُنّة ماضية كما تمضي هذه الكواكب والنجوم في دوراتها المنتظمة وكما يتعاقب الليل والنهار في الأرض على مدار الزمان، وكما تنبثق الحياة في الأرض الميتة حين ينزل عليها الماء، ولكنها مرهـونة بتقدير اللـه يحقـقـها حين يشــاء وعلى من يشاء من الذين يستحقون النصر.
لذا فإن اللـه لم يُرد أن يكون حَمَلَةُ دعوته وحماتها من (التنابلة) الكسالى الذين يجلسون في استرخاء ثم يتنزل عليهم نصره سهلاً هيناً بلا عناء لمجرد أنهم يقيمون الصلاة ويرتلون القرآن ويتوجهون إلى اللـه بالدعاء كلما مسهم الأذى أو وقع عليهم الاعتداء. ولمجرّد أنهم يَدْعون شخصاً أو أكثر لتكثير عددهم. نعم إنه يجب عليهم أن يقيموا الصلاة وأن يرتّلوا القرآن وأن يتوجهوا إلى اللـه بالدعاء في السراء والضراء ولكن هذه العبادة وحدها لا تؤهلهم لحمل دعوة اللـه وحمايتها، إنما هي الزاد الذي يتزودونه للمعركة والسلاح الذي يطمئنون إليه وهم يواجهون الباطل بمثل سلاحه، ويزيدون عنه سلاح التقوى والإيمان والاتصال باللـه. ولقد شاء اللـه تعالى أن يجعل دفاعه عن الذين آمنوا عن طريقهم هم أنفسهم كي يتم نضجهم في أثناء المعركة. لذلك يجب أن نضحي من أجل النصر، ولا نتصور أن النصر سيأتينا سريعاً لا يكلّف عناء، وإن أتانا هكذا فإن الذي يتنزل هيناً ليناً على القاعدين المستريحين كما يأتي سريعاً يذهب سريعاً لأنه رخيص الثمن لم تبذل فيه تضحيات. لذلك فإن النصر قد يبطئ لأن الأمة غير مستعدة لهذا النصر، أو حتى تبذل الأمّة المؤمنة آخر ما في طوقها من قوة، وآخر ما تملكه من رصيد فلا تستبقي عزيزاً ولا غالياً إلا وتبذله في سبيل اللـه رخيصاً هيناً. وقد يبطئ النصر حتى تدرك الأمة أن هذه القوى وحدها بدون سند من اللـه لا تكفل النصر. وقد يبطئ النصر لأن في الشر الذي تكافحه الأمة المؤمنة بقية من خير يريد اللـه أن يجرد الشر منها لتعي معنى العبودية الخالصة للـه ولتحمل أمانة الإسلام التي كانوا يحاربونها بألسنتهم ودعوتهم إلى القومية والوطنية والعصبية النتنة.
5- ونذكر عاملاً أخيراً من عوامل النصر وهو: إعداد القوة: وليكن معلوماً أن الإيمان وحده لا يُغني عن عوامل النصر المادية مثل: عُدة القتال وعدد المقاتلين وغيرها من وسائل القتال ومستلزماته. فلهذا أمرنا اللـه تعالى وقال: (وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو اللـه وعدوكم…).
ولأن الإسلام لا يغفل عمّا في العوامل المادية من قوة وهو يقرر ما للإيمان من قوة ومن سببية للنصر. ولكن هذه القوة للإيمان أو هذه السببية فيه للنصر لها حد محدود بينه اللـه تعالى حتى لا نغالي في الأمور، وحتى نعطي لكل شيء حقه من التقييم والتقدير من دون مغالاة، حتى لا نقع في الوهم والخطأ في الحساب فنخسر المعركة. والدليل على هذا الكلام قول اللـه تعالى في سورة الأنفال 65/66: (يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفاً من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون* الآن خفف اللـه عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً فإن يكن منكم مائة صابرة يغلبوا مائتين وإن يكن منكم ألف يغلبوا ألفين بإذن اللـه واللـه مع الصابرين). ووجه الاستدلال بالآية الأولى أن اللـه أخبر المؤمنين أصحاب النبي عليه وآله الصلاة والسلام أن عشرين صابرين منهم يغلبوا مائتين من الكافرين، وهذا قبل التخفيف، ولم يقل اللـه عز وجل إن العشرين من المؤمنين الصابرين يغلبون ألفين، لأن المؤمنين الصابرين وإن كان لإيمانهم قوى وهي قوى من قوة الكفر في نفوس الكافرين إلا أن هذه القوة الإيمانية لها حد محدود في غلبة قوة الكفر والكافرين. لذلك يُفهم من هذه الآيات أنّ القوة المادية – ومنها عدد المقاتلين – لها وزنها وتأثيرها غير المنكور، وأن على المؤمنين والأمة عموماً والجماعة المسلمة ملاحظة ذلك وفتح عيونهم عليه وأخذ العبرة منه، وأن يحسبوا حساباً دقيقاً لقوتهم وقوة أعدائهم ويخوضوا المعركة.
ولتأكيد هذا القول نقول كما قال اللـه تعالى في سورة الأنفال 43/44: (إذ يُريكَهُمُ اللـه في منامك قليلاً ولو أراكهُمْ كثيراً لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن اللـه سلم إنه عليم بذات الصدور* وإذ يُريكُموهُم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضيَ اللـه أمراً كان مفعولاً وإلى اللـه ترجع الأمور).
ومعنى الآيتين أن اللـه تعالى أرى رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم في منامه عدد الكفار قليلاً قُبيل بدء القتال في معركة بدر، فأخبر رسول اللـه صلّى اللـه عليه وآله وسلّم بذلك أصحابه، فكان ذلك الإخبار تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم. وبين اللـه تعالى لنبيه r أنه [لو أراكهم كثيراً] أي لو أراك عدد الكفار كثيراً [لفشلتم] أي لأصاب المؤمنين وهن وجبن وهيبة من الإقدام والهجوم على الكفار [ولتنازعتم] أي ولحصل نزاع واختلاف بين المؤمنين وتفرق كلمتهم أيقاتلون أم لا. الزمخشري 2/224-225.
لذلك نقول إن القوة والجهاد بالمال والنفس وإعدادهم من فرائض الإسلام، ولكن هذه الفرائض إن لم نقل غائبة فهي شبه غائبة ومنسية من قبل كثير من المسلمين إن لم نقل عامتهم، مع أن الجهاد هو طريق النصر ووسيلة العز وإظهار دين اللـه ومحق الباطل وأهله ونوال رضوان اللـه. وإن تركه يعني إذلال المسلمين وذهاب قوتهم وزوال دولتهم لذلك قال تعالى: (كتب عليكم القتال وهو كره لكم وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم واللـه يعلم وأنتم لا تعلمون) البقرة – 216 أي هو كره لكم في الطباع و (عسى) من اللـه تعالى إيجاب. والمعنى: وعسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقة وهو خير لكم في أنكم تغلبون عدوكم وتظفرون به وتغنمون أمواله وتُؤْجَرون وتثابون على جهادكم. [وعسى أن تحبوا شيئاً وهو شر لكم] أي عسى أن تحبوا الراحة وترك القتال وهو شر لكم في أنكم تُغلبون وتُذلون وتذهب قوتكم. قال الإمام القرطبي: وهذا صحيح لا غبار عليه كما اتفق في بلاد المسلمين (الأندلس) تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الخراب، فاستولى العدو على كل البلاد وأَسَرَ وقتلَ وسبى واسترقّ. فإنا للـه وإنا إليه راجعون، ذلك بما قدمت أيديهم وكسبته. القرطبي 3/38-39.
هذه شروط لإحراز نصر اللـه، وأضدادها معوقات. ونسأل اللـه أن يوفقنا لتحقيق هذه الشروط وأن يكرمنا بنصره العزيز المؤزّر إنه على ما يشاء قدير.
2016-10-19