العدد 122 -

السنة الحادية عشرة – ربيع الأول 1418 – تموز 1997م

القـوات المـسـلحة الروسـيـة

القـوات المـسـلحة الروسـيـة

بقلم: أبو نبيل ـ موسكو

في 10/03/1997

لما كان وضع روسيا وجيشها من القوة أو الضعف له أثر مباشر على ذلك الجزء من الأمة الإسلامية الذي خضع لسيطرة روسيا المباشرة إبان الحكم القيصري، واستمر زمن الحكم الشيوعي في القفقاز وأسيا الوسطى، وله أثر غير مباشر على بقية الأمة الإسلامية، لا بل على الموقف الدولي برمته، كان لا بد من وقفة مع ما آلت إليه أمور الجيش في روسيا.

عند الحديث عن القوات المسلحة الروسية يتطرق إلى الأذهان فوراً الجيش السوفياتي ومؤسساته، يعزز هذا الأمر أن روسيا هي الوريث الاستراتيجي للاتحاد السوفياتي وعظمته المتمثلة أشهر ما يمكن باحتفاظ روسيا، دون غيرها من الدول المتفسخة عن الاتحاد السوفياتي، بالمقعد الدائم وحق الفيتو في مجلس الأمن الدولي. وكذلك سرعة نقل الجيش، الذي كان لا يزال سوفياتياً، فور التفسخ السلمي للاتحاد السوفياتي، لجميع الأسلحة النووية التكتيكية المحمولة على الطائرات والدبابات إلى الأراضي الروسية. وكذلك نجاح السياسة الروسية، بدعم غربي، في احتواء معظم التركة النووية السوفياتية الاستراتيجية وما يتبعها من الصواريخ الباليستية العابرة للقارات والموجودة، بالإضافة إلى أراضي روسيا نفسها، على أراضي أوكرانيا وكازاخستان وروسيا البيضاء، اللـهم باستثناء ما اتفق على تدميره ضمن المعاهدات مع أمريكا على أراضي أوكرانيا وبإشراف أوكرانيا نفسها على ذلك. فعلى الرغم من استمرار وجود الكثير من هذه الصواريخ حتى الآن على أراضي بعض تلك الدول خاصة كازاخستان، لارتفاع كلفة نقلها وإعادة نصبها، فإن القوات النووية في الجيش الروسي وحدها تسيطر عليها سيطرة كاملة.

هذه الذاكرة لا تزال ماثلة في الأذهان. لذلك يخشى أن يؤدي هذا الخلط إلى إعطاء صورة خاطئة عن القوات المسلحة الروسية تختلف عن حقيقة واقعها، لهذا قبل إعطاء الصورة عن قوة روسيا العسكرية اليوم لا بد من إعطاء لمحة عن الفوارق التي لها علاقة بالناحية العسكرية بين الاتحاد السوفياتي المنحل وروسيا الاتحادية.

كانت روسيا تشكل أكثر من نصف جمهوريات الاتحاد السوفياتي سكانياً ولا تزال، رغم أن عدد السكان فيها يتناقص. وكانت تشكل أكثر من 75% من مساحة كل جمهوريات الاتحاد السوفياتي. وهذان السببان، بالإضافة إلى كونها هي لا غيرها بانية الاتحاد السوفياتي، جعلا منها طبيعياً الوريث الاستراتيجي للاتحاد السوفياتي، وعلى الرغم من أن هذين السببين هما عامل قوة أمام أي من الدول الجديدة الأربع عشرة، إلا أنها تعتبر عوامل ضعف لها من الزاوية العسكرية الدولية، فقد فَقَدَ الجيش الروسي الـمَدَدَ العددي – خدمة العلم – إلى النصف تقريباً، وقد فقد النقاط الحدودية المتقدمة مع شرق أوروبا خاصة جنوبها ومع تركيا وإيران وأفغانستان وجزء كبير من الحدود مع الصين، بسبب تأسيس الجيوش المحلية في الدول الجديدة (هذا عدا ما كان يتمتع به هذا الجيش من قواعد في دول شرق أوروبا نفسها)، وفقد إمكانية الاستخدام الأتوماتيكي للقواعد والمطارات ومراكز القيادة ومحطات الإنذار المبكر التي بناها الجيش السوفياتي على أراضي الدول الأربع عشرة الأخرى الجديدة، وصار الجيش الروسي يحتاج إلى عقد المعاهدات العسكرية الحكومية لأجل الاستخدام، وصار كثير من هذه الدول يمتنع عن عقد هكذا معاهدات. وكذلك فقدت المؤسسة العسكرية الروسية الكثير من المصانع العسكرية ومراكز الأبحاث العلمية العسكرية والعلماء، والتي صارت بالنسبة لها مؤسسات أجنبية. وعلى الرغم من أن الثقل الأكبر لهذه الصناعات ومراكز الأبحاث كان يُتقصَّد أن تُقام على أراضي روسيا دون غيرها من الجمهوريات السوفياتية الأخرى، وكانت سياسة داخلية غير معلنة للحزب الشيوعي الحاكم وقتها، إلا أن تفسخ عَقْد الاتحاد السوفياتي قد أضعف جيش روسيا وضربه ضربة شديدة في هذه الناحية، خاصة أن جمهورية أوكرانيا بالذات والتي كانت تعتبر ثاني أكبر جمهورية بعد روسيا سكاناً واقتصاداً كانت لا تقل كثيراً عن روسيا في الصناعات العسكرية والأبحاث والعلماء، وكذلك فإن المراكز الفضائية الحساسة للجيش الروسي تقع كلها على أراضي كازاخستان. وعلى الرغم من أن حكومة نازاربايف في كازاخستان أمّنت لهم ولا تزال عَقْدَ المعاهدات من أجل استخدام روسيا لهذه المراكز والصناعات الفضائية إلا أن السياسيين وكذلك ضباط الجيش الروسي يعرفون أن هذا قد لا يدوم لهم طويلاً.

وأما الأسطول البحري فعلى الرغم من أن قائد أسطول بحر البلطيق استطاع سنة 1992م نقل ثلاثمائة قطعة بحرية من موانئ دول البلطيق الثلاثة – لاتفيا وليتوانيا واستونيا – عندما فاض الكلام عن استقلال هذه الجمهوريات الثلاث، فقد فَقَدَ الأسطول البحري الكثير من قواعده المتقدمة في شمال أوروبا. والمشكلة الأخرى التي قصمت ظهر البحرية الروسية هي قضية اقتسام أسطول البحر الأسود، بين روسيا وأوكرانيا، المتمركز بشكل أساسي في مدينة سيفاستوبل في جزيرة القِرِم، والتي كانت قد احتلتها روسيا القيصرية من الدولة العثمانية، فإن طولَ المحادثات التي بدأت مع تفسخ الاتحاد السوفياتي ولا تزال مستمرة حتى الآن، وتصلُّبَ أوكرانيا، وشَدَّ أمريكا على يدها في تصلبها، تبرز أنّ الاقتسام هو فعلاً عقدة حقيقية للمستقبل العسكري الروسي في المياه الدافئة، حتى لو اتُّفِق على تقسيم هذا الأسطول فإن روسيا لا تملك الموانئ العسكرية على البحر الأسود لاحتواء حصتها، فجزيرة القِرِم كلها خاضعة لأوكرانيا، وإنشاء ميناء مشابه لميناء سيفاستوبل يكلف مليارات الدولارات، ويزيد الطين بلة أن السياسيين الروس يتذكرون بشكل إعلامي أن جزيرة القرم بكاملها ومن ضمنها مدينة وميناء سيفاستوبل كانت أرضاً تابعة لروسيا الاتحادية إلى أن جاء حاكم الاتحاد السوفياتي خروتشوف الأوكراييني القومية وألحقها بأوكرانيا في خمسينيات هذا القرن.

كل هذه التفرعات لمشكلة تقسيم أسطول البحر الأسود وتعقيداتها أضعفت هذا الأسطول بشكل شديد وجعلته لا يزال يحمل علم دولة الاتحاد السوفياتي غير الموجودة حتى يتم الانفاق على تقسيمه، وأرْبَكَت الدولتين المتنازعتين عليه معاً قضيةُ تمويله، فلا تريد أي منهما الاتفاق على بوارج قد تصير غداً لغير جيشها. وهذا الخلاف على اقتسامه لا شك انتقل إلى داخله فصارت تتشكل مجموعات ضباط روسية  وأخرى أوكراينية على نفس المركب الواحد، حتى صار واقع هذه البوارج العسكرية وحاملات الطائرات والغواصات الاستراتيجية التي أنشِئت ليس لحرب تركيا وحدها، بل ولإمكانية السيطرة العسكرية في البحر المتوسط ودَكّ موانئ ومدن جنوب أوروبا الغربية في ظروف حرب عالمية. صار واقعها كما صرح به قائد أسطول البحر الأسود مطلع سنة 1997م بأن التوازن العسكري في البحر الأسود انقلب رأساً على عقب وصارت القوة البحرية التركية تفوق بست مرات القوة البحرية الروسية والأوكراينية مجتمعتين.

لذلك فإنه من زاوية تفكك الاتحاد السوفياتي وحدها فقد فقدت القوات المسلحة في روسيا نصف قوتها تقريباً مقارنة مع قوتها قبل تفكك الاتحاد السوفياتي.

قد يظن البعض أن انحسار قوة الجيش الروسي إلى النصف تقريباً تبقيه قوة عالمية يلوح بها السياسيون الروس للتدخل في الشؤون الدولية، وهذا لا يطابق الحقيقة، فإن الأدلة تشير إلى أن الجيش الروسي لا زال يزداد ضعفه وانحساره، وربما يتضاءل ليصبح مجرد قوة إقليمية محدودة نسبياً. وتفاصيل ذلك كالتالي:

أولاً: لا يخطئ من يقول بأن النكسة التي أصابت روسيا بانهيار المبدأ الشيوعي توازي الهزيمة في حرب عالمية، بل ربما تكون أشد أثراً، لأن انحطاطهم كان لعوامل مبدئية داخلية. وقد فَقَدَ الروس المحور الذي كانت سياستهم تدور حوله، وعلى الرغم من أن موسكو فقدت حقيقةً الناحية المبدئية الشيوعية في سياستها الخارجية بعد منتصف الخمسينيات إلا أنه على أي حال فقد شكلت الشيوعية محوراً للوسط السياسي الروسي كانوا يعرفونه ويتمسكون به في سياستهم الداخلية والخارجية ولو اسماً في كثير من الأحيان. أما وقد انهارت الشيوعية فقد فقدت روسيا وضوح تصورها لنفسها ودورها وأعدائها وحلفائها في سياستها الخارجية، وانتقل عدم الوضوح هذا إلى الجيش الروسي من أول الأمر.

لقد كانت حرب روسيا ضد المسلمين الشيشان دليلاً حياً على فقدان تصورهم لروسيا وحدودها ومواطنيها، فقد كان من عوامل ضعف العساكر الروس تساؤلهم هل بلاد الشيشان هي أرض روسية أو لا؟ هل الشيشان هم مواطنون روس أو لا؟ وفقد الجيش ثقته في قيادته السياسية التي تدفعه للحرب والخسائر الباهظة في الأرواح والعتاد في سبيل هدف قد تتراجع عنه وتقبل باستقلال الشيشان. والروس والذين قبلوا سلماً بانفصال جمهوريات الاتحاد السوفياتي الأربع عشرة عن روسيا ينظرون إلى الشعوب الكثيرة في شمال القفقاز وحوض الفولغا وغيرهم والتي لا تزال ضمن حدود روسيا الاتحادية الحالية ينظرون إلى هذه الشعوب بشكوك كثيرة، فحتى السياسيون الذين لا يريدون لروسيا أن تفقد جزءاً من أراضيها الحالية من ناحية، تربكهم التناقضات الدينية والعرقية وحتى التاريخية قبل سيطرة روسيا القيصرية على هذه الشعوب من ناحية أخرى.

ومحاولات تحديد وضوح الأهداف والدور للجيش الروسي هي الشغل الشاغل للسياسيين والعسكريين على السواء، ويطلقون عليها إعلامياً «تحديد عقيدة الجيش الروسي»، ومنذ الانهيار السوفياتي وحتى هذه اللحظة لا توجد بوادر تشير إلى قرب الاتفاق على هذه المسألة الخطيرة، وقد يتبادر إلى الذهن أن الخلافات في الرأي حالياً بين وزير الدفاع راديونوف وسكرتير مجلس الدفاع باتورين والذي كُلف من الرئيس يلتسين بتولي مسألة الإصلاحات العسكرية، محصورة في رأيين في المسألة وأنها اقتربت من الحل، والحقيقة هي أن هذه الخلافات بعيدة عن الخوض في عمق المسألة، وتشير إلى أن النقاش حول الإصلاحات في الجيش والصناعات الحربية سيستمر وقتاً طويلاً. والضبابية الناتجة عن الفرق الشاسع بين الدور التاريخي والإمكانيات اليوم لا تزال هي المخيمة على أذهان السياسيين والعسكريين على السواء.

يجمع السياسيون في موسكو على أن الدور العالمي للجيش الروسي قد ولّى وصار من التاريخ، ولعل ما بقي رمزاً له وهو وجود القوات النووية الاستراتيجية والمركبات الفضائية ذات الأغراض العسكرية لن يستطيع دفع روسيا قدماً إلى الأمام، لا سيما وأن مجرد الاحتفاظ بمثل هذه القوات له كلفته الباهظة على الخزينة الروسية. عندما أقر السياسيون في موسكو بهذه الحقيقة صاروا يبحثون عن مكانتهم الجديدة كدولة أوروبية، وصاروا يفتشون عن دورهم في أوروبا، وصاروا يتذكرون روسيا القيصرية حامية الكنيسة الشرقية في شرق أوروبا، والأخ الأكبر لشعوب أوروبا الشرقية ذات العرق السلافي، وصار البطريرك الأول في موسكو وجهاً سياسياً يدعى للمؤتمرات ومباركة أعمال الدولة، مع غرابة هذا الأمر من دولة كانت قريباً لا تعترف بالدين إطلاقاً، وحاولت روسيا ولو بشكل غير نشط تثبيت هذا الدور في شرق أوروبا، فأخذت تدعم الصرب ضد المسلمين في البوسنة وكان هذا ضمن ما يسمح به الموقف الدولي، وعندما شددت قليلاً القوات الدولية، بزعامة أمريكا، الطوق حول الصرب وأصابتهم بطائراتها، تجاوزت روسيا الحدود وأعلنت بأنها قد تدعم الصرب بدفاعات ضد الطائرات، عندها صارت السفن الأمريكية ترجم الصرب بالصواريخ وليس بالطائرات فقط. وفهم الروس الرسالة وأحجموا عن إنجاز وعدهم، فإن هذه الحادثة وغيرها أربكت الروس من جديد وزادتهم ضياعاً، فلعلهم فهموا أن سيطرة روسيا القيصرية على الشعوب السلافية كانت ولم يكن العامل الأمريكي قد دخل العالم بعد، وأمريكا فهمت أنه لا بد من دفن الأحلام القيصرية عند السياسيين الروس بتحريك قوات حلف الأطلسي فوق أراضي دول أوروبا الشرقية، فصعقت روسيا وكأنها نهضت من جديد ضد الغرب وأمريكا، ولكن الروس قد رأوا شدة التصميم الأمريكي في توسيع حلف الأطلسي، وقد أفقدتهم هزيمتهم الفكرية إرادة الصراع ورأوا ضعف اقتصادهم، فإنهم رجعوا في تاريخهم درجة أخرى وصاروا يتقبلون فكرة توسيع حلف الأطلسي، وخرجوا بفكرة حق روسيا في التوسع العسكري أيضاً. وعلى الرغم من الضعف الذي أصاب روسيا في كل نواحي حياتها إلا أن الروس يشعرون أنهم أمة يجب أن يكون لها دور خارج حدودها. ويقوي هذا الشعور وجود التركة النووية والفضائية الاستراتيجية السوفياتية التي لا تملكها إلا الأمم العظمى، لذلك لم يسكتوا على توسيع حلف الأطلسي. وعندما أدركوا أنه بلاء لا مفر منه، صاروا يفتشون عن جهة للتوسع العسكري فيها، وقد أعرب السياسي الروسي المخضرم فولسكي أن هذه الجهة هي الشرق، أما ما هو هذا الشرق فطبعاً يُستبعد أن يكون اليابان والصين، ويرجح أنه بلاد آسـيا الوسـطى المسـلمـة والقـفـقـاز تلحق بهم منغوليا.

إن عزل وزير الخارجية كوزيريف في منتصف 1996م والمعروف بإعجابه الشديد بالغرب واستعداده لدفع أي ثمن لعلاقات روسيا مع الغرب، والإتيان ببريماكوف من رئاسة دوائر المخابرات والتجسس العسكري إلى وزارة الخارجية، هذا التبديل في وزارة الخارجية لم يكن ذا أبعاد عميقة من قبل الرئيس يلتسين في العام الماضي، ولكن يخشى أن بريماكوف نفسه رئيس معهد الاستشراق سابقاً قبل توليه للاستخبارات والمتخصص بالعالم الإسلامي يريد أن يعمق أبعاد وجوده في وزارة الخارجية، فقد صرح في العام الماضي وفور قدومه إلى وزارة الخارجية بأن أول أولويات السياسة الخارجية هو العلاقات مع رابطة الدول المستقلة، أي السوفياتية سابقاً، فبعد مجيئه سارعت روسيا بأي ثمن لإنهاء الحرب الشيشانية، وعلى الرغم من أن بريماكوف هو رجل فكر سياسي أكثر منه سياسياً إلا أنه يخشى أن يشحن الوسط السياسي في موسكو بضرورة تصويب السياسة الخارجية الروسية إلى آسيا الوسطى والقفقاز، ما قد يؤدي إلى تركيز نفوذ روسيا على الشعوب الإسلامية في هذه المناطق. وإذا اعترفت روسيا نهائياً بهزيمتها في أوروبا الشرقية بعد توسع حلف الأطلسي عليها، وهذا لا بد حاصل، فلن يكون مجال لروسيا إلا النشاط في هذه الرقعة الإقليمية أي في آسيا الوسطى والقفقاز ومنغوليا، وستوجد دوراً لجيشها في حماية حدود هذه الدول، وفض النزاعات المحتملة والتعاون ومن ضمنه العسكري في مكافحة المد الإسلامي إلى هذه المناطق، وعلى هذا التطور المحتمل يمكن تحديد دور الجيش الروسي إقليمياً.

ثانياً: إن ضعف الاقتصاد الروسي له علاقة مباشرة ومروّعة بالجيش وضعفه، فقد أدركت أمريكا في الثمانينيات ضعف الاقتصاد السوفياتي فاتخذت من سياستها في سباق التسلح وبرامج حرب النجوم وسيلة لاستنزاف الاقتصاد السوفياتي ما قد يؤدي إلى قلاقل داخلية قد تعصف بالسلطة الشيوعية بسبب الفقر، وبما أن روسيا ورثت جيشاً عظيماً ونفقاته باهظة، وبما أن الاقتصاد الروسي لم ينتعش بسبب الانتقال إلى الرأسمالية، فقد صار الجيش الروسي ومشكلاته الشـغل الشاغل للسـياسـيـيـن فـي روسيا وفي غيرها من الدول.

كان في روسيا تسعة ملايين شخص من العسكريين وخبراء الصناعات والأبحاث العسكرية وعمالها يعتاشون من رواتب وزارة الدفاع، فصارت رواتب الجيش ليس بمقدور الخزينة الروسية دفعها، وصار العسكريون يتلقون الرواتب بالأقساط المستحقة عن شهور سابقة، وربما من العام الماضي، فوجد الاضطراب المعيشي بين أفراد المؤسسة العسكرية واستفحل الأمر حتى وصل إلى أن يقدم للجنود أقل من ثلاث وجبات طعام في اليوم ومن الأصناف السيئة الرخيصة، فكان وصف سكرتير الأمن القومي السابق الجنرال ليبد عند تفقده قطاعات الجيش التي تحارب في بلاد الشيشان مطابقاً للحقيقة حيث قال: (ماذا تنتظرون من جنود جائعين ودون ملابس لا تقيهم برد الشتاء؟)، وروسيا تعلن أنها لا تستطيع أن تسرح قطاعات واسعة من الجيش، لأن المسرحين سوف لن يجدوا عملاً لهم مما يزيد من الجرائم والاضطرابات الاجتماعية، فإنه في ظل هذا الضياع ليس من سبيل يمنع التسيب، فصار الضباط وكذلك الجنود إن تمكنوا يبيعون أسلحتهم بأبخس الأثمان حتى لعدوهم، وصار التجار ينقلون بضائعهم المدنية بالطائرات الحربية لزهد الكلفة، وكان مصدر السلاح الأول عند الأبطال المقاتلين من الشيشان هو شراؤها من الطرف الآخر للجبهة من الجنود والضباط الروس، وعندما انسحبت الوحدات العسكرية من بلاد الشيشان إلى منطقة سنافروبل، لم يستطع الجيش أن يؤمن لجنوده حتى سقفاً يقيهم برد الشتاء اللـهم إلا الخيام، وصار أفراد هذه الوحدات يعيشون من المساعدات الإنسانية التي يقدمها لهم الأهالي في هذه المنطقة، عند ذلك أعرب حاكم المنطقة المذكورة عن ذعره من الانتشار الواسع للسلاح بين السكان والذي مصدره أفراد الوحدات تلك، هذا التسيب لم يقتصر على الوحدات الميدانية بل انتقل إلى القيادة، فها هو وزير الدفاع راديونوف قد أقدم على عزل قائد القوات البرية الجنرال سيميونوف بتهمة مبهمة وهي أعمال مشينة بشرفه العسكري، وقد علق على هذه الإقالة رئيس لجنة الدفاع في البرلمان الروسي روضليف بقوله: «إنني أتخوف من أن طائرات الهيلوكبتر التي كانت تبيعها الشركة التي تعمل فيها زوجة الجنرال سيميونوف كانت تصل لأيدي المقاتلين الشيشان»، واستفحل التسيب في القيادة، فقائد القوات البرية هذا لا يزال حتى اليوم يداوم في مكتبه في قيادة القوات البرية رغم أن قرار عزله قد صدر قبل ثلاثة أشهر، ولكنه بانتظار توقيعه من الرئيس يلتسين والذي لم يجد لهذا الأمر وقتاً بعد، والقضاء العسكري لا يزال يحقق في صفقة الثلاثين مليون دولار وهي ثمن مبيعات وزارة الدفاع من الأسلحة إلى بلغاريا، فقد حُولت هذه النقود على حسابات في بنوك غربية لأشخاص لا علم لوزارة الدفاع بهم، والمتهم الأول في هذه القضية هو وزير الدفاع السابق غراتشوف، وهذه فقط أمثلة ليفهم مدى التسيب العسكري الناتج عن الضائقة الاقتصادية، وفساد قيادات الجيش الروسي، فإن القضاء يحقق في قضايا كثيرة جداً مثلها قد اكتشفت، وما لم يكتشف فهو أعظم على أغلب الاحتمالات.

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *