العدد 122 -

السنة الحادية عشرة – ربيع الأول 1418 – تموز 1997م

التضليل في سياسة الاحتواء (4)

التضليل في سياسة الاحتواء

(4)

بقلم: سعيد عبد الرحيم

إن دول الغرب وعلى رأسها أمريكا، بسبب الملكة والسيطرة الدولية، قد أتقنت ممارسة فن تضليل الشعوب والأمم والدول والأحزاب أيما إتقان، حتى برعت في هذا الفن بشتى أنواعه وصنوفه ومنه التضليل السياسي براعة فائقة، حتى أصبح التضليل عنصراً هاماً في التخطيط، وجزءاً جوهرياً في نجاح المخططات وأهدافها، وما نجاح أمريكا المحسوس في تضليل الأوساط السياسية بشكل مذهل وخطير إلا مثالاً من الأمثلة على براعتها في ممارسة هذا الفن، فقد تمكنت من جعلهم أبواقاً ينطقون بلسانها، ويحملون ما تريد من الأفكار والآراء والتحليلات، حتى أضحى إبراز الحقائق والآراء السياسية الصائبة خيالاً حين تعرض على السياسيين، لأنهم يسمعون التصريحات المضللة المخالفة للحقائق والآراء الصائبة، ويشاهدون المناورات أو الأعمال المناقضة لها.

والتضليل في سياسة الاحتواء يكمن في حقيقة الأخطار ونوعها وصفتها وزخمها وموقعها، ويبرز في علاجها ونتائجها، والهدف من التضليل هو خداع الخصوم والمنافسين ليكون هذا التضليل، بعد تجسيده في الخصوم، أسلوباً لاستغلال ما يصدر عنهم من أقوال وأفعال، يتم تقديرها قبل وقوعها وفق سياسة حصر الاحتمالات المتوقعة لما سيصدر عنهم، والعمل على دفعهم نحو الاحتمال المنشود لخدمة هذه السياسة وغاياتها الحقيقية، وبالتالي يتم تسخير الأخطار المحدقة باتجاه عكسي، فتنقلب على الخصوم والأعداء بدلاً من أن تكون خادمة لهم، فيكونون كالفراش الذي يحوم حول النار لتحرقه، ويسقطون في الفخ الذي نصب لهم. فمثلاً خطر المشاكل الحدودية التي افتعلها الكافر في بلاد المسلمين يمكن تسخيرها لخدمة الإسلام وأهله وضد الكفار وأعوانهم في ظل دولة الخلافة.

والتضليل يتم بسياسات متعددة منها:

  1ـ اتباع سياسة التمييع: وذلك عن طريق إبراز التناقض في الأقوال والأفعال والنوايا المتعلقة بسياسة الاحتواء. وعليه فمن الخطورة على السياسيين الاعتماد فقط على التصريحات في إدراك محتوى هذه السياسة وأبعادها، أو الاعتماد على الأفعال التي يمكن تفسيرها بعشرات من التفاسير التي تتفق مع بعض التصريحات أو تتناقض معها، صحيح أن بعض التصريحات قد تعبر عن جزء من حقيقة الواقع، ولكن التصريح وحده لا يمثل الدليل على صحة الواقع السياسي لهذه السياسة وأبعادها، بل يؤتى به كقرينة حين يلزم ذلك ليكون التصريح داعماً لإدراك مضمون السياسة وأبعادها، وفي بعض الأحيان قد يكون مجمل التصريحات للتضليل والخداع، كما هو الحال في التصريحات الأمريكية المتعلقة بإيران والسودان وكوبا، فسياسة أمريكا في هذه الدول لا تتعلق باحتواء الأخطار الصادرة عن هذه الدول أو قياداتها لأنها عميلة لأمريكا، وإنما تتعلق باحتواء الأخطار الخارجية التي تهدد مصالحها فيها، وتستغل هذه الدول والقيادات في احتواء الأخطار التي تهدد مصالحها وأهدافها في هذه الدول، وفي غيرها من الدول.

أما بالنسبة للأفعال، فإن الأعمال السياسية يمكن أن تخدم أغراضاً عدة، ويمكن أن تفسر بدوافع وأهداف متباينة ومتناقضة، وبعض أعمال سياسة الاحتواء تبدو متناقضة مع الغايات والدوافع الحقيقية على المدى القريب، لذلك لا يجوز الركون دائماً إلى الأعمال السياسية كدليل لتفسير سياسة الاحتواء وتحليلها، بل يؤتى بها كقرينة حين تعبر عن بعض الدوافع والغايات الحقيقية كالتصريحات سواء بسواء، وتستبعد حين تكون للمناورة والخداع.

2ـ اتباع سياسة التضليل في اللغة السياسية: أي، في اللغة التي تعبر عن الأخطار وعلاجها، وخصوصاً فيما يتصل بالاصطلاحات العرفية السياسية، نحو: اصطلاح الحرب الباردة، والوفاق. واللغة السياسية هي الوعاء الذي يعبر عن الوقائع السياسية، وهذا الوعاء يتجسد في الحقائق العرفية الخاصة بالسياسيين، والغرب يعمد إلى التضليل في اللغة سواء في الوقائع السياسية أم الفكرية أم الثقافية أم العلمية من خلال عدة سياسات يتبعها أهمها:

  ( أ )  سياسة التمييع: حيث يقوم الغرب بتمييع الواقع السياسي المراد وصفه باصطلاح سياسي، عن طريق تمييع المعلومات التي تصف هذا الواقع، فلا وجود لتعريف صحيح أو صائب عنده، بل الموجود تعريفات متعددة مختلفة للواقع السياسي الواحد، ثم يجري اختيار تعريف إجرائي، وهذا التعريف لا ضرورة لأن يكون منطبقاً على الواقع المنوط به، بل هو تعريف يجري استعماله وتداوله، بوصفه تعريفاً عملياً لا بوصفه تعريفاً صحيحاً، كتعريف الحرب الباردة والوفاق ونحو ذلك.

  (ب)  سياسة التعتيم: حيث يقوم بتعتيم الواقع السياسي المحسوس المراد وصفه ليشمل وقائع أخرى لا تتصل به، بل تختلف عنه في النوع والصفة، كاصطلاح القوة، والاحتواء، والحرب الباردة والوفاق، والدولة، ونحو ذلك.

  (ج)  سياسة التجريد: حيث يقوم بوصف الواقع بصورة مجردة عن حقيقته السياسية المتعلقة به، كاصطلاح النهضة، والقانون الدولي، والموقف الدولي وكل ما هو دولي، والمعارضة، والرأي والرأي الآخر، والتعددية السياسية، ثم يقوم بعملية التضليل حين يربط المجرد بالواقع المحسوس: أي حين يربط بين الاصطلاح والواقع المنوط به.

والحقيقة التي لا مشاحة فيها أن الحقائق العرفية الخاصة لا ترفض ما دامت لا تتعارض مع ثقافة الأمة ومفاهيمها الخاصة، بشروط أهمها يتعلق بمعنى الاصطلاح بحيث يكون المعنى المعبر عن واقع هذا الاصطلاح جامعاً بحيث يشمل كل الواقع المنوط به، ومانعاً من دخول وقائع لا تتصل به، ومنطبقاً على محل الواقع أو موضعه المنوط به، فإن حصل خلل في المعنى فيجب رفضه وإبراز أنه غلط.

وعليه فلا بد من محاربة عمليات التضليل والميوعة بشكل دائم، والحرص على كشف مخططات الكافر بصورة دائمة لكي يتأتى إنقاذ الأمة وإنقاذ الإسلام والدولة في المستقبل من مؤامرات الكافر وأعوانه، ولقد أسهم تضليل أمريكا للعالم بشكل عام وللاتحاد السوفياتي بشكل خاص في اللغة السياسية وخاصة المتعلقة بالحرب الباردة والوفاق في نجاح مخططاتها وتحقيق أهدافها إبان الحرب الباردة القديمة والجديدة والوفاق بينها وبين روسيا.

فالحرب الباردة ليست حالة من التوتر في العلاقات الدولية، والوفاق ليس حالة من الانفراج في العلاقات الدولية، وذلك لعدة أسباب أهمها:

  ( أ )  التوتر في العلاقات أمر طبيعي كالانفراج سواء بسواء، لأن المصالح والأهداف تتضارب وتتفق، ولكن المصالح والأهداف الأساسية المبدئية متضاربة دائماً بين الدول المبدئية، وهذا بدوره يبرز توتراً على أسس مبدئية، وهذا التوتر هو الذي يجعل الحرب الباردة ناشبة بين الدول المبدئية، أما المصالح والأهداف غير المبدئية فإنها قد تتوافق وقد تتعارض، حتى بين الدول التي تعتنق نفس المبدأ، والأغلب هو التعارض لا التوافق ولا الانسجام لتباين المصالح والأهداف بين الدول، فالتنافس بين أمريكا وبين بعض دول أوروبا أكثر كمّاً وأكثر زخماً من الصراع بين أمريكا وروسيا على المصالح والأهداف غير المبدئية إبان الحرب الباردة والوفاق بينهما، ومع ذلك لا يصح إطلاق لفظ الحرب الباردة على العلاقة بين أمريكا وأوروبا، ولا يصح إطلاقها على الحروب الأهلية الداخلية كالحرب الأهلية التي نشبت في فرنسا عام 1968، وكما لا يصح إطلاقها على النزاع الذي نشب بين الاتحاد السوفياتي والصين، لأنها صراع مبادئ ينشأ عنه توتر دولي ومحلي وهو توتر حقيقي يستند إلى أسس مبدئية ولو كان أساساً واحداً.

  (ب)  العلاقات بين الدول المبدئية لا تنحصر في المصالح والأهداف المتضاربة بل تشمل كافة المصالح والأهداف سواءً أكانت اقتصادية أم علمية أم عسكرية، وسواء أكانت متفقة أم متضاربة، فالانفراج والتوتر في العلاقات بين الدول أمر طبيعي ولا يعني وجود التوتر وجود الحرب الباردة، ولا يعني وجود الانفراج وجود الوفاق، لأن التوتر والوفاق مختلفان في النوع والصفة والزخم، والحرب الباردة تتعلق بالصراع المبدئي بين الدول المبدئية على الصعيدين السياسي والفكري وعلى الجبهتين الداخلية والخارجية وعليه فلا علاقة للحرب الباردة بالتوتر في العلاقات الدولية ولا علاقة للوفاق بالانفراج في العلاقات الدولية.

  (ج)  الوفاق أو الانفراج الدولي ليس نقيض الحرب الباردة، وهو في واقعه المنوط به لا يستلزم عكس الحرب الباردة، لأن الوفاق الذي حصل بين أمريكا وروسيا في عام 1961 هو سياسة تعايش سلمي بين الرأسمالية والشيوعية، على أن يتخلى الاتحاد السوفياتي عن الطريقة الشيوعية في نشر الفكرة الشيوعية، وهو حين قَبِل ذلك قد تخلى عن الفكرة ضمناً، لأن الفكرة لا حياة لها بدون الطريقة، فهو حين قبل أن يكون الصراع والانسجام بين مصالحه وأهدافه وبين مصالح وأهداف الولايات المتحدة على المسرح الدولي قائماً على أسس غير مبدئية، قبلت الولايات المتحدة أن يجري بينهما اتفاق على بعض المصالح والأهداف غير المبدئية على المسرح الدولي، كالمتعلقة بالصين وألمانيا، كما وافقت على إيقاف الحرب الباردة ضده على الجبهة الداخلية، هذا هو الواقع السياسي للوفاق الذي حصل بين أمريكا وروسيا، وهذا الواقع لا يصح أن يطلق عليه انفراج في العلاقات الدولية، لأن المسألة لا تتعلق بالتوتر أو الانفراج في العلاقات إذ هي أمور طبيعية بين الدول ومنها الدول الكبرى التي تتحكم في العلاقات الدولية، وإنما المسألة تتعلق بواقع معين أطلق عليه اصطلاح (الحرب الباردة)، وواقع آخر لا يعتبر نقيضاً للأول أطلق عليه اصطلاح (الوفاق الدولي) أو الانفراج الدولي، فإقحام العلاقات لبيان معنى الاصطلاح لا يفسره وإنما يضلل المرء في إدراك حقيقة واقع هذا الاصطلاح، فالاصطلاح له واقع منوط به، فلا بد من فهمه ومعرفة حدوده ونوعه وصفته حتى يتأتى إدراك واقعه بمعزل عن تضليل الكفر وأهله. وتجدر الإشارة إلى أن الوفاق الدولي يتعلق بالمسرح الدولي بخلاف الحرب الباردة فقد تتصل بالجبهتين الداخلية والدولية وقد تنحصر في الجبهة الداخلية حال تخلي الخصم عن مبدئه من ناحية دولية.

  (د)  سياسة التشكيك في الحقائق والقواعد السياسية، عن طريق ترسيخ سياسة التمييع في فهم وتحليل السياسات بشتى أنواعها وأصنافها، ومنها سياسة الاحتواء، مما يساعد على جعل الخصم مائعاً في فهم هذه السياسة وغيرها، فلا يدرك حقيقة محتوى هذه السياسة وأبعادها. فالسياسة حسب المفهوم الشائع الخاطئ أنها ظنون، والحقيقة أن السياسات تتضمن حقائق قاطعة، وقواعد صحيحة، وتتضمن أفهاماً ظنية، ولكنها تبقى صائبة ما دامت تستند إلى الحقائق والقواعد. ولا قيمة للفهم السياسي إن لم يستند إلى الحقائق والقواعد السياسية الصحيحة وإن كانت نتائجه صحيحة، فالعبرة ليست بصحة النتائج بل بصحة الفهم وصحة الربط بين الوضع السياسي وبين المعلومات السياسية ومنها القواعد والحقائق، وعليه فيجب متابعة التصريحات والأعمال السياسية، ومتابعة ظروفها، وربطها بالقواعد والحقائق السياسية للوصول إلى الفهم الصحيح أو الصائب وإن كان مناقضاً للتصريحات والأعمال السياسية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *