العدد 123 -

السنة الحادية عشرة – ربيع الآخر 1418 – آب 1997م

السعي للخلافة بين الإفراط والتفريط

السعي للخلافة بين الإفراط والتفريط

الكلمة التي ألقيت في يوم الخلافة الثاني المنعقد بجامعة بير زيت في فلسطين بتاريخ 8/3/1997م

 بقلم: يوسف مخارزة

الحمد للـه الذي جعل العزة للمؤمنين فقال: (وللـه العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكنّ المنافقين لا يعلمون) والصلاة والسلام على سيدنا محمد الذي واجه بالحق أجلاف المشركين، وأشهد أن لا إله إلا اللـه وحده لا شريك له، شهادة أبرأ بها ممن تألهوا وهم في قبضة الجبار وتغطرسوا ومِن ورائهم الموت، رضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ونسوا يومَ تلفح وجوههم النار. وبعد،

عندما نتحدث عن الخلافة أيها الإخوة لا نتحدث عنها كشيء من الماضي البعيد، ولا كفقيد نندبه وننوح عليه، ولا نتحدث عنها كحلم يداعب الأذهان ونحن نعيش مرارة الهزيمة وإرهاصاتها، بل نتحدث عنها باعتبارها المشروع الكبير الذي يشغل ذوي الفكر والإحساس من الأمة وأرباب المسؤولية فيها، باعتبار هذا البحث تجسيداً لمعنى العبودية للـه، المتمثل في الانقياد للأحكام التي شرعها اللـه لأجل أن تَحكُم البشريةَ جميعها. نعم إننا نبحث عن هذا الهدف العظيم، ولو رأى قومنا أن هذه خيالات بعيدة لأنهم تلهوا بأنصاف الحلول وأشباه الدول، أو آمنوا بالسير الوئيد باتجاه الغاية من خلال تجزئة الأهداف والمراحل، فكانت المصـيبة الكبرى في أن يدفع المسلمون بطاقاتهم فيما لا طائل من ورائه، لا بل ترسـيخ أنظمة الكفر ودعمها وإعطـاؤها المشـروعية ممن نذر نفسه لتغييرها.

أيها الإخوة الأعزاء:  إن الكافر الذي استعمر بلادكم وما يزال قد فكر ملياً في حماية مصالحه في بلادكم، فلم يكتف بأخذ أجهزة الحكم والأوساط السياسية إلى جانبه، بل عمد إلى ما يسند السلطة فأطبق عليه سيطرته حتى لا يجعل مصالحه مرهونة بالأجهزة أو الحكام لأن الأجهزة والحكام عرضة للتغير والتبدل. إلا أنه جعل أجهزة الحكم هذه والأوساط السياسية التي حولها في الخنادق الأمامية أمام الأمة حتى تضيّع الأمة كثيراً من جهدها وتضحياتها لتصل إلى الخنادق الأولى، كالبرلمانات أو الوزارات أو رئاسة الوزارة أحياناً، ظناً ممن يصل إلى هذه المواقع أنه سيحقق ما يريد ويوجد الإسلام في معترك الحياة. إلا أن الناظر ملياً في البرلمانات والحكومات في بلاد المسلمين يجدها لا تعدو أن تكون مجموعة من الموظفين والأجراء الذين ينفذون ما يُملى عليهم، وإذا شكلوا عبئاً أو استنفدت الغاية التي أُوصِلوا لأجلها لجأ الاستعمار إلى تغييرهم بهذه الطريقة أو تلك.

من هنا فإن واجب العاملين للتغيير بإيجاد الخلافة أن يوجهوا أنظارهم إلى ما يسند السلطة فعلاً وهم أهل القوة والمنعة، وفي أيامنا فإن هذا يتمثل في الجيوش، بوصفها القادرة على تحويل الأفكار المسطرة إلى وقائع على الأرض، أما العمل خارج إطار الجيش فسيجعله أداة طيعة في أيدي المستعمرين لضرب الإسلام. وهذا هو عينه الذي فعله رسول اللـه صلى الله عليه وسلم، حيث رفض أن يكون ملكاً على قريش ومضى في سبيل الدعوة إلى أن أوحى اللـه إليه أن يستنصر بأهل القوة والمنعة بعرضه نفسه على القبائل إلى أن وفقه اللـه بنصرة الأوس والخزرج له بتأييد اللـه وعونه.

وعليه فإن كل عمل لا يشمل الانصراف إلى ما يسند السلطة ولا يتوجه إلى أهل القوة والمنعة لا يكفي، حتى وإن كان مشروعاً. وإن الذين غفلوا عن هذه الحقيقة فأوغلوا في دهاليز البرلمانات وأجهزة الحكم الكافرة، مؤمنين بالتغيير التلقائي في آخر المطاف، دون أن تتراءى لهم منهجية واضحة كل هؤلاء اصطدموا بعواقب نهجهم وخطأ تصورهم، فإما أن يصل بهم المطاف إلى ردات الفعل المضطربة التي تشبه حركة المذبوح أو يساورهم إحساس بالجفاء للمبدأ والالتصاق بالأفكار الوضعية التي يأنسون بها بعد توليهم المعالجة على أساسها زمناً طويلاً، وفي كلا الحالين يفقد العاملون للإسلام جهدهم وإنجازاتهم وثقة الأمة بهم، لأنهم ينتهون إلى الاصطفاف في معسكر الإفراط الذي يصبح فريسة سهلة لأجهزة المخابرات الغربية، عن حسن قصد في الغالب، فيكثر قتل الأبرياء وغير الأبرياء، وتدخل الأمة في دوامة صراع داخلي، تحركه أصابع مشبوهة، ويدفع إليه أتون الغضب الأصم الذي ينعتق من كل الضوابط. وهذا الوضع كافٍ لأن يجعل الناس يقولون: إن كان هذا هو الإسلام فنحن لا نؤمن به ولا نرضاه. أو ينتهون إلى معسكر التفريط الذي يحكم بالكفر، ويحرس الكفر بحراب الإيمان. ركبوا قطار الشعارات فصاروا أصحاب القرار، ولئن سألتهم من الذي جعلكم تحكمون بالكفر ليقولن اللـه!!! فقد أوحى لنبيه الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم أن يكون وزيراً عند الملك ونحن على آثاره مقتدون. وتستمر المعركة بين الحكام وبين المظلومين من الأمة، فيكون المفرّطون في معسكر الحاكم تحت شـعار الحنيفية السمحة التي قضت بصيانة الدماء وحفظ الدهماء. فيختلط الحال على الجهال، ويضيع الناس بين قسـوة الإفـراط وميوعة التـفريط، فتكون الفتنة ويحبط الكثيرون، فيخرجون من ميدان العمل ليستسلموا لمكائد الكفر ومهانة الأولـى والآخرة، وأكثرهم ينقلب حاله ويتبع هواه ويكون أمره فرطاً.

وهاكم نماذج على ذلك، فقد خاض المسلمون الانتخابات في الجزائر وال على هذه الانتخابات أن تكون طريقاً ممهداً لوصول الإسلام إلى المعترك. وكان الذي تعلمون، فقد أجهضت، وسندها هذه الانتخابات وكأن شيئاً لم يكن وداسوا على الديمقراطية والتعددية التي تغنوا بها، فغرقت البلاد في حمامات دم لا نهاية لها، واضطرت الحركات الإسلامية أن تدخل في دوامة الفعل ورد الفعل مع النظام الذي يملك القوة وأسبابها ووسائل الإعلام التي تجعل الحركات الإسلامية ضحية الدعاوة الكاذبة التي تنفذها المخابرات الفرنسية أو الأمريكية باسم الدين في الجزائر، ولم تعد التجربة في الجزائر نموذجاً مقبولاً حتى عند القائمين عليه، وإن قُبِل فلماذا يسيرون فيه؟ إذن أقول لأن أسباب العودة قد تقطعت فليس إلى خروج من سبيل ويعلم ذلك أولو الألباب.

وهاكم نموذجَ حزب الرفاه الإسلامي في تركيا وعلى رأسه أربكان الذي وصل لرئاسة الحكومة بعد أن تعهد بالمحافظة على العلمانية ودستور البلاد الذي صممه دهاء الكفر، وتعهد بكل المواثيق التي ترضي الكافرين والزنادقة من أتباع الحضارة الغربية في تركيا، وتعهد أن يجعل تركيا عضواً في الحلف الأطلسي، ومضى في تنفيذ ما تعهد به. لكن أيام الصفاء تكدرت بكلمة من الملحق بالسفارة الإيرانية في تركيا حيث صدع في إحدى ضواحي أنقرة بكلمة حيث قال: فقال ينبغي أن تطبق تركيا الشريعة الإسلامية. فتحرك الجيش وقامت الدنيا وثارت ثائرتهم، ما أرغم أربكان على أن يقول: «كلا إنها كلمة هو قائلها» فأقعده كبار الضباط في جلسة يتعلم فيها أدب الانضباط، وأملوْا عليه فسمع وأطاع، أمروه أن يمنع أي دعاوة مؤيدة لتطبيق الشريعة في محطات الإذاعة والتلفزة الخاصة فهي ممنوعة أصلاً في محطات الدولة، وأمروه أن يبارز اللـه في حكمه علناً فيفرض قيوداً صارمة على اللباس الشرعي، وأمروه أن يفرض رقابة صارمة على المؤسسات الإسلامية التي تسيطر عليها الجمعيات ذات الطابع الإسلامي، وفرض رقابة على بيع الأسلحة الخفيفة مخافة أن تكثر في أيدي أبناء الحركات الإسلامية، وأمروه أن يعمل لتحويل المدارس التي تتولى إعداد الأئمة إلى مدارس مهنية، لأن عدد الأئمة في تركيا زائد عن الحد المطلوب. واقترحوا إغلاق معاهد تعليم القرآن التي يسيطر عليها الإسـلاميون مخافة أن يعلم الإسـلام على حقيـقته أو يقارب هذه الحقيقة. كذلك أمره العسكريون بأن يسرّح الضباط الذين تظهر عليهم أية مشاعر إسلامية، وأن لا يسـمح لهؤلاء الضباط المسـرحين أن يدخلوا أجهـزة الدولة أو وظـائف البلديات. وبهذه الملامح المشوهة سيظهر حكم أربكان – الذي وجد نفسـه مأموراً وليـس آمـراً ومـحـكـوماً وليس حاكماً – غافلاً عن أنّ لحم الخنـزيـر لا يحل أكله ولو ذبحه أمام المسـجد وطبخه أمام المسلمين وأن الكفر هو كفر سواء طبقه أتاتورك أو أربكان.

وبذلك ينبغي أن تتوجه طاقات العاملين للإسـلام إلـى معاقل القوة وأهل المنـعة، في جملة من تتوجه إليه، ليُكسـَب ولاؤهـم ويُـنـال نصـرُهم، ويكفّوا عن الانشغال بما يضيع الوقت والـجـهـد ويـحـبـط العـمـل ويـمحق الأجر ويرفـع الكـفـار ويـخفض المسلمين. فأهل القوة هــم عمــاد الـخــلافــة وحـراســها وهم ضـمـانـتـها بعد نصـر اللـه لعباده (إنا لننصر رسـلنـا والذيـن آمنـوا فـي الـحيـاة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *