العدد 124 -

السنة الحادية عشرة – جمادى الأولى 1418 – أيلول 1997م

المسـلمـون والغـرب (6)

المسـلمـون والغـرب (6)

الغرب يسخّر الإعلام والتعليم والعلمانية لتضليل المسلمين

بقلم: أحمد المحمود

الإعلام والتعليم:

إنهما سلاحان فتاكان يصيبان العقول والنفوس، وينفذان إلى القلوب فيجعلانها تنقاد، من غير حاجة إلى معارك وحروب. إنهما سلاحان يؤديان إلى استعمار أدهى وأمرّ من الاستعمار بصورته المعروفة. بهما امتلك الغرب ناصية الأمة، ونفذ إلى داخلها، وملك عليها قرارها، وأملى عليها توجهها. وبهما استطاع الغرب إبعاد المسلمين عن الفهم الصحيح وتشويهه، وبهما استطاع نشر مفاهيمه وقناعاته ومقاييسه، وبهما عمل على إيجاد التبعية له.

إن السلاح العادي المعروف يُخْضِع ظاهرَ الإنسان في حين يبقى الداخل يتحفز للتخلص من حامله، ولكن سلاح الإعلام والتعليم يُخضِع ظاهر الإنسان وباطنه. إنه استعمار جديد متطور جداً عن الاستعمار القديم.

لقد وعى الغرب في استعماره الفكري مدى خطورة الإعلام والتعليم فاستخدمهما لمصلحته منذ بواكير استعماره للمنطقة، وما زال يستخدمهما حتى يومنا هذا، بحيث إن كل ما نقرؤه أو نسمعه هو من زيفه ولمصلحته.

ففي مجال التعليم وضع الغرب البرامج التي تتناسب مع تحقيق أهدافه، وسخّر الكتّاب من أهل البلاد الذين ترعرعوا في أحضانه، والذين رأوا في أفكاره خلاص أمتهم، فزيّنوا له باطله وشوهوا الحقائق، وفسروا النصوص والحوادث بما يتلاءم مع مصالح الغرب. فصدرت الكتب التاريخية والتربوية والأدبية، واللغوية، والفكرية، والفقهية وحتى الجغرافية وكتب الحضارة، وغيرها…. وهذه الكتب كلها تحارب الدين وتفسر الأمور والوقائع والنصوص بشكل غلط. وقد شارك في وضع هذه الكتب مستشرقون، وآخرون من جلدتنا تعلموا في معاهدهم وجامعاتهم، التي يشرفون عليها، ثم أعطوهم ألقاب الدكاترة أو الأساتذة، وأضفوا عليهم صفات الباحثين أو المفكرين، وشهروهم في وسائل الإعلام وجعلوهم يشرفون على الجامعات وبالتالي على البرامج التي وضعوها لتسميم المثقفين الذين يتخرجون غربيّي التوجه، فاسدي الذوق، أعداءً للأمة وإن لم يشعروا، يكرهون تاريخ أمتهم، ويخجلون من مفاهيم دينهم، ويرفضون طريقة الحياة التي أقرها الإسلام ويتبرؤون من عاداته وأعرافه.

أما الإعلام فقد أحاطه الغرب بعنايته الفائقة منذ الأيام الأولى لاستعماره. بل قل قبل استعماره، فأنشأ ابتداءً الصحف والمجلات، وهي أدوات العصر الإعلامية في ذلك الوقت. فعلى سبيل المثال أُسست بين عامي 1868 و1900 إحدى عشرة صحيفة أسسها نصارى عملاء للغرب، من بينها واحدة فقط أسسها مسلم. ومن عام 1900 حتى عام 1930 أُسست ست وعشرون صحيفة من بينها أربع فقط أسسها مسلمون. ومن عام 1930 حتى عام 1960 صدرت كذلك ست وعشرون صحيفة، من بينها ثمان فقط أسسها مسلمون.

هذه الإحصائية البسيطة تظهر أن غالبية المؤسسين كانوا من النصارى، وهذا يدل على أن الغرب كان يعتمد على حلفائه في نقل أفكاره، ويدل أيضاً على أن المسلمين قد أخذوا مع الوقت يخدمون الغرب في نقل أفكاره ويتخرجون من مدارسه. على أن إعطاء الامتياز بإصدار صحيفة لمسلم لا يعني إلا أنه سيخدم فكر الغرب وحضارته وسيكون بوقاً إعلامياً لهم ولأطماعهم. وقد استطاعت الصحف أن تقوم بدور فعال في عملية الخروج على الدولة العثمانية.

ولقد أحاط الغرب الصحف بهالة كبيرة فسماها بأسماء تدل على أهميتها من مثل: (صاحبة الجلالة) و(السلطة الرابعة) و(صوت الذين لا صوت لهم).

وحملت هذه الصحف لواء الدعوة إلى أفكار الغرب وكانت عاملاً مساعداً له في الترويج السياسي لما يريد، فكانت تستغل أخبار الحكام العثمانيين وتشوهها، وتقلب الحقائق وتطالب بالإصلاح على طريقة الغرب، وتدعو إلى الانفصال عن مركز الدولة وإنشاء دولة للعرب على اعتبار أنهم من عرق أسمى وأشرف من العرق التركي، وتستغلّ ذلك للدعوة إلى الوطنيات والقوميات، وكذلك تناولت هذه الصحف والمجلات قضايا تحرير المرأة لتصور كم أن المرأة في الشرق مظلومة ومغلوبة على أمرها بينما هي في الغرب محبوبة طليقة. وخاطبت الشباب ذكوراً وإناثاً فدعتهم إلى ممارسة حرياتهم. واتسعت حقول اهتمامات الصحافة لتطال جوانب كثيرة من الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والاكتشافات العلمية التي تظهر مدى تفوق الغرب ولتستغل ذلك للدعوة إلى أفكاره. وتحدثت كذلك عن سِيَرِ العظماء (عظماء الغرب) وروائع القصص الغربية ليتخذ المسلمون مشاهيرهم قدوة لهم، وأفكارهم ومقاييسهم أفكاراً ومقاييسَ لهم. وقد أدت الصحف والمجلات دورها المرسوم لها في ذلك الوقت وآتت ثمارها الخبيثة.

أما اليوم فإن الغرب قد أضاف إلى الجرائد والمجلات كل وسائل الإعلام التي توصل إلى اكتشافها، فأحاط العالم بشبكات إعلامية ضخمة وجعل وسائل الإعلام في الدول الأخرى تابعة لشبكاته لدرجة أننا أصبحنا لا نقرأ إلا ما يكتبه، ولا نسمع إلا ما يذيعه، ولا نشاهد إلا ما يبثه، ولا نتحدث إلا بما يريده، إن شعاره هو أنه «لا يرينا إلا ما يرى». وأنشأ له كذلك جيشاً من الإعلاميين والصحافيين، من أهل المنطقة، يرتبطون بسياسته بشكل مباشر. ولما كانت الصحف والمجلات تابعة لأنظمتها وتنطق بسياسة الحكم فيها أنشأ مجلات وجرائد له في الدول الغربية تظهر أنها حرة في التعبير وفي التوجه ولكنها في الحقيقة مرتبطة. ويقال في الصحفيين هؤلاء إنهم مرتبطون كغيرهم. مختلفون في توجهاتهم. وبعضهم يتبع في سياسته السياسةَ الأمريكية، وبعضهم السياسةَ البريطانية، وبعضهم السياسةَ الفرنسية وهكذا. وعلى سبيل المثال فإن الإعلام في الدول العربية بدا هزيلاً وتابعاً للإعلام الغربي في حرب الخليج الثانية. فقد نظمت أميركا الإعلام بشكل منع تسرّبَ أي أخبار عن الحرب إلا من خلال وسائل إعلامها، وقامت بفظائع وإجرام قلّ أن يشهده العالم. وأخفت كل ذلك وأظهرت نفسها بمظهر الحامي للحق، المدافع عن السلام، فأعلنت أنها جاءت لتنقذ الكويت، تلك الدولة الصغيرة الوادعة، من براثن العراق المعتدي، وأخفت أهدافها التي لم تعد خافية حتى على الأعمى، والتي تتمثل في الاستيلاء على نفط المنطقة واحتلال أراضي الخليج مؤقتاً ريثما تُحوِّل عمالات الأنظمة كاملة لمصلحتها، ولتفرض حلها لقضية فلسطين، ولتوجد لها قواعد عسكرية تكون ضامنة لها من أي تغيير (أصولي) قد يحدث في المنطقة.

إن وسائل الإعلام كثيرة ولكنها متفاوتة في أهميتها وتأثيرها، وقد بقيت الصحافة تحافظ على أهميتها، ثم أضيف إليها وسيلتا الراديو والتلفزيون ناهيك عن السينما لتنافسها في الأهمية. وقد استطاع الغرب، وخاصة بواسطة التلفزيون، الدخولَ إلى دخائل النفوس والتدخلَ في دقائق الأمور والتأثيرَ على حياة الناس العامة والخاصة. لقد تدخلت وسائل الإعلام هذه في تشكيل الآراء السياسية والأذواق والميول وحتى في اختيار الرجل لزوجته وفي علاقته معها، ونقلوا إلى بيوت المسلمين، بشكل مباشر وغير مباشر، الحفلاتِ الصاخبةَ، والسهرات المتهتكة والتسليات التافهة، وقدَّموا التمثيليات الهادفة إلى إسقاط القيم في حياة المشاهدين واستقدموا لهم البرامج الأجنبية الخالية من كل شرف….

وبالخلاصـة إن سلاح الإعلام سلاح مميت، يميت النفـوس والعقول ويحول المسلمين إلى أعداء لأنفسهم وأمتهم، ويكوّن للغرب رأياً عاماً في بلادنا، وينزع منا شخصيتنا ويجعلنا تابعين له موافقين على كل أفعاله وسياساته وتوجهاته الفكرية…

إن الغرب الذي يتصرف بذكاء في استعماره للدول يلعب لعبته الوسخة في استحماره للشعوب وجعلها مطية لمآربه. وقد تطورت خبرته في هذا المجال وصار سهلاً عليه أن يقلب الحقائق ويزوّر تاريخنا ويزرع مفاهيمه… وعلى المسلمين أن يعوا ويصحوا، خاصة وأنهم الآن في بداية الصحوة الإسلامية، على كل ما يخطط ضدهم في الخفاء. ولا يكون ذلك إلا بالعودة إلى الإسلام عودة مخلصة واعية، نرى من خلالها الأمور على حقيقتها.

هذا هو الغرب الرجيم الذي لا يزال يغرز حربته السامة في عقول الأمة ونفوسها، وهذا مظهر من مظاهر غزوه الفكري المستمر على الأمة. ولئن كان من شأن السلاح المادي إحداث النصر للغرب على المسلمين، فإن الغزو الفكري المتعدد الأوجه، والذي يرعاه الغرب حق رعايتـه، يسـاعد في إلحاق الهزيمة بالمسـلمـيـن ويمكن للغرب ويثبّت أقدامه. والأمة يجب أن تعي معنا على هذا الواقع وتعمل على قلع تأثير الغرب من عقلها وقلبها ليسهل بعد ذلك قلعه من أرضها.

العلمانية:

«العلمانية» هي لفظة مضللة توحي بأن لها علاقة بالعلم، ولكنها تعني في لغاتها الأصلية بأنها: «اللادينية». فهي مضادة للدين تقوم على نبذه وإقصائه عن الحياة العملية وأنظمة الحياة، فقد تركت العلمانية للناس حرية التدين على أن يبقى الدين علاقة شخصية فردية. أي هي فصل الدين عن الدولة وعن الحياة.

لقد نشأت العلمانية في أوروبا. ومرد نشأتها يعود إلى تدخل رجال الدين في حياة الناس وفي أنظمة الحياة بصورة بشعة أدت إلى نفور هؤلاء الناس من الدين ووقوفهم إلى جانب المفكرين والفلاسفة والعلماء في صراعهم مع رجال الدين. لقد وجد هؤلاء المفكرون أن رجال الدين يتدخلون في كل شاردة وواردة، وأنهم يستغلون الجميع ليس لمصلحة الدين وإنما لمصالحهم البشرية الخاصة، وأنهم لا يختلفون عن غيرهم بشيء سوى أنهم يتخذون من الدين ستاراً، وهذا ما جعلهم يرفضونهم وينبذونهم.

لقد طال نفوذ رجال الدين مجالات الحياة المختلفة، ووصل إلى درجة أن الملوك كانوا لا يثبتون على عروشهم إلا بمباركة البابا لهم، ولا يأخذون شرعيتهم على رعيتهم إلا متى شرعها لهم البابا. وقد وقعت حوادث كثيرة بين البابوات وبعض ملوك أوروبا اضطر بعدها هؤلاء الملوك إلى التوبة وطلب العفو بشكل مهين وبصورة مزرية ليرضى عنهم البابا. لأن البابا كان إذا نبذ أي ملك نبذه شعبه بالتبع. وإذا كان البابا راضياً عن الملك فإنه يكون ستاراً له عن كل مظالمه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. كذلك فقد نقل التاريخ لنا الكثير عن حياة البذخ والترف التي عاشها البابوات. ولم يكن أحد يجرؤ على مخالفة البابا لأنه كان بنظر الجميع ممثل اللـه على الأرض.

أما بالنسبة للناس فقد كان رجال الدين يسيطرون بقوة على العقول والنفوس. فالناس كانوا لا يصبحون مسيحيين إلا بتعميد الكاهن لهم، وليست لهم صلاة إلا بحضور الكاهن، ولا توبة إلا بواسطة الكاهن، ولا يموتون مسيحيين إلا بعد إقامة الكاهن قداساً لهم، ولا يجوز أن يفكروا في دينهم لأن الكاهن يفكر عنهم، ولا يحق لهم أن يتعلموا أي علم إلا بعد أن يأذن رجال الدين لهم بذلك. فقد كان لهم سلطان كبير على عواطف الناس وأموالهم وعقولهم. وكم أذلوا الناس تحت ستار الأوامر الإلهية.

أما بالنسبة للعلماء فقد وقف رجال الدين موقفاً معادياً من العلم وأهله. وتدخلوا في منع أبحاثه. وعلى سبيل المثال فقد أمروا بإحراق «كوبر نيكوس» واتهموه بالهرطقة لأنه قال بأن الأرض ليست هي مركز الكون كما كان يقول رجال الدين، بل هي كروية تدور حول مركزها الشمس. وكان حكمهم هذا لأن قوله هذا يخالف تعاليمهم المسيحية.

هذه الممارسات الشاذة لرجال الدين، بالإضافة إلى فرض العشور على الناس، والسخرة المجانية في أملاك الكنيسة، واختراع صكوك الغفران، وممارسة الفساد الخلقي بكل أنواعه، وتأييد الكنيسة ومناصرتها لكل المظالم السياسية والاقتصادية والاجتماعية الواقعة على الشعوب من حكامها… كل ذلك دفع المفكرين والفلاسفة من الأوروبيين لأن يقفوا في وجه الكنيسة والحكام. فنفى بعضهم وجود الدين مطلقاً واعتبره بدعة برجوازية ورضيه آخرون على أن يحصر في مجال ضيق من غير أن يحق له التدخل في شؤون الحياة. واتخذوا شعاراً لهم: «دع ما للـه للـه وما لقيصر لقيصر» وهو قول مأخوذ من الإنجيل كدلالة على عدم رفض الدين كلياً بل حصره. وكان العنوان الأساسي الذي صدّرته العلمانية والفكر الأساسي الذي قامت عليه هو: «فصل الدين عن الحياة» وبالتالي «فصل الدين عن الدولة».

وسرعان ما استجاب الناس في أوروبا لهذه الدعوة للتخلص من رجال الدين. فانسلخوا من الدين، كرد فعل، إلى العلمانية. وهكذا نشأت العلمانية كنقيض للدين وخصم مبين له. وصار عندها أن الإنسان هو الذي يشرع لا الملك، وأن الأكثرية هي صاحبة القرار لا الإله. لقد اعتبر العلمانيون أن الإنسان إنما يخضع للدين بسبب الجهل والعجز، ولكن بعد انطلاق طريق العلم وانفتاحها شعر الإنسان بالقوة وأنه يستطيع الاستغناء عن الإله، فأخذ دوره في التشريع والسيطرة. فالدين هو الأغلال التي كانت تغل الفكر عن الانطلاق، والعلمانية هي التي فكّته من أساره. من هنا جاء ربط اللادينية بالعلم وإطلاق القول على فكرة «فصل الدين عن الحياة» بأنها العلمانية. وفي هذا الربط اعتبار واضح لمعاداة العلم للدين.

وقد أراد الغرب أن يفرض علمانيته على بلادنا وأمتنا معتمداً على القياس الشمولي. فكما اعتبر أن علمانيته كانت بديلاً صالحاً من الدين النصراني، فهي كذلك بالنسبة للإسلام. وما على المسلمين، إذا أرادوا النهوض إلاّ أن يلقوا الدين جانباً ويبعدوا تأثيره عن حياتهم. وهذا القياس الشمولي غير صحيح لاختلاف الإسـلام عن النصرانية من وجوه أبرزها:

إن الدين الإسلامي هو دين ينظم علاقة الإنسان بربه بأحكام العقيدة والعبادات، وعلاقته بنفسه بأحكام المطعومات والملبوسات والأخلاق، وعلاقته بغيره بأحكام المعاملات والعقوبات. وهو مبدأ يقوم على عقيدة ينبثق عنها نظام، ينظم شؤون الناس في المجتمع. فوجود الدولة والتشريع والحكم من أهم خصائصه. فلا يتصور وجد إسلام فعّال في الحياة من غير وجود دولة إسلامية، ولا يطبَّقُ الإسـلام إلا من خلال دولة إسلامية، ولا يُنْشَرُ الإسـلام بالوعظ والإرشاد فقط، بل لا بد من دولة إسلامية تطبقه وتحسن تطبيقه، ويكون تطبيقه دعوة لغير المسلمين، الذين يعيشون مع المسلمين، للدخول في الإسلام. وما هو موجود في الإسـلام غير موجود في النصرانية، فلا يوجد فيها أنظمة للحياة من سياسية واقتصادية واجتماعية وحكم وعقوبات وعلاقات دولية، بل هي عبارة عن مواعظ وإرشادات ووصايا لا تتعدى شؤون الفرد نفسه. وعلى هذا يصح القول بأن العلمانية لا تتناقض مع الدين النصراني لأنه خـال من أنظـمـة الحـيـاة. بيـنـما هي تتناقض تناقضاً كلياً مع الإسلام، لأن الإسلام فيه أنظمة للحياة.

  • إن الدين الإسلامي قد فتح الباب واسعاً أمام المسلمين ليتعلموا. فقد قال اللـه تعالى في كتابه العزيز: (يَرْفَعِ اللـه الذين ءامنوا منكم والذين أوتوا العِلْمَ درجات) وقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «طلبُ العِلْمِ فريضة على كل مسلم، وإنّ طالبَ العلمِ يستغفر له كلُّ شيء، حتى الحيتانُ في البحر». ولسنا هنا في صدد الإكثار من الأدلة على طلب العلم وتفضيل العلماء والحث على التعلم. فالأمر مقرر في الإسلام، وهو واضح لا يخفى إلا على من عميت بصيرته. وكان المسلمون في عهودهم الأولى قد تعلموا ووصلوا بعلومهم إلى درجات عليا، ولا يزال علماؤهم يذْكرهم الغرب حتى اليوم، حتى إنه يمكن اعتبار علوم الغرب امتداداً لعلوم من سبقهم من المسلمين. والعلم المطلوب في الإسلام هو ما كان متعلقاً بالدين من فقه وأصول وتفسير…الخ وما كان متعلقاً بالدنيا من طب وفلك وبصريات وزراعة وصناعة…الخ فليس في الدين الإسلامي ما يمنع من البحث عن العـلـم وأخـذه. ولذلك فموقـف الإسلام من العلم غَيْرُ موقف رجال الدين النصارى من العلم.

ولكن ما يجب التنبه إليه في هذا المقام أن الغرب اليوم يحمل أمرين:

– مفاهيمَه عن الحياة وهي ما يُعَبَّر عنها بالحضارة.

– تقدُّمَهُ العلميَّ وما أفرزه من أشكال مدنية مختلفة في الصناعة والسلاح والعمران وغيره. وهو ما يُعَبَّرُ عنه بالمدنية.

وقد لعب الغرب على المسلمين لعبة التلبيس ليتبعوه اتّباع الأعمى للبصير، فصوّر لهم أن تقدمه العلمي وتفوقه المادي، وبلوغه هذا المستوى من النهضة والرقي الفكري كان بسبب طرح الدين جانباً. وما على المسلمين إلا أن يحذوا حذوه ويقتفوا أثره إذا أرادوا بلوغ ما بلغ. والحقيقة أن التقدم العلمي والتكنولوجي منفصل كلياً عن الرقي الفكري. فاليابان مثلاً تشهد تقدماً علمياً وتطوراً تكنولوجياً هائلاً، بينما تحمل فكراً عن الحياة منخفضاً. والاتحاد السوفياتي كان يملك قوة صناعية وعسكرية هائلة على الرغم من أن فكره كان يناقض الرأسمالية تماماً. والدولة الإسلامية في عصرها الغابر كانت في مقدمة الدول علمياً وصناعياً وعمرانياً، وكانت قائمة على الإسلام. فهذا الربط ربط خَدَّاع. فالرقي الفكري يتعلق بالأساس الفكري ووجهة النظر والمفاهيم عن الحياة، وهو غير مرتبط أبداً بالتقدم المادي إلا من زاوية واحدة فقط وهي أن يكون الفكر عند قوم يمنع من العلم ويحرّمه. وهذا ما وجد في الغرب تحديداً. وليس كل فكر يمنع العلم. فالإسـلام لا يمنع من العلم بل يحض عليه، ويعتبره قربة يتقرب به السلم إلى اللـه إذا جعل أساس بحثه وعلمه الإيمان باللـه واستعمل علمه في خير الإسـلام والمسلمين.

لذلك كان الإسـلام شاملاً لأنظمة الحياة، ويحض على العلم ليمتلك به القوة المادية، على اختلافها، التي تخدم هذا الدين. من هنا لم تصلح العلمانية أن تكون بديلاً من الإسـلام.

ومن الغريب أن يحمل بعض المسلمين فكرة العلمانية التي تعني إقصاء الإسـلام عن الحياة في التشريع والاقتصاد والاجتماع والسياسة والحكم والتعليم والأخلاق والآداب وفي كل شأن من شؤون حياتنا. فإن من يحمل هذه الفكرة من المسلمين يصبح خائناً للـه ولرسوله وللمؤمنين، ويحقق للغرب سيطرة كفره على المسلمين. ذلك أن الغرب الذي يريد لنا أن نجعل من ديننا علاقة فردية، ويريد أن يفرغ الأمة من حيوية عقيدتها، ويحولها إلى عقيدة روحية ليس لها أي أثر في الواقع حتى نكون أتباعاً لفكره، نقيس بمقاييسه، ونعيش على نمط حياته، وتحل تشريعاته محل تشريعات الإسـلام.

إن فكرة العلمانية هي من أهم ما يريد الغرب غرسه في بلادنا. وإنّا لنأسف أشد الأسف حين نرى أن لواء هذه الدعوة لا يحمله أناس تربوا في أحضان الغرب فحسب، ونهلوا من معينه بل إننا نرى أن هناك ممن يُسَمّوْن بعلماء مسلمين وحركات إسلامية يدافعون عن العلمانية أو يدْعون لها، حين يذهبون إلى القول بأن العلمانية والإسلام يلتقيان. أو إلى القول بإلغاء الطائفية السياسية (في لبنان مثلاً)، حتى لقد وصل الأمر عند بعضهم (محمد مهدي شمس الدين) إلى القول بإلغاء الطائفية في الأحوال الشخصية، وهي ما تبقّى للمسلمين من دينهم في التطبيق. وحتى دَعَوْا إلى جواز المشاركة في الحكم في الأنظمة التي تقوم على أساس العلمانية. والمدقق فيها يرى أنها شكل من أشكال الدعوة إلى فصل الدين الإسلامي عن الحياة. وهذا (الترابي) فإنه يدعو صراحة إلى أخذ ما عند الغرب من أنظمة وكذلك (الغنوشي) وأمثالهما من الذين تسير فتاويهم في ركاب الغرب، ولا تتعلق أدنى تعلق بالإسلام.

وختام القول: إن العلمانية والإسلام لا يلتقيان. فالعلمانية تقوم على الإيمان بالعلم كإلهٍ والهوى كسلطان، والإسلام يقوم على الإيمان باللـه والالتزام بشرعه.

لقد استطاع الغرب أن يضيّق رقعة الإسلام في النفوس، وأن يفرض على المسلمين العيش ضمنها. وأن يبقي الأمور بحسب ترتيبه. وإنه ليهتز خوفاً وغضباً عندما يرى أية إشارة من المسلمين تشير إلى أنهم يفكرون بالعودة إلى نظام دينهم. ويصف من يدعو إلى ذلك منهم بأنهم أصوليون، متشددون، إرهابيون، رجعيون، ظلاميون، همجيون… إلى غير ذلك من النعوت التي يزخر بها قاموسه. كل ذلك من أجل التنفير منهم. وما يحدث اليوم في الجزائر من مجازر فإنها تُلْصَقُ زوراً وبهتاناً (بالإسلاميين). ويقف وراءها الاستخبارات الفرنسية وتسكت عنها الاستخبارات الأميركية وتحميها الدولة، وذلك كله للتنفير من الحركات الإسلامية التي تريد الحكم بالإسلام.

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *