العدد 267 -

العدد 267- السنة الثالثة والعشرون، ربيع الثاني 1430هـ، الموافق نيسان 2009م

الاعتدال الإسلامي على الطريقة الغربية: الرضا بأنصاف الحلول حرام شرعاً

الاعتدال الإسلامي على الطريقة الغربية:

الرضا بأنصاف الحلول حرام شرعاً

 

إن فكرة الرضا بأنصاف الحلول منشؤها المبدأ الرأسمالي الذي هو في حقيقته قائم عليها وهو أسها. إذ هي الحل الوسط، ذلك أن هذه الفكرة ولدت في أذهان الغربيين نتيجة صراع دامٍ نشأ بين رجال الدين والمفكرين، وكان سبب هذا الصراع هو تسلط رجال الدين والقياصرة على الناس وظلمهم باسم الدين، فقامت على إثر ذلك دعوات تنادي بفكرة ماركس بأن لا دين يحكم حياة الناس وينظمها وأن لا خالق لهذا الكون؛ مما جعل الصراع يشتد؛ فوجد نتيجة لذلك مفكرين آخرين نادوا بفكرة جديدة ترضي الطرفين وتوقف الصراع والنـزاع بين الفئتين، وكانت هذه الفكرة هي فكرة الحل الوسط التي قضت بإبعاد تحكيم الدين عن الحياة، وبالتالي تنحية رجال الدين والقياصرة عن حكم الناس، وأن على الناس أن يختاروا نظم حياتهم من أنفسهم.

وبهذا فإن فكرة الرضا بأنصاف الحلول فكرة غربية من المبدأ الرأسمالي، أي هي غريبة عن المسلمين وعن مبدأ الإسلام بل هي تناقضه، إذ إن الإسلام يقضي بتحكيم شرع الله وحده. فالمسلم المبدئي الذي تدبّر حقيقة الوجود واقتنع عقله وآمن قلبه بمبدأ الإسلام لا يرضى أن يتنازل عن أي شيء جاء به المبدأ، مهما دق أو جل على حد السواء، كما أنه لا يرضى أن يأخذ أي شيء من مبادئ أو أفكار أخرى حتى وإن وافقت ما في مبدئه؛ لأنه يدرك تمام الإدارك أن هذا يتنافى مع كونه مبدئياً علاوةً على أن مبدأه يفرض عليه فرضاً لا تخيير فيه أن يلتزم المبدأ ولا يحيد عنه قيد أنملة.

فالإسلام يفرض على معتنقيه أن يطبقوه كاملاً ودفعة واحدة ودون أي إنقاص أو مساومة على أي حكم من أحكامه أو فكرة من أفكاره؛ ذلك لكونه من عند الله المتفرد بالتشريع لتنظيم حياة الناس؛ لكونه سبحانه اتصف بالكمال والعلم والإحاطة بكل ما من شأنه أن يصلح أحوال العباد والخلق أجمعين؛ لذا فالإنسان صاحب العقل النـزيه يدرك ذلك من خلال إداركه واقع البشر الذين لا يستطيعون أن ينظموا شؤون حياتهم ويشرعوا لها بمعزل عن الخالق القدير؛ لما اتصفوا به من صفات تجعل من تشريعهم وحلولهم للمشاكل عرضة للتفاوت والاختلاف والتناقض؛ مما يسبب الظلم وبالتالي شقاء البشرية، وعليه فإن شرع الله وحده هو الحق وما عداه باطل وضلال وشقاء، فالله سبحانه يقول: (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ) [يونس 32] لذا فالمسلمون مطالبون بالعمل بجميع أحكام المبدأ سواء أكانت تتعلق بالعقائد أم بالعبادات أم بالأخلاق أم بالمعاملات أم بالحكم والاقتصاد أم بالاجتماع أم بالسياسة الخارجية أم بغير ذلك، فلا فرق في الأحكام الشرعية بين حكم وحكم أو بين واجب وواجب أو بين حرام وحرام، فكما يجب أن نؤدي الصلاة والصيام والحج، كذلك يجب أن نعمل لإقامة الخلافة ونبايع خليفة يطبق شرع الله ويزيل أحكام الكفر والطاغوت. وكما يحرم علينا شرب الخمر وأكل الربا والخنـزير، كذلك يحرم علينا السكوت على الحكام الكفرة أو الظلمة، كما يحرم علينا موالاة الكفار والرضا بحلولهم التي تفضي إلى التنازل عن بعض أفكار ديننا أو شيئاً من بلاد المسلمين. فالله سبحانه أمرنا بأخذ جميع شرعه والانتهاء عن جميع ما نهانا عنه كما قال جل قدره (وَمَا ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر 7].

وعليه فالإسلام شدد على أنه يتوجب على المسلم الثبات على الحكم الشرعي والإصرار عليه دون التنازل عن أي شيء من ذلك، فالرضا بالحل الوسط فكرة ليست من الإسلام بل هي جاءت لتزعزع ثقة المسلمين بالأحكام الشرعية، فهي غريبة عن حياة المسلمين، ولم يثبت أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الصحابة (رضوان الله عليهم) أو المتنفذين في تاريخ دولة الإسلام الطويلة قد رضوا بها يوماً ما من أجل حل أي قضية مهما كانت الظروف والمحن. فهذا نبي الله سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، جاءه قومه يوماً يعرضون عليه أن يعبدوا إلهه وأن يعبد هو آلهتهم، وأن يشتركوا هم والنبي في سائر الأمور كحل مرضٍ للطرفين ينهي حالة الصراع بين المسلمين من قريش وبين أقاربهم من كفرة قريش، لكنه صلوات الله وسلامه عليه رفض هذا العرض بالرغم من شدة الأذى التي أعقبت هذا الرفض، وأجابهم بقول الحق سبحانه (قُلْ يَاأَيُّهَا الْكَافِرُونَ، لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ، وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ، لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) [الكافرون] وهكذا كان موقفه أيضاً يوم عرض عليه وفد ثقيف دخول قبيلتهم في الإسلام، وهي من هي من حيث القوة والمنعة والكثرة، على شرط أن يدع لهم صنمهم اللات ثلاث سنين وأن يعفيهم من الصلاة، إلا أنه صلوات الله وسلامه عليه، وكما هو دأبه، لا يقبل بأنصاف الحلول، فأبى كل الإباء وأصر على أن يدخلوا في الإسلام دون أي شرط ينقص شيئاً من الإسلام، وأرسل أبو سفيان والمغيرة بن شعبة ليهدما صنم ثقيف ففعلا.

وعلى نفس خطى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان موقف الصحابة الكرام عقب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندما ارتدت معظم قبائل العرب ردة كاملة أو جزئية، فهم، رضوان الله عليهم، لم يقبلوا من هذه القبائل إلا الإسلام كاملاً، ومن أبى قوتل حتى يعود إلى رشده، بالرغم من الظروف العصيبة التي واكبت هذه الأحداث، إلا أن ذلك لم يثنِ أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اتخاذ الموقف الشرعي تجاه هذه المواقف. فكان هذا هو دأب الرسول والصحابة في حل أي قضية تواجههم أن يعالجوها وفق الإسلام الذي يقضي بأن الحق أحق أن يُتبع، والباطل باطل يجتنب ويهدم، وأن لا تقارب ولا تلاقي بينهما بحجة حلول المشاكل والقضايا ودرء الفتن، ففكرة أنصاف الحلول فكرة غربية عن الإسلام والمسلمين، وهي فكرة باطلة لأن فيها تضييعاً للحقوق وتمييعاً للقضايا وتزييفاً للحقائق؛ لذلك لم يقبل بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ولا الصحابة ولا حتى خلفاء المسلمين من بعدهم؛ لأنها ليست من الإسلام بل هي تناقضه، بل وحتى إنها تناقض المنطق السليم.

وعليه فإنه لا يجوز للمسلمين مهما كانت الظروف أن يحلوا قضاياهم وفق حلول ما أنزل الله بها من سلطان، من قبيل أنصاف الحلول كما هو حال الكثيرين من المتنفذين في بلاد المسلمين في الوقت الراهن، فإن في قبولهم والرضا والتسليم بما يفرضه الكفار من حلول هي من المبدأ الرأسمالي مثل فكرة الحل الوسط تمييعاً وتضييعاً لقضايا الأمة وحقوقها، كما هو حاصل الآن لقضايا المسلمين من مثل قضية عيش المسلمين في دولة واحدة يطبق فيها شرع الله، أو من مثل قضية فلسطين والعراق أو كشمير أو دارفور أو غيرها من قضايا الأمة الكثيرة التي تم تمييعها وتضييعها يوم رضي حكام المسلمين وزبانيتهم بفكرة أنصاف الحلول، حيث وضعوا قضايا الأمة ومقدراتها في يد أميركا ودول الكفر الكبرى؛ ليعبثوا في بلاد المسلمين وقضاياهم من خلال هيئات دولية باطلة لا ينتج عنها إلا الباطل، كالأمم المتحدة التي ضيعت فلسطين وأقامت على أنقاضها دولة يهود، إذ كانت الحلول المطروحة في بداية وجود كيان يهود أن تقسم فلسطين بين أهلها المسلمين وبين غاصبيها اليهود، وأن تكون الحصة الكبرى للمسلمين، ثم دارت السنين وأخذت هذه القسمة المجحفة تنقص من أرض فلسطين شيئاً فشيئاً حتى إذا جاءت منظمة التحرير وارتضت حل القضية وفق أنصاف الحلول باتت القسمة المعروضة لا تتجاوز العشرة بالمئة من فلسطين، فكان لهذا التنازل والخنوع والرضا بأنصاف الحلول أن تكبد أهل فلسطين خسارة بلادهم ناهيك عن الإذلال والمعاناة بشتى صنوفها؛ نتيجة لهذه المواقف المتخاذلة والمساومة على حقوق المسلمين علماً أن كل هذا التنازل لا قيمة شرعية له.

إن الرضا بأنصاف الحلول هو جريمة كبرى بحق الإسلام والمسلمين، إذ إن الرضا بهذه الفكرة يقضي التنازل عن أحكام وأفكار الإسلام التي هي سر سعادة المسلمين، وهذا التنازل نتج عنه هذا العيش الذليل الذي تعيشه الأمة التي مزقها الكافر المستعمر شر ممزق، ونصب عليها حكاماً عملاء سخروا لهذا الكافر كافة مقدرات الأمة وتآمروا معه عليها. فالأمة ليس لها أن ترضى هذا العيش، بل ينبغي عليها أن تعمل لتغييره من خلال طريقة الإسلام في التغيير، لا التغيير المرحلي التدريجي الذي يتذرع دعاته بضرورة مراعاة المستجدات على الساحة الدولية، متذرعين بالتسلط الأميركي وبذرائع ما أنزل الله بها من سلطان، من مثل استحالة عيش المسلمين في دولة واحدة تطبق الإسلام كاملاً وتحمله إلى كافة أرجاء العالم بالدعوة والجهاد، إن مثل هذه الدعوات المشبوهة قد زادت من أعباء الأمة وكانت حجر عثرة في طريق خلاصها من ربقة الكافر المستعمر، ثم هم بفعالهم هذه قد خالفوا طريقة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في حل قضايا الأمة وعلاجها وفق أحكام الإسلام وحده، وهم بذلك أيضاً قد تنازلوا عن ضرورة تحكيم شرع الله وحده في كل قضية دونما إشراك لأية فكرة ليست من الإسلام كفكرة أنصاف الحلول التي هي في نظر الإسلام جريمة كبرى توعد الله سبحانه أصحابها بالعذاب الأليم. فالله سبحانه يقول: (أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ) [المائدة 50] وكذلك قوله سبحانه: (وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [آل عمران 85] وكذلك قول الحق سبحانه وتعالى: (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [النساء 65] وقوله أيضاً: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) [المائدة 49] وعليه فإن الرضا بحل قضايا المسلمين وفق الحلول النصفية، وكذلك ما يسمى بحوار الأديان والحضارات من أجل إيجاد قواسم مشتركة بين الأديان والحضارات، أو ما يسمى بالحوار الوطني من أجل أن ينشأ عنه فرية الوحدة الوطنية حيث يختلط الحق بالباطل فلا يكون حقاً، فكل ذلك حرمه الإسلام وهو ليس منه في شيء، فمن يبغي معالجة قضاياه، فهذا دين الإسلام قد جعل الله فيه البلسم الشافي لكل قضية مثل قضية عيش المسلمين في دولة واحدة تقيم شرع الله في الأرض، وتعالج كافة قضايا الأمة سواء كانت قضايا تتعلق بتحرير البلاد والعباد، أو قضايا اجتماعية أو اقتصادية أو أي قضية من قضايا الأمة. إن المعضلات التي يعاني منها المسلمون ما كانت لتوجد لو كان للمسلمين دولة راشدة تتخذ الإسلام نظاماً لحياتهم.

إن الله حبا الأمة الإسلامية مؤهلات عظيمة تجعلها الأحق في قيادة العالم، والمنقذة له من براثن الاستعمار الغربي، وهذه هي الحقيقة التي يجب على كل مسلم أن يسير في سبيل تحقيقها وفق طريقة الإسلام في التغيير، وهي ليست خيالية أو مستحيلة التحقيق؛ لأن الله سبحانه لا يكلفنا بما هو فوق طاقتنا؛ لذلك فلا عذر لمن يتذرع بجواز عدم جمع المسلمين في دولة واحدة بحجة الخوف من طغيان أميركا والدول الكبرى، أو بحجة اختلاف الأمة في اللغة والعرق. فالمسلمون الذين وقفوا عبر تاريخهم المجيد في وجه الكفار قادرون على الوقوف مرة أخرى في وجه طواغيت العصر بل والانتصار عليهم؛ لأن الأمة الإسلامية تمتلك من الطاقات المادية والروحية ما يؤهلها لذلك، والإسلام الذي صهر هذه الأمة في بوتقة واحدة حتى جعلها أمة واحدة قادر على جمعها مرة أخرى من خلال دولة الخلافة الراشدة، وإن اختلفت لغاتها وأعراقها.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *