العدد 268 -

العدد 268- السنة الثالثة والعشرون، جمادى الأولى 1430هـ، الموافق أيار 2009م

الإخلاص: رأس كل عمل

الإخلاص: رأس كل عمل

 

بقلم: أبو أسامه

الإخلاص لغة تصفية الشيء وتنقيته، يقال خلص الشيء من الشوائب إذا صفا، وأخلص الشيء نقاه، وخالص فلان صافاه، أخلص لله: ترك الرياء، أنظر معجم مقاييس اللغة، لابن فارس والقاموس المحيط. أما شرعاً فالإخلاص هو إفراد الله في الأعمال كلها، صغيرها وكبيرها، من دون تصنع لمخلوق أو تسميع أو مَنّ أو اكتساب مدح أو ثناء من أي إنسان, أي لا بد أن تكون كل الأعمال خالصة لله وحده لا تشوبها أي شائبة أو تعكير, فالله سبحانه وتعالى يقول: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) [البينة 5]. وقال عز وجل: (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ) [الزمر 11]. فالإخلاص رأس أعمال القلوب التي هي أجل أعمال العبد وأعظمها قدراً، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «… إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصاً وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» (أخرجه النسائي). وهذا ما كان عليه الأنبياء والمرسلون، قال تعالى: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا) [مريم 51]. وقال عن يوسف عليه السلام: (كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ) [يوسف 24]. في الآية الأولى قُرئ في السبع قراءات بكسر اللام (مُخْلَصًا) وفتحها والمعني على قراءة الكسر أن موسى عليه السلام أخلص العبادة لله تعالى من غير مراءاة للعبادة، والمعنى على قراءة الفتح أنه تعالى اصطفاه وجعله مختاراً. والآية الثانية قرئت في السبعة بفتح اللام (المخلَصين) وتأويلها: إن يوسف من عبادنا الذين أخلصناهم لأنفسنا واخترناهم لنبوتنا وقرئ بكسر اللام وتأويلها (إن يوسف من عبادنا الذين أخلصوا توحيدنا وعبادتنا فلم يشركوا بنا شيئاً ولم يعبدو أحداً غيرنا) (الطبري في جامع البيان) وقال تعالى عن سيدنا محمد (صلى الله عليه وآله وسلم): (قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ) [البقرة 139]. مما يدل أن الإخلاص كان أبرز سماتهم وأخص صفاتهم عليهم السلام أجمعين. لقد رتب الله الثواب العظيم لكل عامل للإسلام حامل للدعوة مخلص، ولكل عالم مخلص، ولكل عابد مخلص، ورتب الإثم والعقاب على المرائين والمشركين في أعمالهم الذين يبغون الصيت والسمعة والجاه، أو أن يشار إليهم بالبنان والإعجاب بالنفس، كل هذه صفات لغير المخلصين. فهذه صفات تأتي على الأعمال فتهلكها وتضيعها، وتأتي على الثواب فتمحقه، وعلى مكانة العبد عند ربه فتبدله من محبة إلى سخط وعذاب؛ لذلك جاء الوعيد الشديد لمن تخلى عن الإخلاص قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا) [النساء 48]. وكذلك الأعمال التي لا تكون خالصة لله يمحقها الله لقوله تعالى: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) [الفرقان 23]. هذا حال الأعمال التي على غير شرع الله وأريد بها غير وجه الله، فكل عمل لا يكون خالصاً لله وليس على دين الله فهو باطل زاهق، فالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَنَا أَغْنَى الشُّرَكَاءٍ عَنْ الشِّرْكِ، مَنْ عَمِلَ عَمَلاً أَشْرَكَ فِيهِ مَعِي غَيْرِي تَرَكْتُهُ وَشِرْكَهُ» (أخرجه مسلم). وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ تَعَلَّمَ عِلْماً مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لا يَتَعَلَّمُهُ إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَعْنِي رِيحَهَا» (أخرجه أبو داود) وقال (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ طَلَبَ الْعِلْمَ لِيُجَارِيَ بِهِ الْعُلَمَاءَ أَوْ لِيُمَارِيَ بِهِ السُّفَهَاءَ أَوْ يَصْرِفَ بِهِ وُجُوهَ النَّاسِ إِلَيْهِ أَدْخَلَهُ اللَّهُ النَّارَ» (أخرجه الترمذي). ولذا فالإخلاص مطلوب في جميع الأعمال الظاهرة والباطنة، ولا يكفي أن يتوجه إلى الله بعمل دون عمل أو بقربة دون قربة أو معاملة دون معاملة بل في الأعمال كلها.

والإخلاص يجب على المسلم أن يعوِّد نفسه عليه في كل عمل، ويراقب نفسه إن زاغت أو حاولت الخروج عن ذلك. ومجاهدة النفس أمر صعب وشاق ولكن لا عمل متقبلاً ولا سبيل لرضا الله إلا به. فالنفس تهوى وتحب أن يقال عنها وأن يسمع الناس بها، فبالرياء والسمعة والتسميع تحقق الشهوة، وهذا فطري في كل إنسان، ولكن الشرع الحنيف عالجها ولم يكبتها بأن رتب ثواباً على من يجعل كل أعماله خالصة لله وعقاباً على من خالف ذلك، وكذلك أخبرنا بأن من يعمل العمل حباً وإخلاصاً لله تعالى دون النظر إلى الناس وحبهم أحبه الله وحبب الخلق فيه، عن أبي هريرة (رضي الله عنه) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاناً فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلاَناً فَأَحِبُّوهُ، فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأَرْضِ» (صحيح البخاري).

وقد جعل الله الإخلاص شرطاً لصحة العمل وقبوله لقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «… إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبَلُ مِنْ الْعَمَلِ إِلاَّ مَا كَانَ لَهُ خَالِصاً وَابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُهُ» (أخرجه النسائي). وقوله عليه الصلاة والسلام: «إِذَا جَمَعَ اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ، نَادَى مُنَادٍ: مَنْ كَانَ أَشْرَكَ فِي عَمَلٍ عَمِلَهُ لِلَّهِ فَلْيَطْلُبْ ثَوَابَهُ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ، فَإِنَّ اللَّهَ أَغْنَى الشُّرَكَاءِ عَنْ الشِّرْكِ» (أخرجه ابن ماجه). نعم إن الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلوب من الإيمان والإخلاص، وإن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحداً وبين صلاتهما ما بين السماء والأرض، وكلنا يعلم حادثة ابني آدم إذ قرّبا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر وفي آخر الحادث الجواب في قول الله (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ ءَادَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) [المائدة 27]. وهذا يبين سر تفاوت منـزلة الناس، قال ابن القيم (واعتبر هذا بحال الصّديق، فإنه أفضل الأمة، ومعلوم أن فيهم من هو أكثر عملاً وحجاً وصوماً وصلاة وقراءة منه، قال أبو بكر بن عيا ش: “ما سبقكم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة، ولكن بشيء وقر في قلبه”. فبالإخلاص تبلغ الدرجات العلا، وبعدمه تفقد الأعمال قيمتها مهما كانت عظيمة وفي أعين الناس كبيرة، فكم من مسلم ضحى بروحه أو ماله وقام بأعمال عظيمة من علم وغيره وكانت غايته دنيا يصيبها أو سمعة أو جاهاً، فكانت هجرته إلى ما هاجر إليه وكان عمله غير متقبل؛ لقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ أَوَّلَ النَّاسِ يُقْضَى يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَيْهِ رَجُلٌ اسْتُشْهِدَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: قَاتَلْتُ فِيكَ حَتَّى اسْتُشْهِدْتُ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ قَاتَلْتَ لأَنْ يُقَالَ جَرِيءٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ تَعَلَّمَ الْعِلْمَ وَعَلَّمَهُ وَقَرَأَ الْقُرْآنَ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: تَعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ. قَالَ: كَذَبْتَ، وَلَكِنَّكَ تَعَلَّمْتَ الْعِلْمَ لِيُقَالَ عَالِمٌ وَقَرَأْتَ الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ. وَرَجُلٌ وَسَّعَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَعْطَاهُ مِنْ أَصْنَافِ الْمَالِ كُلِّهِ، فَأُتِيَ بِهِ فَعَرَّفَهُ نِعَمَهُ فَعَرَفَهَا، قَالَ: فَمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟ قَالَ: مَا تَرَكْتُ مِنْ سَبِيلٍ تُحِبُّ أَنْ يُنْفَقَ فِيهَا إِلاَّ أَنْفَقْتُ فِيهَا لَكَ. قَالَ: كَذَبْتَ وَلَكِنَّكَ فَعَلْتَ لِيُقَالَ هُوَ جَوَادٌ، فَقَدْ قِيلَ. ثُمَّ أُمِرَ بِهِ فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ ثُمَّ أُلْقِيَ فِي النَّارِ» (أخرجه مسلم). انظر لهذه الأعمال كم يحتاج الإنسان لوقت ليعملها وكم حجمها وعظمها، ولكنها أعمال طاش أسهم أصحابها وخسروا، شابتها السمعة والصيت فكانت هباء منثوراً وأعمالاً خاسرة تورد صاحبها المهالك. وبالإخلاص ينال المسلم رضوان الله والجنة، بفعل قلبي صغير لكنه عظيم عند الله، وبالإخلاص يتحقق النصر والظفر والتمكين لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «بَشِّرْ هَذِهِ الأمة بالنصرِ والسناءِ والتمكينِ، فمن عملَ منهم عَمَلَ الآخرةِ للدنيا لم يكنْ له في الآخرةِ من نصيبٍ» (صحيح ابن حبان)، ولقوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أيضاً: «إِنَّمَا يَنْصُرُ اللَّهُ هَذِهِ الأُمَّةَ بِضَعِيفِهَا، بِدَعْوتِهِمْ وَصَلاتِهِمْ وَإِخْلاصِهِمْ» (أخرجه النسائي) نعم ينصر الله عباده المخلصين في أعمالهم ودعوتهم ويثيبهم على كثير من الأعمال إن هم أخلصوا النية لله واستحضروها حتى لو منعوا من القيام بها لأعذار، فلهم الأجر ولو لم يقوموا بها، وذلك من جملة أحاديث نسوق بعضاً منها، منها قول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «إِنَّ أَقْوَاماً بِالْمَدِينَةِ خَلْفَنَا مَا سَلَكْنَا شِعْبًا وَلا وَادِياً إِلاَّ وَهُمْ مَعَنَا فِيهِ حَبَسَهُمْ الْعُذْرُ» (أخرجه البخاري)، ويقول (صلى الله عليه وآله وسلم) «مَنْ أَتَى فِرَاشَهُ وَهُوَ يَنْوِي أَنْ يَقُومَ يُصَلِّي مِنْ اللَّيْلِ، فَغَلَبَتْهُ عَيْنَاهُ حَتَّى أَصْبَحَ، كُتِبَ لَهُ مَا نَوَى وَكَانَ نَوْمُهُ صَدَقَةً عَلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ» (أخرجه النسائي). ويقول الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم): «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الشَّهَادَةَ بِصِدْقٍٍ مِنْ قَلْبِهِ بَلَّغَهُ اللَّهُ مَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ وَإِنْ مَاتَ عَلَى فِرَاشِهِ» (أخرجه ابن ماجه).

هذه حال المخلصين أيها الإخوة، أعمالهم كلها خالصة لله، لا يريدون بها مغنماً ولا جاهاً ولا ثناءً ولا عرضاً من عروض الدنيا الزائلة، فيكرمهم الله بخير الجزاء ولو لم يقوموا بالأعمال لعذر.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *