العدد 266 -

العدد 266- السنة الثالثة والعشرون، ربيع الأول 1430هـ، الموافق آذار 2009م

فبهداهم اقتده: نُعَيْمٌ بنُ مَسْعُودٍ

فبهداهم اقتده:

نُعَيْمٌ بنُ مَسْعُودٍ

«رجل يعرف أن الحرب خدعة»

 

نُعَيْمٌ بنُ مسعودِ فتًى يقظ الفؤاد ألمعي الذكاء خرَّاجٌ ولاّجٌ (كثير المداخل والمخارج وذلك علامة على ذكائه ودهائه)، لا تعوقه معضلة ولا تعجزه مشكلة. يمثل ابن الصحراء بكل ما حباه الله من صحة الحدس (صحة التقدير والظن) وسرعة البديهة وشدة الدهاء… ولكنه كان صاحب صبوة (صاحب رغبة في المتع واللذات)، وخدين (رفيق وصديق) متعة، كان ينشدهما أكثر ما ينشدهما عن يهود يثرب. فكان كلما تاقت نفسه لقينة (المغنية) أو هفا لوتر شد رحاله من منازل قومه في نجد، ويمَّم وجهه شطر المدينة حيث يبذل المال ليهودها بسخاء ليبذلوا له المتعة بسخاء أكثر.. ومن هنا فقد كان نعيم كثير التردد على يثرب، وثيق الصلة بمن فيها من اليهود وخاصة بني قريظة. ولما أكرم الله الإنسانية بإرسال رسوله بدين الهدى والحق، وسطعت شعاب مكة بنور الإسلام؛ كان نعيم بن مسعود ما يزال مرخياً للنفس عنانها… فأعرض عن الدين الجديد أشد الإعراض خوفاً من أن يحول دونه ودون متعه ولذاته. ثم ما لبث أن وجد نفسه مسوقاً إلى الانضمام إلى خصوم الإسلام الألداء، مدفوعاً دفعاً إلى إشهار السيف في وجهه.

لكن نعيم بن مسعود فتح لنفسه يوم غزوة الأحزاب صفحة جديدة في تاريخ الدعوة الإسلامية، وخط في هذه الصفحة قصة من روائع قصص مكايد الحروب… قصةً مايزال يرويها التاريخ بكثير من الانبهار بفصولها المحكمة، والإعجاب ببطلها الأريب اللبيب.

ولتقف على قصة نعيم بن مسعود لابد من الرجوع إلى الوراء قليلاً. فقُبيل غزوة الأحزاب بقليل هبت طائفة من يهود بني النضير في يثرب، وطفق زعماؤهم يحزبون لحرب الرسول عليه الصلاة والسلام والقضاء على دينه… فقدموا على قريش في مكة، وحرضوهم على قتال المسلمين، وعاهدوهم على الانضمام إليهم عند وصولهم إلى المدينة، وضربوا لذلك موعداً لا يخلفونه. ثم تركوهم وانطلقوا إلى غطفان في “نجد” فأثاروهم ضد الإسلام ونبيه، ودعوهم إلى استئصال الدين الجديد من جذوره، وأسرّوا إليهم بما تم بينهم وبين قريش، وعاهدوهم على ما عاهدوها عليه، وآذنوهم بالموعد المتفق عليه.

خرجت قريش من مكة بقضها وقضيضها وخيلها ورجلها بقيادة زعيمها أبي سفيان بن حرب متجهة شطر المدينة. كما خرجت غطفان من نجد بعدتها وعديدها بقيادة عُيَيْنَةَ بنِ حِصْنٍ الغَطَفَاني. وكان في طليعة رجال غطفان بطل قصتنا نعيم بن مسعود… فلما بلغ الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، نبأ خروجهم جمع أصحابه وشاورهم في الأمر، فقر قرارهم على أن يحفروا خندقاً حول المدينة ليصدوا عنها هذا الزحف الكبير الذي لا طاقة لها به، وليقف الخندق في وجه الجيش الكثيف الغازي.

ماكاد الجيشان الزاحفان من مكة ونجد يقتربان من مشارف المدينة حتى مضى زعماء يهود بني النضير إلى زعماء يهود بني قريظة القاطنين في المدينة، وجعلوا يحرضونهم على الدخول في حرب النبي، ويحضونهم على مؤازرة الجيشين القادمين من مكة ونجد. فقال لهم زعماء بني قريظة: لقد دعوتمونا إلى ما نحب ونبغي، ولكنكم تعلمون أن بيننا وبين محمد ميثاقاً على أن نسالمه ونوادعه لقاء أن نعيش في المدينة آمنين مطمئنين، وأنتم تدرون أن مداد ميثاقنا معه لم يجف بعد… ونحن نخشى إذا انتصر محمد في هذه الحرب أن يبطش بنا بطشةً جبارةً، وأن يستأصلنا من المدينة استئصالاً جزاء غدرنا به… لكن زعماء بني النضير مازالوا يغرونهم بنقض العهد ويزينون لهم الغدر بمحمد، ويؤكدون لهم بأن الدائرة ستدور عليه هذه المرة لا محالة. ويشدون عزمهم بقدوم الجيشين الكبيرين. فما لبث يهود بني قريظة أن لانوا لهم ونقضوا عهدهم مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه…. ومزقوا الصحيفة التي بينهم وبينه… وأعلنوا انضمامهم إلى الأحزاب في حربه… فوقع الخبر على المسلمين وقوع الصاعقة…

حاصرت جيوش الأحزاب المدينة وقطعت عن أهلها الميرة والقوت. وشعر الرسول صلوات الله وسلامه عليه أنه وقع بين فكي العدو… فقريش وغطفان معسكرون قبالة المسلمين من خارج المدينة… وبنو قريظة متربصون متأهبون خلف المسلمين في داخل المدينة… ثم إن المنافقين والذين في قلوبهم مرض أخذوا يكشفون عن مخبآت نفوسهم ويقولون: كان محمد يعدنا بأن نملك كنوز كسرى وقيصر، وها نحن اليوم لا يأمن الواحد منا على نفسه أن يذهب إلى بيت الخلاء لقضاء الحاجة!! ثم طفقوا ينفضُّون عن النبي جماعةً إثر جماعة بحجة الخوف على نسائهم وأولادهم وبيوتهم من هجمة يشنها عليهم بنو قريظة إذا نشب القتال، حتى لم يبقَ مع الرسول بضع مئات من المؤمنين الصادقين. وفي ذات ليلة من ليالي الحصار الذي دام قريباً من عشرين يوماً لجأ الرسول صلوات الله وسلامه عليه إلى ربه، وجعل يدعوه دعاء المضطر، ويكرر في دعائه قوله: «اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك… اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك…».

كان نعيم بن مسعود في تلك الليلة يتقلب على مهاده أرقاً كأنما سمر جفناه فما ينطبقان لنوم، فجعل يسرح ببصره وراء النجوم السابحة على صفحة السماء الصافية… ويطيل التفكير… وفجأة وجد نفسه تسائله قائلةَ: ويحكَ يا نعيم!! ما الذي جاء بك من تلك الأماكن البعيدة في نجد لحرب هذا الرجل ومن معه؟!! إنك لا تحاربه انتصاراً لحق مسلوب أو حمية لعرض مغصوب، وإنما جئت تحاربه لغير سبب معروف… أيليق برجل له عقل مثل عقلك أن يقاتل فيقتُل أو يُقتَل لغير سبب؟!! ويحك يا نعيم… ما الذي يجعلك تشهر سيفك في وجه هذا الرجل الصالح الذي يأمر أتباعه بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى؟!! وما الذي يحملك على أن تغمس رمحك في دماء أصحابه الذين اتبعوا ما جاءهم به من الهدى والحق؟!! ولم يَحسم هذا الحوارَ العنيفَ بين نعيم ونفسه إلا القرارُ الحازمُ الذي نهض من توه لتنفيذه.

تسلل نعيم بن مسعود من معسكر قومه تحت جنح الظلام ومضى يحث الخطا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)… فلما رآه النبي عليه الصلاة والسلام ماثلاً بين يديه قال: «نعيم بن مسعود».

قال: نعم يا رسول الله.

قال: «وما الذي جاء بك في هذه الساعة؟».

قال: جئت لأشهد أن لا إله إلا الله، وأنك عبد الله ورسوله، وأن ما جئت به حق…

ثم أردف يقول: لقد أسلمتُ يا رسول الله، وإن قومي لم يعلموا بإسلامي… فمرني بما شئت…

فقال عليه الصلاة والسلام: «إنما أنت فينا رجل واحد… فاذهب إلى قومك وخذِّل عنا (ضعضع همة عدونا وأوهن قوته) إن استطعت، فإن الحرب خدعة…».

فقال: نعم يا رسول الله… وسترى ما يسرك إن شاء الله.

مضى نعيم بن مسعود من توه إلى بني قريظة، وكان لهم -من قبل- صاحباً ونديماً… وقال لهم: يا بني قريظة، لقد عرفتم ودي لكم وصدقي في نصحكم.

قالوا: نعم، فما أنت عندنا بمتهم…

فقال: إن قريشاً وغطفان لهم في هذه الحرب شأن غير شأنكم.

فقالوا: وكيف؟!

فقال: أنتم هذا البلد بلدكم، وفيه أموالكم وأبناؤكم ونساؤكم، وليس بوسعكم أن تهجروه إلى غيره… أما قريش وغطفان فبلدهم وأموالهم وأبناؤهم ونساؤهم في غير هذا البلد… وقد جاؤوا لحرب محمد، ودعوكم لنقض عهده ومناصرتهم عليه فأجبتموهم. فإن أصابوا نجاحاً في قتاله اغتنموا، وإن أخفقوا في قهره عادوا إلى بلادهم آمنين، وتركوكم له، فينتقم منكم شر انتقام… وأنتم تعلمون أنكم لا طاقة لكم به إذا خلا بكم…

فقالوا: صدقت، فما الرأي عندك؟!

فقال: الرأي عندي ألا تقاتلوا معهم حتى تأخذوا طائفةً من أشرافهم وتجعلوهم رهائن عندكم وبذلك تحملونهم على قتال محمد معكم إلى أن تنتصروا عليه أو يفنى آخر جل منكم ومنهم…

فقالوا: أشرت… ونصحت…

ثم خرج من عندهم وأتى أبا سفيان بن حرب قائد قريش وقال له ولمن معه: يا معشر قريش، لقد عرفتم ودي لكم، وعداوتي لمحمد… ولقد بلغني أمر فرأيت حقاً عليّ أن أفضي به أليكم، نصحاً لكم على أن تكتموه، ولا تذيعوه عني…

فقالوا: لك علينا ذلك…

فقال: إن بني قريظة قد ندموا على مخاصمتهم لمحمد، فأرسلوا إليه يقولون: إنا قد ندمنا على ما فعلنا… وعزمنا أن نعود إلى معاهدتك ومسالمتك. فهل يرضيك أن نأخذ لك من قريش وغطفان رجالاً كثيراً من أشرافهم، ونسلمهم إليك لتضرب أعناقهم… ثم ننضم إليك في محاربتهم حتى تقضي عليهم. فأرسل إليهم يقول: نعم… فإن بعثَتِ اليهود تطلبُ منكم رهائن من رجالكم فلا تدفعوا إليهم أحداً…

فقال أبو سفيان: نعم الحليف أنت… وجزيت خيراً…

ثم خرج نعيم من عند أبي سفيان ومضى حتى أتى قومه غطفان، فحدثهم بمثل ما حدث به أبا سفيان، وحذرهم مما حذره منه.

أراد أبو سفيان أن يختبر بني قريظة فأرسل إليهم ابنه فقال لهم: إن أبي يقرئكم السلام ويقول لكم: إنه قد طال حصارنا لمحمد وأصحابه حتى مللنا… وإننا قد عزمنا على أن نقاتل محمداً ونفرغ منه… وقد بعثني أبي إليكم ليدعوكم إلى منازلته غداً.

فقالوا له: إن اليوم يوم سبت، ونحن لا نعمل فيه شيئاً، ثم إننا لا نقاتل معكم حتى تعطونا سبعين من أشرافكم وأشراف غطفان ليكونوا رهائن عندنا. فإننا نخشى إن اشتد عليكم القتال أن تسرعوا إلى بلادكم وتتركونا لمحمد وحدنا… وأنتم تعلمون أنه لا طاقة لنا به…

فلما عاد ابن أبي سفيان إلى قومه وأخبرهم بما سمعه من بني قريظة قالوا بلسان واحد: خسئ أبناء القردة والخنازير… والله لو طلبوا منا شاةً رهينة ما دفعناها إليهم…

نجح نعيم بن مسعود في تمزيق صفوف الأحزاب، وتفريق كلمتهم… وأرسل الله على قريش وأحلافها ريحاً صرصراً عاتية جعلت تقتلع خيامهم، وتكفأ (تقلب) قدورهم، وتطفئ نيرانهم وتصفع وجوههم، وتملأ عيونهم تراباً… فلم يجدوا مفراً من الرحيل… فرحلوا تحت جنح الظلام… ولما أصبح المسلمون ووجدوا أعداء الله قد ولوا مدبرين جعلوا يهتفون: الحمد لله الذي نصر عبده.. وأعز جنده.. وهزم الأحزاب وحده..

ظل نعيم بن مسعود بعد ذلك اليوم موضع ثقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فولي له الأعمال، ونهض له بالأعباء، وحمل بين يديه الرايات، فلما كان يوم فتح مكة وقف أبو سفيان بن حرب يستعرض جيوش المسلمين، فرأى رجلاً يحمل راية غطفان، فقال لمن معه: من هذا؟!

فقالوا: نعيم بن مسعود…

فقال: بئس ما صنع بنا يوم الخندق… والله لقد كان من أشد الناس عداوةً لمحمد… وها هو ذا يحمل راية قومه بين يديه. ويمضي لحربنا تحت لوائه…

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *