العدد 266 -

العدد 266- السنة الثالثة والعشرون، ربيع الأول 1430هـ، الموافق آذار 2009م

مع القرآن الكريم

مع القرآن الكريم

 

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ ءَامَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ، أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ)

يبين الله سبحانه في هذه الآيات ما يلي:

  1. إن الناس كانوا في بداية عهد آدم – عليه السلام – بعد أن أخرجه الله من الجنة وأنزله على الأرض، كانوا مقرين لله بالعبودية مؤمنين به سبحانه، فكانوا أمةً واحدةً. والأمة هنا هي مجموعة من الناس بعقيدة واحدة.

ثم بعد ذلك اختلفوا فأصبح منهم المؤمن ومنهم الكافر، فبعث الله النبيين في أوقاتهم التي حددها سبحانه يبشرون المؤمنين برضوان الله والجنة وينذرون الكافرين بسخط الله والنار، وكان الله سبحانه ينـزل معهم كتبه بآياته المبينة لهم الخير من الشر، وليحكم النبيون بينهم في كل ما يتنازعون فيه.

غير أن تلك الأمم كانت تختلف على رسلها، وكان أشدها اختلافاً علماؤها وأحبارها ورهبانها، فهم الذين كانوا يغيرون ويبدلون في الكتب المنـزلة عليهم بعد أن جاءتهم الدلائل القاطعة المبينة للحق من الباطل، أي أنهم كانوا يعمدون إلى الباطل يفعلونه وهم يدركون أنه باطل، أي يضلون على علم دون حجة أو برهان بل استكباراً وعناداً وظلماً وعدواناً، أما الذين أخلصوا لله وصدقوا بما جاءهم رسل الله فأولئك كان الله سبحانه يهديهم سبيل الرشاد، ويبين لهم ما أدخله المختلفون على رسلهم من تحريف وتبديل ليبتعدوا عنه فلا يقعوا في الإثم والضلال، بل ينجيهم الله من ذلك بمنّه وفضله (وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).

(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) فيها محذوف بعد (أُمَّةً وَاحِدَةً) أي فاختلفوا وأصبح منهم المؤمن ومنهم الكافر، وهذا المحذوف يدلّ عليه (مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ) لأن إرسال النبيين مبشرين ومنذرين يعني أنهم أرسلوا إلى بشر مختلفين منهم من يستحق (البشرى) ومنهم من يستحق (الإنذار) وهذا يعني أن الناس كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا فكفر من كفر وبقي على الإيمان من بقي، وكان هذا حالهم عندما أرسل الله رسله إليهم مبشرين للمؤمنين منذرين للكافرين.

(مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ) وفي هذا دلالة أن الرسل كانت لهم شرائع مسطورة في كتبهم ليقضوا ويحكموا في خلافات الناس ومنازعاتهم بموجبها على نحو قوله سبحانه (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا) المائدة/آية48.

(وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ).

(الَّذِينَ أُوتُوه) أي علماء وأحبار ورهبان أهل الكتاب المنـزلة بقرينة (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ) فهم الذين يدركونها، والآية تدل أنَّ أشدهم اختلافاً هم أحبارهم ورهبانهم، فهم الذين يبدلون ويحرفون ويكتمون الحقّ وهم يعلمون.

(بَغْيًا بَيْنَهُمْ) أي استكباراً وظلماً وعناداً دون حجةٍ أو برهانٍ، وذكر (بَيْنَهُمْ) بعد (بَغْيًا) أي أن البغي متمكن فيهم فكأنه معهم أينما ذهبوا، فهو جالس بينهم حيث جلسوا.

  1. إن الآية الأولى تدلّ على احتدام الصراع بين الحق والباطل حتى ورسلهم بينهم، ليس هذا فحسب بل إن أهل العلم فيهم أشدهم اختلافاً، وإنَّ المؤمنين قلة بينهم كما في الحديث: “يأتي النبي ومعه الرجل والنبي معه الرجلان …(البخاري وأحمد).

وهذا يعني أن المؤمنين يشقون طريقهم في تلك المجتمعات الفاسدة بصعوبة وبتضحية بالغة، وفي هذا مواساة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما رآه من قومه ومن أهل الكتاب في وقته اليهود والنصارى، حيث لم يستجيبوا لدعوة الحق التي جاء بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بل قاوموه ووقفوا في وجهه، وأخرجوه من مكة، وصدوا عن سبيل الله، وقاتلوه في المدينة وجمعوا عليه الناس في الخندق (وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ) الأحزاب/آية10 واشتدت عليه الأمور كما صنعت الأمم السابقة مع رسلهم.

وفي الآية الثانية يبين الله سبحانه أن هذه سنته في خلقه، فإن ثمن الجنة غال: ابتلاء بالبأساء والضراء والمصائب العظام، كوقع الزلازل، بشدة بالغة يقول معها الرسول والمؤمنون معه متى نصر الله استثقالاً لوطأة ذلك البلاء، وعندها يأتيهم نصر الله، فنصر الله قريب للثابتين على الحق الصابرين على البلاء، ويومئذ يفرح المؤمنون بنصر الله، وكأن العبد لم يُبتلَ ولم يرَ بأساً ولا ضراء لما يراه من نعيم ورضوان من الله أكبر: “يؤتى يوم القيامة بأشد الناس بلاء ومصيبة، فيدخل الجنة ويسأل عن المصائب التي رآها في الدنيا، فكأنها لم تكن في حياته لعظم ذلك النعيم(أحمد، الزهد لابن المبارك، ابن أبي شيبة).

(أَمْ) هنا منقطعة فهي استئناف لكلام جديد، فالآية السابقة (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً) وهنا (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ) فهو تغيير في صيغة الخطاب وهو لـ(أَمْ) المنقطعة أنسب من المتصلة لاختلاف صيغة الخطاب، ثم إن (أَمْ) المتصلة تقتضي كلاماً واحداً متصلاً ويشترط أن تسبقها همزة الاستفهام كقولك (أعندك زيد أم عمرو؟) أي أيهما عندك؟ وجوابه زيد إن كان عنده زيد أو عمرو إن كان عنده عمرو، وأما (أم) المنقطعة فتقع بعد الاستفهام وبعد الخبر، وهي هنا ليست بعد استفهام بل بعد خبر منفصل عن الكلام بعدها، فهي (أم) المنقطعة.

و(أم) المنقطعة تكون بمعنى (بل والهمزة) والمعنى: بل أحسبتم أن تدخلوا الجنة، أي إنكار الحسبان واستبعاده فلا دخول للجنة دون ابتلاء كما بينه الله سبحانه.

(وَلَمَّا يَأْتِكُمْ) أي ولم يأتكم، وفي (لَمَّا) معنى التوقع لحدوث الفعل المنفي بعدها، وهي في هذا تختلف عن (لم).

(حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا مَعَهُ) للدلالة على أن الشدة كبيرة والهول عظيم لدرجة أن يستثقلها ويدرك طول شدتها ليس عامة الناس بل الرسل الذين يوحى إليهم وأصحابهم المؤمنون الملازمون لهم.

(مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) أي متى يأتي نصر الله؟ استطالة لمدة الشِّدة، لا شكاً ولا ارتياباً.

(أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) أي أجابهم الله سبحانه موحياً إلى رسوله أنَّ نصر الله قريبٌ.

وتصديرها بحرف التنبيه (ألا) وحرف التوكيد (إنَّ) تطميناً لقلوبهم بأنَّ هذا الوعد محقق الوقوع قريباً.

ولما كان قولهم (مَتَى نَصْرُ اللَّهِ) أي متى يأتي نصر الله؟ كأنهم يتوقون بشدة إلى قرب النصر، جاء الجواب طبق السؤال مؤذناً بالتنبيه والتأكيد بقرب النصر (أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *