العدد 266 -

العدد 266- السنة الثالثة والعشرون، ربيع الأول 1430هـ، الموافق آذار 2009م

كيف السبيل إلى مثل «حطين»؟

كيف السبيل إلى مثل «حطين»؟

 

مرة جديدة، ها هو كيان يهود يتمادى في غطرسته بعد أن تمادى في اغتصابه لأرض فلسطين، أرض الإسراء والمعراج، أولى القبلتين وثالث الحرمين، وتستمر المآسي والنكبات مجزرةٌ تلو أخرى. وها هم يهود يضيفون إلى سجلهم الأسود مجزرة جديدة، قتلاً وتدميراً وتشريداً. أطفال تقتل بأبشع أشكال القتل وأفواج منهم يتموا، ونساء ثكلن بالمئات، عدا القتلى والأرامل، وويلات وويلات… ومشاهد تقشعر لها الأبدان، من جثث باتت أياماً تحت الأنقاض، وجرحى ظلوا ينـزفون حتى الموت إلا من كان أجله مؤجلاً ووصلته فرق الإسعاف، ولكن إلى انتظار جديد. حصار محكم ولا شيء يدخل إلا بمقدار وبمنتهى الإذلال، وعجز طبي كبير أمام هول الإصابات المروعة التي أحدثتها الأسلحة الفتاكة و” المحرمة دولياً” المستخدمة ضد أهل غزة والتي تجرب على المسلمين وكأنهم أنعام.

كل هذا ولم يتحرك أحد. الجيوش قابعة في الثكنات، والمدافع نبتت عليها الحشائش تنتظر العرض وسط الساحات العامة في مناسبات خاوية أو نصر مزعوم! أما الحكام فمنهم من دان على استحياء واكتفى بالاستنكار، ومنهم من تظاهر بالغضب فدعا لعقد قمة من قممهم التي تفشل دائماً ولا تنجح إلا في تقديم التنازلات وتقديم المبادرات الاستسلامية، ولكنها في هذه المرة لم تعقد إلا بمن حضر دون نصاب يكفي لاعتبار عقدها معتبراً بنظرهم. مع أن عقدها أو عدم عقدها سيان.

خزي وعار، ذل ومهانة، ولم ينتفض بعد أحد من أهل القوة لنصرة المستضعفين من أهل غزة كما أمر الله تعالى: (وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَل لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا) [النساء 75] أما في أهل القوة والنصرة صاحب نخوة؟! أما في الأمة صلاح الدين؟!..

إن فلسطين وبيت المقدس قد احتلت منذ زمن من قبل الصليبيين، وحررها السلطان صلاح الدين، فما هي الأسباب التي أدَّت إلى احتلالها؟ وكيف حررها صلاح الدين؟

في النصف الثاني من القرن الحادي عشر الميلادي كان التشرذم والانقسام يضرب الأمة الإسلامية ضربة لم تعهدها من قبل، وأشد هذا الانقسام كان وجود دولة باغية في القاهرة تدعي أنها دولة خلافة، تزاحم الخلافة العباسية في بغداد على الرغم من نهي الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بشدة وتحذيره من هذا الأمر حيث قال: «… وَمَنْ بَايَعَ إِمَاماً فَأَعْطَاهُ صَفَقَةَ يَدِهِ وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ فَلْيُطِعْهُ إِنْ اسْتَطَاعَ، فَإِنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ». صحيح مسلم. وقال كذلك في صحيح مسلم: «إِذَا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ فَاقْتُلُوا الآخَرَ مِنْهُمَا» كذلك كانت بلاد الشام مسرحاً للتناحر بين الأمراء، إضافةً إلى أنّ الخلافة العباسية كانت تحت سيطرة السلاجقة، والدولة الفاطمية كانت تحت سيطرة وزرائها، كما كادت كل مدينة في بلاد الشام تصبح إمارة مستقلة تشغلها النـزاعات والأحقاد فيما بينها، ففي صور إمارة بني عقيل، وفي طرابلس إمارة بني عمار، وتنازع على حلب السلاجقة أنفسهم، إضافة إلى ظهور فرق باطنية كالإسماعيليين الذين سيطروا على دمشق. أما بيت المقدس فلم تعد تدري لحاكمها لوناً، فتارةً مع السلاجقة وتارة أخرى مع الفاطميين حتى انتهى بها المطاف إلى أن اختطفها منهم الصليبيون وذبحوا فيها أكثر من سبعين ألف مسلم. نعم، لا عجب، فأمراء المسلمين يتناحرون، والصليبيون يغتصبون إماراتهم واحدة تلو الأخرى، ومما زاد الطين بلة أن بعض أمراء المسلمين تعاونوا مع الصليبيين واستعانوا بهم على خصومهم المسلمين بدل أن ينسوا خلافاتهم مع إخوانهم المسلمين ويرصوا الصفوف معاً في وجه الصليبيين أعدائهم وأعداء الأمة. قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ) [الصف 4]. كيف لا تحتل بلاد المسلمين وقد ضاعت وحدة الأمة وأصيبت بداء التفكك والتشرذم والانقسام، فما هذه التداعيات من احتلال واغتصاب وذبح إلا نتيجة لهذا الداء، فمن يصاب بمرض مستعص لابد أن يشعر بجملة من التداعيات، كألم في الرأس أو ضعف في النظر والسمع أو إرهاق أو حتى تساقط للشعر. مرض عضال وتداعيات فتاكة ربما أكثر آلاماً. بيد أن هذه الأزمات انقلبت حالة إيجابية اعتملت في تفكير ثلة من القادة المجاهدين أمثال نور الدين زنكي وصلاح الدين الأيوبي وغيرهم ممن عاونهم من الذين عرفوا الطريق الصحيح لإنقاذ الأمة، عرفوا أن التخلص من المرض وعوارضه يبدأ باستئصال المرض، فمن يأخذ المسكنات أو يضع نظارة يكون واهماً إن ظن أنه شفي من المرض، بل لقد تغاضى عن استئصال المرض ما جعل المرض يستعصي ليفتك به.

ووفق هذا المفهوم الصحيح سار هؤلاء القادة المجاهدون في توحيد الأمة بوصفهم حكاماً لا مجرد دعاة، فعلى الرغم من أن هذه المرحلة لم تخلُ من مناوشات مع الصليبيين، إلا أن مسيرة تحرير بلاد المسلمين منهم كانت بعد توحيد الأمة. فقد أكمل نور الدين زنكي ما بدأه أبوه عماد الدين في هذا الطريق، فضمَّ إمارات الشام إليه واحدة تلو الأخرى حتى وحد بلاد الشام كلها، ثم عمد صلاح الدين إلى إلحاق مصر بدولة الخلافة فأنهى الدولة الفاطمية الباغية وجمع مصر والشام تحت رايةٍ واحدة، فتم بذلك توحيد الأمة في خلافة تصون الحرمات وتحمي الأمة.

وكما هو الموت دائماً، باغت نور الدين (رحمه الله) دون استئذان قبل أن يشهد تحرير بيت المقدس، إلا أن صلاح الدين مضى على خطاه وحرر بيت المقدس.

هذا هو طريق النصر، هكذا تُحرر فلسطين، بأمثال هؤلاء الرجال الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه، ونسأل الله أن يجعلنا ممن ينتظر. بأمثال صلاح الدين الذي أبى أن يبتسم والأقصى أسير، صلاح الدين الذي صنع منبر المسجد الأقصى قبل عشرات السنين من تحريره ثم وضعه فيه بعد تحريره.

إن الأمة اليوم مصابة بمرض هو أخطر من الذي أصيبت به في تلك الحقبة وأشد فتكاً، إذ هي لا تعاني من التشرذم والتشتت وفقدان الوحدة وحسب، بل تعاني أكثر من ذلك، فهي تعاني من فقدان الحاكم القائد الذي يقودها إلى العز،وتعاني أيضاً من فقدان الخلافة. ولا عجب مما تعاني الأمة اليوم، من احتلال لفلسطين والعراق وأفغانستان والمجازر التي ترتكب بحق المسلمين في البوسنة وكوسوفا والشيشان والصومال وكشمير وغيرها… إضافةً إلى تدنيس المصحف والإساءات المتكررة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، والذي يخفى أكبر، فإنَّ كل بلاد المسلمين بما فيها البيت الحرام يحكمها عملاء للغرب بما يرضي الغرب ولا يرضي الله. فما هذه المعاناة إلا عوارض للمرض الذي أصاب الأمة.

إن الأمة اليوم هي أحوج ما تكون إلى قادة أمثال أولئك القادة، ينصهرون بالإسلام ويفهمونه فهماً صحيحاً فكرةً وطريقةً بوصفه نظاماً للحياة، ويخترقون به العالم بأسره فلا تستطيع جيوش الدنيا أن تقف في وجههم، ويعملون على استئصال المرض.

إن توحيد الأمة وإقامة دولتها، دولة الخلافة، هو السبيل الوحيد إلى استئصال هذا المرض وإزالة جميع عوارضه من الدنيا، هو السبيل الوحيد إلى تحرير فلسطين وغيرها من سائر بلاد المسلمين.

إن دولة الخلافة هي التي تطبق حكم الله في الأرض، هي التي تخرج الناس من ظلمات الرأسمالية والغرب إلى نور الإسلام وعدالة القرآن. وهي التي تحلُّ الأزمات العالمية ومنها الأزمة الاقتصادية العالمية، ليس في بلاد المسلمين فقط وحسب، بل في العالم بأسره. إن دولة الخلافة هي التي تواجه الفقر والمجاعات والغلاء… بأفضل نظام يحقق الكفاية للجميع بما لا يمنع الغنى ولا يجعل الفقر مستشرياً. وهي التي تعلن الجهاد ضد يهود وأعوانهم وكل كافر يريد بالإسلام والمسلمين مكراً.

فيا أبناء هذه الأمة من أهل القوة والنصرة: استجيبوا لأمر الله واعملوا لإقامة دولة الخلافة التي هي فرض ربكم ومبعث عزكم وقاهرة عدوكم ومحررة أرضكم ومنارة الخير العدل في ربوع العالم، أعلنوها مدويةً خلافةً راشدةً على منهاج النبوة حتى تطردوا اليهود بالكامل من أرض فلسطين، وسوف ترون كيف يفرُّ الأميركيون كالفئران من العراق وأفغانستان، وتعود الشيشان كما كانت أرض المجاهدين المدافعين عن الثغور، ويفر الهندوس من أرض كشمير، ويعيش الناس، وليس المسلمين فقط، تحت رعايتها في سعادة ورخاء وعدل وأمان، عندها ستخاف أوروبا على حضارتها، وستعود أفريقيا لتتنعَّم بثرواتها بدل أن ينهبها الغرب الكافر، وسينتشر الإسلام بين البيض والسود والصفر والحمر في كل العالم، وتعود الأندلس كما كانت في الماضي دار إسلام، وسوف تصنع القرارات التي ترسم مسار التاريخ بإذن الله تعالى في أروقة دار خليفة المسلمين.

قال تعالى: (لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ) [الصافات 61].

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *