العدد 261 -

العدد 261- السنة الثالثة والعشرون، شوال 1429هـ، الموافق تشرين الأول 2008م

أزمة العقارات الأميركية: أزمة حضارة وليست أزمة إدارة: ولا حل لها إلا بالإسلام

أزمة العقارات الأميركية:

أزمة حضارة وليست أزمة إدارة: ولا حل لها إلا بالإسلام

 

تفاعلت أزمة المصارف الأميركية والشركات العاملة في الرهن العقاري لدرجة لم يعد ينفع معها المعالجة الخاصة لكل مصرف أو شركة تعرضت للإفلاس، بل توسعت لدرجة دفعت الحكومة الأميركية لأن تتدخل فيما يشبه إعلان حالة طوارئ وإصدار أحكام عرفية اقتصادية هي خارج ما يقره القانون الأميركي والنظم الرأسمالية، وتم الإعلان عن الخشية من أن تؤدي تطورات الأزمة إلى انهيار النظام الرأسمالي برمته. هذا وقد اعتبر بوش التدخل الحكومي أمراً ضرورياً لحل المشكلة التي تعصف بالأسواق، واصفاً الوضع بأنه «لحظة محورية لاقتصاد أميركا» معتبراً أن «اقتصاد أميركا يواجه تحديات لم يسبق لها مثيل، ونحن نرد عليها بإجراءات لم يسبق لها مثيل» وحذر من انهيار قطاعات اقتصادية كثيرة، وقال إن النظام الاقتصادي الرأسمالي برمته في خطر. وقد وصلت الحال بالسيناتور الأميركي كريس رود إلى أن يحذر أن «الولايات المتحدة باتت ربما على بعد أيام من انهيار شامل لنظامها العالمي» وبرئيس صندوق النقد الدولي دومينيك شتراوس إلى القول «الأسوأ لا يزال أمامنا».

وفي تفاصيل المشكلة، فإن الحكومة الأميركية كانت قد قدمت قروضاً ميسرة بفوائد مخفضة للشركات العاملة في الإسكان، وخاصة شركات الرهن العقارية، فراحت هذه الشركات والمصارف تبيع المساكن للأفراد بفوائد ميسرة مقابل رهنها حتى تسديد أقساط المبيع، بحيث يشغل المشتري المسكن ولكن تبقى سندات الملكية بيد الشركات ولا تنتقل إلى الأفراد إلا بعد وفاء الأقساط. فأقبل الأميركيون على الشراء بهدف السكن والاستثمار الطويل الأجل والمضاربة بشكل واسع، وخاصة بعد تسهيل الدفعة الأولى وتغطية القروض لكامل سعر المسكن المرهون.

وبفعل إقبال الناس على الشراء ازدهرت هذه السوق، وبالتالي ارتفعت قيمة العقارات، وقيمة أسهم شركات الرهن العقاري. وبفعل العولمة وانفتاح الأسواق العالمية على بعضها أقبلت عالمياً الشركات والبنوك الخاصة والمركزية والأفراد على شراء الأسهم في شركات الرهن العقاري الأميركية فارتفعت قيمتها ارتفاعاً خيالياً وأصبحت مصدر جذب لأموال المستثمرين في العالم.

وحيث إن سندات الملكية للعقارات كانت تبقى بيد شركات الرهن ولا تسلم للأفراد إلا بعد تسديد الثمن كاملاً، قامت هذه الشركات ببيع هذه السندات إلى شركات ومتمولين آخرين انفتحت شهيتهم للربح، فتم بذلك بيع على بيع، وكان هؤلاء المتمولون الجدد يعتمدون على المدفوعات التي يقدمها الأفراد الأوائل الذين يشغلون المساكن لسداد فوائد هذه السندات.

حتى هنا لم تظهر أي مشكلة عند الجميع، بل جميع الحلقات من الدولة المقرضة الأولى إلى المصارف وشركات الرهن العقارية التي استدانت من الدولة إلى المتمولين الجدد الذين اشتروا السندات كبيع ثانٍ إلى الأفراد الذين يشغلون المساكن كلها تسير سيراً طبيعياً تدل على ازدهار هذه السوق، وارتفاع أسعار العقارات، وارتفاع قيمة أسهم الشركات العقارية حتى أصبحت قيمتها الاسمية أو الوهمية أكثر من عشرة أضعاف قيمتها الحقيقية.

ولكن في عام 2007م، وعندما زاد عبء الديون (بفعل نفقات الحروب) توقفت الدولة عن إعطاء القروض الميسرة للشركات والمصارف، وطالبتها بسداد القروض التي أخذتها سابقاً عند حلول مدتها. وفي الوقت نفسه، وبسبب الوضع الاقتصادي السيئ في أميركا، ووجود التضخم وانتشار البطالة، لم يستطع أصحاب المساكن لا تسديد ثمن المبيع ولا حتى قروض الدفعات التي أخذوها من المصارف، ما أدى إلى تعثر السوق، وأصبح الكثير الكثير من البيوت المرهونة تباع بسبب وضع اليد عليها بسبب العجز عن تسديد الأقساط بأقل من نصف سعرها، ومع ذلك لا يوجد من يشتريها، وهكذا تحول السهم من الارتفاع إلى الهبوط، وهنا بدأت الأزمة في نظام متوحش لا يرحم، وبدأ الهرم كله بالانهيار، وقع الجميع في المأزق، واختلطت ملكية الأصول ما بين الشركات والمصارف وما بين المتمولين الجدد، وأصبح الكثير من الدين نتيجة التعثر معدوماً لا يمكن استرداده، ومالاً جامداً غير مسيَّل لا يجد من يشتريه، وصارت الفائدة التي لفت جميع الحلقات والتي تأكل الأخضر واليابس هي سيدة الموقف. وهكذا اعتبرت المصارف هذه الأصول رأسمال مفقوداً. وذكر أن الرهون العقارية العالية الأخطار تبلغ (2.5) تريليون دولار بحسب مؤسسة البحوث الاقتصادية «غلوبال إنسايت». هذه هي المشكلة في أساسها، أصولها المالية تشغل آلاف المليارات تورطت فيها أميركا بالدرجة الأولى إذ دفعت سيولتها من الخزينة من جيب المواطن الأميركي، ثم دخلت سوقها مصارف خاصة ومركزية وشركات وأفراد من خارج أميركا فصارت مشكلة عالمية بالدرجة الثانية.

هذه هي المشكلة، فما هو الحل الذي اقترحته الإدارة الأميركية السيئة الذكر العالية الشرور والأخطار؟

لقد أعلن بوش عن خطة للتدخل الحكومي «ستكلف دافعي الضرائب مبالغ طائلة، كما أنها تنطوي على مخاطر» ودعا الأميركيين إلى «الثقة باقتصادهم» وهذه الخطة تقوم على إجراءات مالية إنقاذية واسعة النطاق تشمل جميع المصارف الأميركية ومؤسسات الرهن العقارية المعرضة للإفلاس، وتقضي الخطة بشراء الدولة للديون الأكثر تشكيكاً بهدف تصفيتها من أية عيوب بطريقة منظمة ومن ثم إعادة بيعها، وتقضي كذلك بإعادة ضخ الدولة للمصارف وشركات الرهن العقارية بالأموال السائلة لتهدئتها ولتستعيد نشاطها ولتعطي دفعة إيجابية للأسواق المالية ولتزيل المخاوف من انهيار شامل… على أن يتم كل ذلك بإشراف هيئة حكومية تنشأ بالتنسيق بين وزارة الخزانة الأميركية والبنك المركزي. وحيث إن الخزينة الأميركية لا تستطيع وحدها استيعاب المشكلة، ولأن المشكلة لها امتداداتها عالمياً، فقد تم الاستنجاد بالمصارف المركزية في أوروبا وآسيا لدعم صندوق الإنقاذ المالي بـ(247) مليار دولار، بالإضافة إلى ما أعلنه بوش من دعم مالي من خزينة الدولة، أي من جيب المواطن الأميركي، والذي قدر بـ(800) مليار دولار وذكر رقم تريليون دولار. وتقتضي الخطة كذلك بإيجاد نظام جديد لهذه المصارف والمؤسسات وقيود ومراقبة…

ومع هذا التدخل فإن مؤسسة البحوث الاقتصادية «غلوبال إنسايت» نبهت إلى أن «خطة الإنقاذ المقترحة لا تعالج رغم ضخامتها سوى نصف المشكلة» حيث أوضحت أن قيمة الرهون العقارية العالية الأخطار تبلغ (2.5) تريليون دولار. وهذا ما لمح إليه بوش عندما قال إن خطة الإنقاذ هذه ليست مضمونة النتائج. ويكفي القول على عدم ضمان الحلول أن مصرفاً واحداً من المصارف الكثيرة المأزومة وهو «ليمان براذرذ» قد قدرت خسائره بـ(613) مليار دولار. فإذا كان مصرفاً واحداً بلغت خسائره هذا المقدار فماذا ستفعل الـ(800) ملياراً أو الـ(1000) مليار دولار؟

إن هذه الأزمة ضخمة جداً، وهي تهدد نظام حياة الأميركيين جميعاً، وهي أتت في خضم انتخابات رئاسية، فأضافت هماً إلى بوش الذي وقف، وهو في آخر أيام حكمه، ذليلاً أمام شعبه ليعلن عن المأساة، وعن ضرورة حلها بسرعة ومجتمعين، وهي قد انعكست آثارها السريعة على ماكين في استطلاعات  الرأي حيث سجلت تراجعه أمام أوباما بتسع نقاط بعد أن كان متقدماً عليه بنقطتين. وكذلك ظهر على ماكين الاضطراب حين أعلن عن تأجيل مناظرة تلفزيونية مع أوباما يوم الجمعة في 26/9 بحجة انشغاله بالأزمة الاقتصادية ومتابعة تفاصيلها، في حين أصر أوباما على إجرائها. ويذكر هنا أن اهتمام الأميركيين بالاقتصاد يأتي عادة في مقدمة اهتمامات الشعب الأميركي في الانتخابات فكيف في هذه الأجواء؟ ويذكر أيضاً أن الديمقراطيين يقدمون اهتمامهم بالأوضاع الاقتصادية الداخلية في برامجمهم الانتخابية بينما الجمهوريون يقدمون الاهتمام بالسياسة الخارجية، ومن هنا يمكن القول إن هذه الأزمة ستكون لمصلحة أوباما.

ونظراً لخطورة الأزمة وشمولها لعموم الشعب الأميركي، وحيث لم تقتصر على حزب دون حزب، ولأنها أصابت أساس النظام المالي في البلاد، وهذا يهدد الجميع دون استثناء، فإن هذا لم يدع للحزبين مجالاً إدخال الأزمة في دائرة التجاذب الانتخابي، فقد عقدت اجتماعات بين الحزبين نوقشت فيه خطة بوش للإنقاذ، وعرض فيها الديمقراطيون رؤيتهم وفرضوا تعديلات معينة، ورفضوا إعطاء صلاحيات اقتصادية مطللقة للهيئة الحكومية التي ستشرف على حل الأزمة على غرار الصلاحيات الأمنية المطلقة التي أعطيت للإدارة الأميركية عقب تفجيرات 11/9/2001م والتي أساءت استعمالها، وقد أسفرت الاجتماعات على اتفاق للحل بينهما، وقد كان الجو المخيم المسيطر على أجواء المجتمعين بأن الإنقاذ إنقاذ للجميع، وأن الوقت يداهم الجميع، وأن الوضع خطير جداً لدرجة تدفع إلى التكاتف وإنقاذ مركز أميركا داخلياً وخارجياً. وقد تم الاتفاق على حل بحسب الفريقين.

من كل ما ذكر يمكننا القول باطمئنان إن النظام الاقتصادي الرأسمالي قد انهار فعلاً، بحسب آلياته التي تفرضها طبيعة نظامه والتي ترفض التدخل الحكومي فيه. وإنه لولا التدخل الحكومي لكانت الآن الحكومة والشركات والشعب الأميركي (ومعه الأوروبي) يفتشون في أنقاض هذا الزلزال المدمر عسى أن يجدوا فيه بقية تعينهم على البقاء. وما قامت به الحكومة بتدخلها يناقض تماماً ما تقوم به على أساسيات في النظام الرأسمالي. فعملية التأميم التي قامت بها الدولة لبعض المؤسسات المتعثرة تعد خروجاً مميتاً عن المبدأ الرأسمالي وهي عملية منتقدة وكانت تهاجم بقوة في النظام الشيوعي البائد. ويقول ديفيد روثكوبف المسؤول السابق في وزارة التجارة أيام كلينتون: «إننا نشهد في الوقت الراهن نهاية الحقبة التي تقوم على فكرة «دع الأمور للسوق». فهذا التصرف يعتبر تصرفاً عكسياً لما يؤمن به الرأسماليون. فريغان الذي تم ولوج باب العولمة في عهده يصرح، وهو في أوج اعتزازه بالنظام الرأسمالي وحيويته وحرية حركته، قائلاً: «إن الدولة المتدخلة في الاقتصاد ليست الحل بل المشكلة» فهذا التدخل هو صورة من صور وقف انهيار الحضارة الغربية الذي سيكون مدوياً وقريباً إن شاء الله.

كذلك، كما إنه وجد من أهل البيت الأميركي من يشكك في جدوى معالجة هذه الأزمة وفي نجاح الحل، فإننا كذلك نشكك ولكن من منطلق آخر. إذ إن هذه المشكلة التي يجب التعرض لحلها حلاً جذرياً يجب أن تتناول الأساس الفكري الذي تقوم عليه أولاً، هذا الأساس المقطوع الصلة بالله والقائم على أهداف مادية بحتة لا روح فيها ولا خلق ولا إنسانية، ويجب أن تتناول تغيير أشكال النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يكفي الواحد منها لهدم النظام بأكمله، فكيف إذا اجتمعت مع بعضها؟ فالربا، والاحتكار، ونظام الأسهم والبورصات، وبيع الأصول أكثر من مرة في بيع واحد، وعدم اعتبار الذهب والفضة كأساس ثابت للعملة… فهذه الأحكام وأمثالها الكثير يقرها النظام الرأسمالي ويعتبرها عمدة في نظامه الاقتصادي ولا يتخلى عنها، وهو الآن حين يبحث عن الحلول لا يفكر بتغييرها، فهذا كله يجعلنا نقول إن أميركا ومعها أوروبا لن تستطيع الحل، بل هي لا تملكه، فهي مفلسة في الحل، لأن الحل موجود خارج حضارتها، وتلمسه يقتضي الخروج عن هذه الحضارة والتخلي عنها، وحيث إن هذا ليس مطروحاً عند أحد منهم فلا يتوقعن أحد حلاً وإنما ترقيع، وتسكين أوجاع، مع بقاء المرض واستفحاله؛ لذلك جاءت المعالجة من جنس المشكلة: مزيد من الديون والفوائد، ومزيد من الأموال للمصارف لتستعيد نشاطها نفسه، ولكن هذه المرة مع ضبط ومراقبة وسن قوانين جديدة كما يقولون.

ويمكننا القول كذلك إن أميركا التي توصف بأنها امتلكت قوة غير مسبوقة في التاريخ المقصود بها القوة المادية فقط من علوم وتكنولوجيا وسلاح… أما قوتها الفكرية فهي من أضعف الأفكار، وهي شريعة غابٍ مقننة، وهذا ما جعلها تسقط في ميدان الصراع الفكري والحضاري مع المسلمين. الذين بالرغم من ضعفهم على الصعيد المادي، فإنهم لم يمكنوا أميركا من تسجيل انتصار مادي عليهم، بينما سجلوا عليها انتصاراً باهراً على الصعيد الحضاري. إذ إن ما قامت به أميركا من تجاوزات لا إنسانية ضد المسلمين جعلهم ينكشفون حضارياً أمامهم وأمام العالم. وما يحدث في العالم اليوم من أزمات عالمية يشير كله إلى أنها مقدمات انهيار حضارة الغرب التي تدل كثرتها وتقاربها على سرعة تهاويها، فهذه الأزمة أزمة نظام عالمي، وهي تحتاج إلى نظام عالمي جديد صحيح، وهذا لا يوجد إلا في نظام الخلافة الإسلامية؛ وعليه فإن هذه المشكلات وأمثالها لا حل لها على أرض الواقع إلا بالإسلام الذي تقوم عقيدته ووجهة نظره في الحياة وأشكال أنظمته على ما يناقض الرأسمالية. وما عند الإسلام إنما هو مشروع كامل ينتظر أن يعود لأخذ دوره في الحياة. وبانتظار أن يحق الله الحق ويحل الحل بالإسلام وتقوم خلافته، فسيبقى النظام الرأسمالي يترنح. وتضمد جراحه وتسكن آلامه حتى يأذن الله بفرجه.

إن الأزمة الراهنة هي في حقيقتها أزمة حضارة وليست أزمة إدارة. وإن كان بوش بغبائه قد استطاع أن يكشف المستور أكثر من غيره، وأن يسرع عملية تهاوي الحضارة الغربية بشكل غير مسبوق. وجعل بالمقابل، وعلى عكس ما يريد، الإسلام يتقدم في الميدان الحضاري ويطرح نفسه كبديل حضاري صالح بديل عن الحضارة الغربية الفاسدة النتنة. فهو قد سرّع في عملية سقوط حضارته كما سرّع في عملية عودة الإسلام إلى مسرح الحياة، وهذه السرعة التي من عادتها أن تكون بطيئة غير مرئية إلا للمفكرين والباحثين أصبحت مرئية للناس أجمعين.

ونسأل الله أن يجعل ذلك قريباً، وأن يأتي على الفكر الرأسمالي من القواعد ليجعل السقف يخر عليهم، فلا تستأهل  عند أصحابها البحث في الركام ليحصلوا على ما بقي لهم من حطام. اللهم إننا نمتلئ إيماناً وثقة بك وبدينك، فاجعلنا أهلاً لأن نقوم بأمرك وإظهاره على الدين كله ولو كره الكافرون آمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *