العدد 260 -

العدد 260- السنة الثالثة والعشرون، رمضان 1429هـ، الموافق أيلول 2008م

أزمة غلاء الأسعار وطريقة علاجها

أزمة غلاء الأسعار وطريقة علاجها

 

أبو المعتصم- بيت المقدس

يقول الحق تعالى في كتابه العزيز: (قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)[طه 123-124].

موضوع غلاء الأسعار وطريقة علاجها سنتناوله من ثلاثة زوايا، الأولى: تعريف الأسعار وواقعها، الثانية: أسباب الغلاء التي تحدث في العالم اليوم، الثالثة: طريقة علاج هذا المرض وحاجة البشرية اليوم إلى مثل هذا العلاج.

قبل البداية في عرض هذا الموضوع نذّكر بأصواتٍ قد تعالت في الفترة الأخيرة على مستوى مسؤولين عالميين، ورؤساء هيئات دولية، ومختصّين في الجامعات تحذّر من عواقب هذه الأزمة العالمية؛ فقد صرّحت رئيسة برنامج الغذاء العالمي “جوزيث شيران ” حيث قالت في 22/4/2008م: «إنه من الضروري إيجاد إجراءات لإنعاش الإنتاج العالمي الغذائي ومساعدة الفقراء»، وقالت: «إن حوالى مئة مليون شخص في العالم غير قادرين على توفير الغذاء لعائلاتهم»، وقال مبعوث الأمم المتحدة المكلف بشؤون الفقراء  “خان زجلر” الأستاذ في علم الاجتماع السويسري في 20/4/2008م: «إن ارتفاع أسعار المواد الغذائية في العالم سيؤدّي إلى مذبحة جماعية صامتة».

وقد انعقدت في 16/5/2008م قمة ضمت خمسين دولة من أوروبا وأميركا اللاتينية، وحوض الكاريبي في البيرو لبحث مشكلة الفقر وارتفاع الأسعار، وقد حذر المجتمعون من كوارث عالمية جماعية ستترتب على مشكلة ارتفاع الأسعار وأوصوا بضرورة إيجاد الحلول السريعة.

فما هي أسباب هذه الأزمة الحقيقية، وما هي طريقة علاجها الناجعة؟

قبل البداية في عرض الأسباب نريد أن نقف على حقيقة الأسعار من حيث معناها وواقعها.

– ما هو المقصود أولاً بالأسعار وما هو واقعها؟

جاء في لسان العرب: السعر: الذي يقوم عليه الثمن وجمعه أسعار، وقد أسْعروا وسعّروا بمعنىً واحد، أي اتفقوا على سعر، وفي الحديث أنه قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : سعِّر لنا، فقال: «إن الله هو المسعّر..» أخرجه أبو داود، أي إنه هو الذي يُرخِصُ الأشياء ويغليها، فلا اعتراض لأحد عليه، والتسعير تقدير السعر.

والمعنى الشرعي هو قريب من هذا المعنى، فما ورد في الحديث من طلب الصحابة لوضع سعر للسلع، هو وضع مقادير من الذهب والفضة -حيث كانت هي أداة التبادل- مقابل السلع والخدمات.

فنقول: السعر: هو ما يعرضه الناس في معاملاتهم للسلع والخدمات، مقابل الأثمان من الذهب والفضة وغيرها، فمثلاً نقول: سعر السلعة الفلانية هو دينار، أي أن مقدار المبادلة بالثمن لهذه السلعة هو دينار فأصبح الدينار هو سعراً لهذا السلعة، والدينار الذي يبذله المشتري هو الثمن لهذا السعر. ونقول: سعر صرف الدولار بالدينار هو سبعون قرشاً فأصبح سعر الصرف للدولار الواحد هو سبعون قرشاً.

وقد ورد في الموسوعة الفقهية الكويتية، «الثمن ما يكون بدلاً للمبيع ويتعين في الذمة… والسعر ما يعرضه صاحب السلعة كثمن مقابل سلعته..».

من هنا نستطيع أن نقول بأن الأسعار للسلع والخدمات هو «ما يحدده السوق كمقادير من النقد أو غيره من أدوات تبادل، لحيازة هذه السلع، والانتفاع  بالخدمات سواء أكانت أثماناً مقرونة بالذهب والفضة أم مبادلات مع سلع أخرى». هذا ما يتعلق بتعريف الأسعار وواقعها.

– أما أسباب الغلاء غير الطبيعي الذي يحدث في العالم بشكل عام وفي بلاد المسلمين بشكل خاص، ويطال حاجات الناس الأساسية في المأكل والملبس والمسكن والخدمات الضرورية، فإن ذلك عائد لفساد النظام المطبّق على البشرية هذه الأيام وهو النظام الرأسمالي الغربي، ومنه النظام الاقتصادي. ويمكن إجمال الأسباب في هذا النظام الاقتصادي السقيم ضمن النقاط الآتية:

1- الأزمات الاقتصادية المصطنعة الناتجة عن سياسات الدول الرأسمالية الجشعة:

فالدول الرأسمالية الكبرى وخاصة الدول الصناعية الثماني الكبرى وعلى رأسها أميركا وأوروبا الغربيّة هي دول تنطلق في سياساتها الاقتصادية داخل حدودها وخارجها من المبدأ الرأسمالي، الذي يهدف إلى تحقيق أكبر قدر من الأرباح والثروات والأموال، حتى وإن كان ذلك على حساب الشعوب الفقيرة.

لذلك تلجأ الدول إلى افتعال الأزمات ورعايتها من أجل تحقيق أكبر قدر من الأرباح،  مثل هزّات الأسواق المالية التي كانت تفتعلها بعض الشركات الكبرى في آسيا، وتحقق من وراء ذلك أرباحاً طائلة، وتترك خلفها بلاداً مدمرة اقتصادياً كما حدث في جنوب شرق آسيا في تشرين أول سنة 1997م.

وهذه الأزمات والسياسات الإجرامية لم تتوقف على موضوع هزّات الأسواق المالية، بل تتجاوز ذلك إلى أسعار البترول، وإلى أسعار العملات النقدية مثل الدولار.

فهذه الأمور تؤثر في ارتفاع الأسعار، لأن هزات الأسواق تتسبب في أزمات مالية داخل الدولة مما يدفع الدولة لتعويض النقص الناتج عن طريق الضرائب ورفع الأسعار، وكذلك انخفاض قيمة الغطاء المالي العالمي مثل الدولار يؤدي إلى رفع قيمة السلع والخدمات لتفادي الخلل الناتج، وكل هذا يكون من عرق الناس وتعبهم وعلى حساب أجورهم اليومية، وعلى حساب مدخراتهم.

2- النظام النقدي السقيم، المستند إلى النظام الرأسمالي عند الغرب:

 فهذا النظام يتصف بعدم الاستقرار؛ لأنه لا يستند إلى غطاء ثابت يحمل قيمته في نفسه مثل الذهب والفضة، بل إنه في بعض الدول لا يحمل أي غطاء، أو يحمل غطاءً جزئياً. وهذا بالتالي يؤدي إلى التذبذب المستمر ارتفاعاً وانخفاضاً ما يؤثر على أسعار السلع والخدمات، فترتفع ارتفاعاً غير طبيعي، أو يحدث العكس من ذلك.

3- النظام الربوي الناتج من صميم المبدأ الرأسمالي، حيث إنه أباح للفرد أن ينمي ماله بأي طريقة وبحرية كاملة تحت شعار حرية الملكية.

أما كيف يؤثر هذا النظام في الأسعار، فإن الربا المترتب على الأموال المستغلة في المشاريع الاقتصادية، يرجع في نهاية المطاف على كاهل المستهلك، فصاحب المصنع الذي اقترض من البنك يريد أن يسدد القرض، وربا القرض الذي يزداد في كل شهر يتأخر فيه عن السداد!!

هذا من ناحية، ومن ناحية ثانية فإن الأموال التي يجمعها البنك أو المؤسسات الربوية الأخرى تسهل عملية الاحتكار للمشاريع الكبيرة بسبب الربا. لأنه لا يستطيع أن يقوم على الاقتراض لمبالغ كبيرة إلا الرأسماليون الكبار، وبالتالي لا يستطيع أن يقوم بالمشاريع الكبيرة إلاّ هؤلاء، وهذا يؤدي إلى سياسة التحكم في سعر السلع المنتجة.

4- التحكمات الاقتصادية والمضاربات والاحتكارات:

وهذه الأمور نابعة من مبدأ الحرية في التملك وتنمية الملك، الذي يبيح لأصحاب الشركات الكسب بأي طريق، ومن طبيعة النظام المنبثق عن المبدأ الرأسمالي في الدول.

فالدول التي تستند إلى المبدأ الرأسمالي، ترعى وتساند مجموعة من الرأسماليين المساندين لهذا النظام مقابل مساندتهم للنظام القائم أو الحاكم، ويقوم الحاكم بتقديم خدمات لهذه الشركات الكبرى مثل إعطائهم امتيازات أو أسواق أو غير ذلك.

وكل ذلك يصب في نهاية المطاف في زيادة الأسعار على كاهل المواطن نتيجة عدم وجود منافسة حقيقية في الأسواق ونتيجة الاحتكارات والتحكمات.

فلو نظرنا على سبيل المثال إلى بعض الشركات المتحكمة ببعض السلع والخدمات في مجتمعنا؛ لرأينا انعكاس ذلك على التحكم في سعر السلع والخدمات؛ مثل شركة الاتصالات، وشركة توريد وبيع المحروقات؛ فمثل هذه الشركات تتحكم في الأسعار، وتضع على كاهل المواطن أعباء الضريبة التي تدفعها مقابل هذه التحكمات للدولة.

5- القروض الطائلة التي تأخذها الأنظمة العميلة في دول العالم الإسلامي وما يترتب عليها:

فسياسات الدولة العميلة في الاقتراض من الدول الكافرة، يتحمل أعباءها في نهاية المطاف أفراد الشعب البائس الفقير.

 ومن نتائج سياسات الاقتراض، فتح أسواق تلك الدول للدول المقرضة وبالتالي ضرب الصناعات المحلية، والتسبب في كساد اقتصادي، ورفع أسعار السلع والخدمات، لجمع  ما يلزم لسداد ربا الديون المستحقة في كل عام، ورفع الضرائب على كاهل المواطن. وقد تلجأ بعض الدول إلى خفض قيمة عملتها نتيجة ضغوطات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وهذا يتسبب في زيادة سعر السلع والخدمات وبقاء الأجور على ما هي عليه؛ وكل ذلك يتحمل نتيجته المواطن البائس الفقير، فيزداد فقراً على فقره!!

6- اعتماد الدول الفقيرة على صناعات الدول الكبرى وخاصة في بلاد المسلمين، إذ تعتمد على صناعات الدول الكافرة اعتماداً يكاد يكون كلياً، وعدم وجود سياسة للتصنيع وهذا بالتالي يؤدي إلى فرض أسعار باهظة للسلع الغربية مثل السيارات والأدوات الكهربائية وغيرها.

ويزيد الطين بلة النظام الضرائبي الكبير المفروض على هذه السلع، في نفس الوقت فإن المواد الخام الأولية  تخرج من بلاد المسلمين بأبخس الأسعار!

7- تقييد أيدي الناس في عملية استغلال الثروة الطبيعية، أو التجارية، وفي نفس الوقت فرض نظام ضرائبي وربوي كبير على من يقوم بالمشاريع بدل مساعدتهم وتشجيعهم في هذا المجال.

فالثروات الطبيعية تضع الدولة يدها عليها، ولا تترك للناس مجالاً للانتفاع، وتعطي امتيازات لشركات معينة مقابل مصدر ضرائبي يرجع في نهاية المطاف على كاهل المواطنين.

8- عدم وجود نظام رعوي عادل يحقق مسألة توازن الأسعار، إذا حدث خلل غير طبيعي في المجتمع نتيجة لانقطاع سلعة معينة من السوق، ولا تتدخل الدول الحالية في النظم الرأسمالية لإنقاذ المواطن من الأزمات. فالثمن هو المنظم للتوزيع الحافر على الإنتاج في هذه النظم السقيمة، ولا يوجد سياسة تدخّل من قبل هذه النظم لمعالجة الأزمات.

هذه هي أبرز الأمور التي تؤدي إلى وجود الغلاء بشكل غير طبيعي في الأسواق -في بلاد المسلمين وغيرها من بلاد تطبق النظام الرأسمالي الفاسد-، وتؤدي إلى مفاسد أخرى كثيرة؛ مثل زيادة نسبة الفقراء في كل يوم لصالح الرأسماليين الكبار، ونهب الأجور باستمرار، والكوارث الاقتصادية المدمرة التي تجتاح الشعوب الضعيفة.

وهناك أسباب أخرى مستجدة أدّت إلى ارتفاع الأسعار وزيادتها بشكل غير طبيعي -زيادة على ما ذكرنا من أسباب تتعلق بالنظام الرأسمالي بشكل عام- من هذه الأسباب:

1- ارتفاع أسعار البترول بشكل كبير حوالي 300% نتيجة زيادة الطلب عليه ، ونتيجة سوق المضاربات على هذه السلعة الحيوية وذلك من قبل المضاربين في الأسواق المالية، وتحول قسم كبير منهم للمضاربة في أسواق البترول، فقد أثر ارتفاع أسعار البترول في ارتفاع جميع السلع تقريباً نتيجة ارتباط الصناعات والزراعة بهذه السلعة الحيوية.

2- ازدياد إنتاج الطاقة الحيوية -أو الطاقة البديلة- وهذا الأمر أثر بشكل كبير على ارتفاع أسعار بعض المواد الغذائية، وخاصة الزراعية منها مثل الحبوب.

3- المضاربات من قبل المضاربين على السلع الغذائية؛ حيث فقد هؤلاء الناس الثقة بالأسواق المالية فتحولوا إلى الأسواق الأخرى؛ ومنها سوق الذهب، وسوق العقارات، وأسواق المعادن، وأسواق المواد الغذائية، ونتيجة هذه المضاربات الجنونية ارتفعت الأسعار بشكل لم يسبق له مثيل من قبل، حيث ارتفعت أسعار بعض السلع مثل الحبوب إلى ما يقارب 200%.

4- انخفاض سعر الدولار بشكل عالمي إلى ما يقارب الربع، وهذا الأمر أدّى إلى ارتفاع أسعار السلع وخاصّة في الدول التي تعتمد الدولار غطاءً مالياً، أو تلك التي تعتبره نقداً رئيسياً مثل الولايات المتحدة وغيرها من دول مرتبطة بها؛ فانخفاض سعر الدولار أدى بشكل طبيعي إلى انخفاض أسعار السلع المنتجة في الدول التي تتخذه أداة تبادل، وأدى كذلك إلى انخفاض أسعار العملات المرتبطة بالدولار وبالتالي إلى رفع الأسعار من قبل المنتجين في كلا النظامين هنا وهناك.

هذه بعض الأمور التي زادت الطين بلة، فأدت إلى ارتفاع جديد في الأسعار، بشكل غير طبيعي، وخارج حتى عن المعدلات الطبيعية في النظام الرأسمالي.

– فما هو طريق الخلاص من هذا الوحش المفترس (النظام الاقتصادي الرأسمالي)، ما هو السبيل كي تعيش الشعوب في بلاد المسلمين وفي غيرها من بلاد في ظل عدل اقتصادي، ومحافظة على الثروات والمدخرات، وفي تقدم اقتصادي وبحبوحة من العيش تطال جميع فئات المجتمع ولا تقتصر على الرأسماليين الكبار، ما هو الحل لمثل هذه المشاكل والأزمات التي تسبب القلق والإزعاج والحِرْمان لكثير من أبناء المسلمين؟!

وقبل أن نذكر طريق الخلاص، لا بد أن نذكّر بحقيقتين  ذكرها رب السماوات والأرض في كتابه العزيز وهي أن ألوان الفساد والضنك، وقسوة العيش، والبلايا العظام التي تجتاح بني الإنسان مرتبطة أولاً: بالبعد عن طريق الاستقامة والرشاد والهدى، وإنه على العكس من ذلك فإن بحبوحة العيش، واستقامة الحياة، والأمن والأمان وطمأنينة الحياة والسعادة الحقيقية، إنما هي مرتبطة باتباع نظام الهدى والاستقامة. وثانياً: إن الحق تبارك وتعالى يسلط على الناس الضنك وسوء الأحوال والغلاء والقحط ونقص الأموال والبأساء والضراء وذلك عقوبة منه سبحانه وتعالى كي يتذكّر الناس ما هم عليه من عدم استقامة، وحاجتهم للاستقامة والهدى.

قال تعالى في ذكر الحقيقة الأولى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم 41]، وقال: (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى، وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى) وقال: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا، يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا، وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ) [نوح 10ـ12]، وقال: (وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ) [المائدة 66].

وقال في ذكر الحقيقة الثانية: (وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ) [الأنعام 42]، وقال: (وَلَقَدْ أَخَذْنَا ءَالَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ) [الأعراف].

فيجب على المسلمين بشكل خاص وعلى البشرية بشكل عام أن تدرك هاتين الحقيقتين وأن تدرك طريق النجاة منهما.

إن طريق الخلاص هو تطبيق نظام عادل مستقيم يخلّص الناس من كل هذه الآفات الاقتصادية؛ نظام يحرم الربا تحريماً قاطعاً، ويحرّم جميع مظاهره في المؤسسات العامة والخاصة، وبالتالي يقضي على مسألة تكدّسِ الأموال بأيدي فئة من الناس، وانحصار المشاريع الكبيرة بأيديهم، وكذلك يخلص الناس من مآسي النظام الربوي في كافة المجالات الاقتصادية.

 نظام يحافظ على ثروات الأمة من الضياع والسرقات المنظمة فيحافظ على المال العام وعلى المال الخاص من أي عبث؛ نظام يقوم على مساعدة الناس اقتصادياً ورعاية حاجاتهم، بدل الاقتراض من الدول الكبرى على أكتافهم، ثم تحميلهم أعباء الربا المترتب على هذه الديون، ويجعل من بلادهم مسرحاً مستباحاً لاقتصاد الدول الكبرى؛ في فتح الأسواق، وفي خصخصة الشركات، وفي تخفيض قيمة النقد وغير ذلك من مآثمٍ ومآسٍ اقتصادية تجرّ على البلد الويلات والدمار!

نظام يمنع الأذى عن الناس في لقمة عيشهم، وحاجاتهم الأساسية، فيمنع الاحتكار للسلع والخدمات بكافة صوره وأشكاله.

… نظام يرعى شؤون الناس في أمور الاقتصاد، فلا يدع مجالاً للاستفراد في الأسواق، وإذا ما غابت سلعة من السوق لأي سبب حرص على جلبها من الأسواق الأخرى، سواء أكان ذلك من الداخل أم الخارج، فيمنع بذلك الغلاء الفاحش الخارج عن مسألة العرض والطلب والمنافسة الصحيحة.

… نظام يسعى باستمرار لرفع مستوى الناس الاقتصادي فيؤمّن الحاجات الأساسية لجميع أفراد الرعية؛ فرداً فرداً دون استثناء، ويسعى لرفع مستوى الناس في الحاجات الكمالية كذلك بأقصى قدرٍ مستطاع، ويعمل على إيجاد سياسة من التوازن الاقتصادي بين أفراد الرعية، بحيث لا يشعر البعض بالحرمان من الحاجات الكمالية وبحبوحة العيش؛ فيعيش أناسٌ في القصور الفارهة، وأناس عند حد الحاجات الأساسية فقط، أو لا يحصّلونها!!

إن هذه  المعالجات ليست خيالاً وإنما هي فكر يعالج واقعاً، وقد طبقت بالفعل في التاريخ الإسلامي في عهد الخلافة الإسلامية.

ففي عهد الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، عمّ العدل الاقتصادي جميع أفراد المجتمع، ونَعِم الناس بتوفر السلع والخدمات للجميع، لدرجة أن الأموال من الزكاة لم تجد من يأخذها، حيث قُضِيَ على الفقر نهائياً.

وسيعود هذا الأمر مرة أخرى كما ذكر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الحديث الصحيح: «سيكون في آخر الزمان خليفةٌ يحثو المال حثواً ولا يعده عداً» كنـز العمال.

إن هذا النظام بهذه المواصفات السامية يكون فقط عندما يُحكّمُ الناسُ شريعةَ ربهم عزّ وجل في ظلّ سلطان الإسلام؛ عندما تصبح جميع بلاد المسلمين بلداً واحداً، ويُقضى على هذه الأنظمة العميلة للكفار، وتعود الأمة الإسلامية خير أمة أخرجت للناس على وجه الأرض سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، فتكون كما وصفها ربها جل جلاله بقوله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ ءَامَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ).

نسأله تعالى أن يمنّ على المسلمين بنظامٍ عادلٍ مستقيمٍ عمّا قريب، آمين يا رب العالمين.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *