العدد 260 -

العدد 260- السنة الثالثة والعشرون، رمضان 1429هـ، الموافق أيلول 2008م

الاعتدال الإسلامي على الطريقة الغربية (4): المبدأ الإسلامي نظام كامل صالح كما أنزل لكل زمان ومكان

الاعتدال الإسلامي على الطريقة الغربية (4):

المبدأ الإسلامي نظام كامل صالح كما أنزل لكل زمان ومكان

 

لقد عقدنا في المقال السابق (3) من هذه السلسلة مقارنة بين الإسلام والفكر الغربي الرأسمالي، بيّنا فيها أن كلاً منهما مبدأ، وأنهما مبدآن متناقضان من حيث الأساس الذي قام عليه كل منهما، ومن حيث كل ما تفرع عنهما. وسنحاول في هذا المقال استخلاص بعض النتائج الموضوعية من هذه المقارنة، وعرضها بشكل يجعلها تتميز عن بعضها، ما يمنع السحرة من الغرب وأتباعهم الفكريين من الحركات الإسلامية المعتدلة على طريقته أن يلبسوا الحق بالباطل. ومن هذه النتائج:

1- إن كلاً من المبدأ الإسلامي والمبدأ الغربي هو مشروع كامل متكامل للحياة، وهو مرتبط ببعضه البعض، ويشد بعضه بعضاً، ويشكل مع بعضه نسيجاً واحداً، وبالتالي فإما أن يؤخذ كله أو يترك كله، وكان ذلك واضحاً في ثنايا البحث. فكل من المبدأين يقوم على أساس، ومن جنس هذا الأساس انبثقت سائر الأفكار والمفاهيم والمقاييس والأنظمة؛ فكان لونها من لونه، ولا يمكن أخذ بعضها وترك بعض. فعندما قلنا إن الأساس في الإسلام يقوم على عقيدة (لا إله إلا الله محمد رسول الله) أي لا خالق ولا معبود ولا مدبر إلا الله، وجدنا أنه نشأ لدى المؤمن بهذا وجهة نظر في الحياة تقوم على التقيد بأوامر الله ونواهيه، وتقوم على مقياس الحلال والحرام في أعماله، وصار المسلم ينظر إلى الحياة أنها ممر للآخرة، وصارت السعادة عنده أن ينال رضى الله بطاعته وحسن عبادته، ووجدنا أن أنظمة الحياة عنده هي أحكام شرعية من الله، ووجدنا أن الدولة الإسلامية هي جزء جوهري من الإسلام أنيط بها تطبيقه في الداخل وحمله إلى الخارج عن طريق الدعوة والجهاد. وبهذا يكون المبدأ الإسلامي قائم على أفكار ومفاهيم ومقاييس تخرج كلها من مشكاة واحدة هي مشكاة العقيدة الإسلامية.

وهذا الذي نراه في المبدأ الإسلامي، هو نفسه ما نراه في المبدأ الغربي. فإنه لما كان قائماً على أساس (فصل الدين عن الحياة) بمعنى أن الإنسان في هذه الحياة هو سيّد نفسه، ويختار نظامه بملء إرادته، والإيمان بالخالق، سواء أكان الله أم غيره عندهم، يجب أن يكون إيماناً خاصاً لا يتجاوز صاحبه، وأن لا يكون له أي تأثير في نظام الحياة. وبناء على ذلك كان المشرع للحياة هو الشعب حصراً، وكانت وجهة النظر عنده هي أن يسير الإنسان فيها بشكل يؤمن مصالحه المادية، وسعادته تتحقق بالانغماس بالشهوات واللذات، وحتى يتحقق له ذلك كان لابد من تأمين الحريات العامة الأربع (الشخصية والعقيدة والرأي والتملك) للأفراد؛ حتى يستطيعوا بمجموعهم أن يمارسوا سيادتهم في التشريع عن طريق ما يسمى عندهم بالعملية الديمقراطية القائمة على الأكثرية، ثم إننا وجدنا أن حرية التملك كان لها الأثر الأكبر في صبغ هذا المبدأ بصبغتها في الداخل والخارج، حيث أنشأت طبقة الرأسماليين، وكان الرأسماليون هم الحكام الحقيقيون عندهم الذين يطبقون المبدأ بما يحقق مصالحهم، ويحملونه إلى الخارج بطريقة ظاهرها الدعوة إلى أفكارهم (الديمقراطية والحريات…) وإلى طريقة الحياة القائمة على الأنانية المفرطة والانغماس في الشهوات، وباطنها الاستعمار ونهب خيرات الشعوب…

هذا التسلسل لدى كل من هذين المبدئين لا يقبل أصحابه أبداً الإخلال به. وبهذا يظهر لكل منصف من أي الفريقين كان أن عملية التهجين أو التلاقح الحضاري غير صحيح. فإما المبدأ الإسلامي أو المبدأ الغربي أو مبدأ ثالث إذا لم تتوافر في المبدأين الأولين الصحة. وفكرة التهجين وتفاعل الحضارات لا يلجأ إليها إلا أصحاب المبدأ الخاطئ، وهو إعلان استسلام بطريقة من الطرق. وهذا ما يفعله هؤلاء المعتدلون من العلماء والحركات الإسلامية، المترخصون على حساب الدين. فهؤلاء يقبلون على طريقتهم أن يقولوا (لا إله إلا الله محمد رسول الله) ثم يأخذون نظامهم من عند غير الله، بحجة أن المصلحة مبتغى شرعي وطريقها عقلي. إنهم بقولهم هذا يعلنون انهزامهم أمام الغرب وتثبيت مقولته القائمة على (فصل الدين عن الحياة). وهذا الانهزام نسجله عليهم لا على الإسلام الدين الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وبسبب هذا التقارب بين الغرب وهؤلاء فإننا نراهم في صف واحد، ويرمون المسلمين المبدئيين من قوس واحدة، وكفى بهذا شاهداً على انحراف تفكيرهم.

2- يتبين من خلال المقارنة السابقة أن الأفكار العليا في كل من المبدأ الإسلامي والرأسمالي هي العقيدة التي تأتي في المرتبة الأولى في الأهمية، فهي الفكر الأساسي التي يرتكز عليها كل شيء في الحياة، ثم يليها منبثقاً منها فكر المفهوم عن الحياة، ثم يليها كيفية انبثاق أنظمة الحياة عن العقيدة، ومن ثم طريقة تطبيق المبدأ والمحافظة عليه ونشره… مثل هذه الأفكار تحدد شخصية الأمة المبدئية وهويتها الثقافية وبها تعرف؛ لذلك فهي تنـزلها منـزلتها الكبرى، وتحرص على ترسيخها بين أهلها وإظهارها وحمل لوائها للآخرين… ومثل هذه الأفكار تمنع الأمة المبدئية من أن يتسرب إليها أي خلل، وتعاملها معاملة القضايا المصيرية في المحافظة عليها. وبالخلاصة تعتبر هذه الأفكار وخاصة العقيدة، هي قدس الأقداس عند أي أمة مبدئية، وتعتبر نفسها بخير مادامت محافظة عليها… ومثل هذه الأفكار العليا إذا أراد العدو أن يضرب الأمة المبدئية ويقضي عليها فإنما يبدأ بها… وهذا ما فعله الغرب مع الإسلام والمسلمين، وأعوانه في ذلك كان أولئك الذين يسمون أنفسهم ويسميهم الغرب المسلمين المعتدلين. أولئك الذين يفهمون الإسلام على الطريقة الغربية في فهم الدين، يفهمونه عقيدة روحية منفصلة عن الواقع بنسبة 90% تحت حجة أنها منطقة عفو متروك للمسلمين أن يملؤوها من عندهم بما يحقق مصالحهم بحجة أن الشرع جاء لمصالح العباد، مخترعين قاعدة أسموها شرعية، وهي ليست من الشرع في شيء، وهذه القاعدة تقول: «حيثما تكون المصلحة فثم شرع الله» وهذه القاعدة مع غيرها مما اخترعوه يشير بوضوح إلى التبعية الفكرية لدى هؤلاء للغرب. وهذه القاعدة هي تماماً على عكس ما جاء به الشرع الذي تقول قاعدته: (حيثما يكن الشرع تكن المصلحة). وهكذا تبدلت طريقة فهم الدين عند هؤلاء فيما يعتبر غزواً فكرياً لهؤلاء المعتدلين.

نعم لقد اتخذ الغرب الذي يخوض مع المسلمين صراع حضارات، ومعركة قيم، وحرب عقول، كما صرح بذلك مختلف مسؤوليه، اتخذ من هؤلاء الإسلاميين المعتدلين رأس حربة له في هذا الصراع، وهو يولي لدورهم الذي رسمه لهم كثيراً من الاهتمام؛ لذلك نرى أنه يقود مسيرتهم ويرعى اجتماعاتهم ويمولها عن طريق ما يسمى جمعيات أممية (أي تابعة للأمم المتحدة) حيث يدعى إليها العشرات من هؤلاء إلى بلد معين، وفي أحيان المئات، وينـزلون في أفخم الفنادق، وتؤمن لهم تأشيرات السفر وسائر التكاليف المالية، وتكون كلها على علم وعين الدول المضيفة للمؤتمرات واهتمام سفاراتها واستخباراتها… ولعل عناوين هذه المؤتمرات وقراراتها أكبر مؤشر على تبعية هؤلاء الفكرية للغرب من حيث توافقها التام مع تصريحات كبار السياسيين الغربيين، وتوصيات مؤسسات الفكر البحثية الغربية. حيث يلتقي سم التصريحات والتوصيات مع دسم هؤلاء العلماء لتخرج منها خلطة الاعتدال المزعوم.

3- إن الأساس في كل من المبدأين الإسلامي والرأسمالي يجب أن يكون ثابتاً راسخاً لا يقبل أي خروج عنه، يقينياً جازماً لا يدخله أدنى ريب. فالفكر القائم على (فصل الدين عن الحياة) إنما يقوم على فكرة قطعية لا تقبل التحريف ولا التأويل وهي الاعتراف بوجود الدين، بغض النظر عما يكون هذا الدين، وأنه لا دخل له بالتشريع للحياة أبداً. وأن الشعب هو المشرع حصراً وليس غيره، فهذا هو الثابت الذي لا يتغير عندهم ولا يقبل المس به، وكذلك الإسلام القائم على الإيمان بـ(لا إله إلا الله محمد رسول الله) فهو إنما يقوم على فكرة قطعية لا تقبل أي مس بها، وهي الإيمان بالله وحده أنه الخالق والمشرع لكل شؤون الحياة. فعندما يطرح الغرب عن طريق ما يسمى بالحركات الإسلامية المعتدلة عقيدة الإسلام كعقيدة روحية فقط، منفصلة عن الحياة وتسييرها بأمر الله، فهذا في حقيقته تغيير لحقيقة الإسلام ومس لجوهره، وهو يحول ويغير الإسلام إلى ما يقوم عليه الفكر الغربي تماماً من فصل للدين عن الحياة، ويتبع هذا التغيير تغيير آخر وهو أن يترك المسلم بحسب هذه الدعوة الشائنة أحكام الله المتعلقة بتنظيم شؤون الحياة ويأخذ بدلاً منها أحكاماً أخرى من عنده بحسب ما يرى أنها تحقق مصلحته، وهو في هذا يوافق الغرب في النظر إلى المصلحة. ونتيجة لهذا التغيير نجد أنفسنا أمام نسخة جديدة من الإسلام وهي:

1- تبقى للإسلام عقيدته القائمة على الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر كعقيدة روحية فقط وينسلخ منها تأثيرها في الحياة. أي تسلخ من الإسلام أنظمة الحياة والدولة الإسلامية التي تطبقها في الداخل وتحملها إلى الخارج.

2- تسيَّر حياة المسلم بعيداً عن عقيدته بنسبة 90% (نسبة تقريبية) وهي نفسها مساحة العفو أي الفراغ في التشريع بحسب زعم المعتدلين.

3- يترك للمسلم 10% يمارسها بحسب دينه، أي بتأثير العقيدة، وهي ما يتعلق بالعبادات والأخلاق والمطعومات والملبوسات (وهو تماماً ما يسمح الغرب بوجوده بحسب مبدئه).

لذلك كان وراء هذه الدعوة، من هذه الزاوية، تغيير للدين، يجعل أصحابه على خطر عظيم، ولولا أن عندهم تأويلاً لكان في كلامهم خروج عن الدين. والنصيحة التي تساق لهم أن اخرجوا بسرعة مما دخلتم فيه من هذا الكلام الخطير، وإلا فإنكم غير معذورين.

إننا حين نجد التناقض الصارخ بين المبدئين الإسلامي والرأسمالي، فمن الطبيعي، بل من اللازم أن ينشأ صراع حضاري بين أتباعهما، يطرح فيه كل منهما فكره على أنه الحق الذي يجب أن يسود ويتبع وينتشر، ويسعى إلى إيجاده لتطبيقه ونشره، وأن فكر غيره هو الباطل الذي يجب أن يزهق ويقضى على شروره. فالمسألة هنا إما حق وإما باطل، ولا حل وسط بينهما. فكيف يقبل مسلم يقطع أن عقيدته هي الحق أن يتخلى عن جزء منها لمصلحة جزء يرى فيه أنه شر؟! وكذلك الغربي هل يقبل أن يتخلى عن أساسيات في مبدئه لأمر لا يراه صحيحاً؟! لذلك كان من أخطر ما يواجه أصحاب المبادئ في هذا المجال التمييع الفكري من مثل أفكار الحل الوسط، أو أخذ ما يوافق الحق، أو ما لا يخالفه، فكله غير الحق وكله باطل، وكذلك كان من أخطر ما يواجه المبادئ الصحيحة هو تجاوب أصحابها مع هذه الدعوات. وهذا ما طرحه الغرب، وهذا ما تجاوب معه للأسف هؤلاء الإسلاميون المعتدلون المستقيمون على طريقته الذين تبنوا كل طروحاته، يقولون ما يقول لهم الغرب كما تقول الببغاء. فالإسلاميون المعتدلون بعد أن سمحوا لأنفسهم، من عند أنفسهم، أن يملؤوا فراغ ما نسبته 90% من الشرع راحوا بكل عدم مسؤولية وقلة مخافة من الله يقولون بمقولات الغرب في الديمقراطية، وجواز وصول المرأة إلى الحكم، وكذلك الكافر، وقالوا إن الخلافة ليست شكلاً ثابتاً للحكم في الإسلام، والقائمة تطول… فظهر هؤلاء الدعاة أنهم دعاة للغرب.

وهنا قد تظهر مسائل عدة متعلقة بموضوع صراع الحضارات لا بأس بذكرها حتى لا يبقى الغموض ذريعة لأمثال هؤلاء تبقيهم على مقولاتهم.

– قد يقال كل المبادئ تدعو إلى الخير والمحبة ونشر السلام والعدل وإحقاق الحق؛ وعليه فيمكن اللقاء معهم. فهؤلاء يقال لهم إن الأصل في فطرة الإنسان محبة الخير والحق والسعي إليهما، وبغض الشر والباطل والسعي إلى منعهما. هذا من حيث الفطرة والمنطلق ولكن عند البحث الفكري عن ذلك يخطئ أصحاب هذا المبدأ أو ذاك في معرفة المبدأ الصحيح ويتوصل إلى الباطل وهو يظن أنه الحق ويدعو إليه. فيكون بذلك لا يدعو إلى الخير بل إلى الباطل وبالتالي لا يمكن اللقاء معه من أجل الاستفادة منه، بل من أجل دحضه وإزهاق ما عنده.

– قد يقال إن الدعوة إلى الحوار تناقض الصراع الحضاري، فالجواب هو على العكس، إن الصراع الفكري يقوم على بيان الحجة والبرهان، وبيان فساد الفكر الآخر، ففيه إثبات للفكر ونفي للباطل من كلا الفريقين. وهذا لا بد له من حوار.

– قد يقال جميل أن يكون هناك تفاعل حضاري أو تلاقح حضاري بين مبدئين بحيث يستفيد أحدهما من الآخر. فإلى هؤلاء نقول إن ذلك هو من قبيل الأفكار التمييعية التي يستهدف بها أصحاب المبدأ الخاطئ المبدأ الصحيح، وهو طريق من الطرق الملتوية التي تؤدي إلى تخلي المبدأ الصحيح عن بعض ما عنده، أو تؤدي إلى وجود التغشية في المبدأ الصحيح بينما الأصل تنقيته وتصفيته من كل دخيل، وهو قول يتناسب مع الفكر الغربي لأنه باطل ولا يضره ذلك، بينما يتعارض مع الإسلام لأنه المبدأ الصحيح الذي كلما كان نقياً كان قوياً.

4- إن الذي يحدد شكل النظام في كل من المبدأ الإسلامي والرأسمالي هو العقيدة، فالنظام يكون من جنس العقيدة من لونها ومن نسيجها. فالعقيدة الإسلامية مثلاً تقوم على أن الله سبحانه هو وحده الخالق المشرع؛ لذلك كان النظام من الله، وكان هذا من مقتضيات الإيمان ولزومياته؛ ولذلك يجب أن لا يقبل أن يناقِش غيره ولا يناقَش من غيره بالنظام الذي آمن به. وكذلك الأمر في المبدأ الرأسمالي فإن عقيدته أملت عليه أن عملية التشريع هي لأكثرية الشعب بغض النظر عما إذا وافق الفرد منهم على ما يشرعه المجموع أم لم يوافق، فعليه أن يلتزم به. وعملية التشريع عندهم تنطلق عند الأكثرية من القناعة بتحري المصلحة المادية. فما رآه المجموع بأكثريته أنه مصلحة التزم به الجميع، ولكم وجد الأفراد أن كثيراً من القوانين ليست صحيحة أو كانوا يعارضونها، ولكن معارضتهم لها غير فاعلة طالما أن وراءها إرادة المجموع بأكثريته.

ومن هنا فإنه لما اختلف المنطلق في التشريع بين المبدأين كانت صور القوانين مختلفة بينهما. وبناء عليه فالأصل أن لا تجري مناقشات بين أصحاب المبدأين حول الأنظمة والقوانين أيهما أصح، فهذه طريقة غير صحيحة، طريقة لا تأتي البيوت من أبوابها، طريقة غير مجدية ولا موصلة إلى النتائج التي يرمون إليها، بل على العكس فيها تمييع للأفكار وتقليل من جانب العقيدة التي كانت السبب في وجودها على هذا الشكل، كذلك فإننا نكون قد قبلنا وجود مقياس مشترك هو غير مقياسنا الشرعي، وهذا حرام، وإذا اقتصر كل من المتحاورين والمتناقشين على مقياسه فإن النقاش سيكون عقيماً، إلا إذا تحول إلى مناقشة المقياس بحد ذاته، ومن ثم تحول بشكل لازم إلى مناقشة الأساس، فهذا هو النقاش الصحيح.

فقبل المناقشة في الفروع لا بد من أرضية مشتركة ينطلق منها النقاش، وهذه لا يمكن تحققها إلا بالمناقشة الجذرية التي تبدأ بالعقيدة. فإذا تغيرت العقيدة من الطبيعي بل من اللازم أن يتغير معها ما تعلق بها.

وهنا نجد أن الإسلاميين المعتدلين كثيراً ما يخوضون النقاشات في الفرعيات من منطلق مشترك وهو الوصول إلى النظام الصحيح على أساس المصلحة لنفس السبب الذي ذكرناه من قبل، وهو أن الشرع قد ترك منطقة عفو تشمل 90% من النظام. وأن هذه متروكة للمسلمين… لذلك نرى أنهم كثيراً ما يخلصون إلى نتائج مشتركة من مثل: المرتد لا يقتل، والزاني لا يجلد أو يرجم، والسارق لا تقطع يده، بحجة أن العقوبات الأصل فيها أن تزجر، فكل ما يحقق الزجر من عقوبات يمكن أن يقبله الشرع. وتصبح الخلافة ليست حكماً شرعياً بل حكم تاريخي، ويصبح عندهم أنه يحق للمرأة تولي المناصب العامة في الحكم وكذلك لغير المسلم… وهكذا نرى أن الدين يتبدل مع هؤلاء تحت حجج واهية غير شرعية ولا يقرها الشرع، بل يقف ضدها. فمن هو المنتصر في ذلك؟ وهل تساهُل هؤلاء بذريعة إظهار أن الإسلام مرن متطور يراعي تغير الحياة كما يقول الغرب، هو جائز شرعاً؟… بينما الحق أن لا يقبل النقاش إلا بالأساس، ثم يليه المقياس، ثم يليه قبول النظام من غير نقاش.

5- إن المبدأ الإسلامي هو مبدأ من الله تعالى، وحقائقه فيما يتعلق بعقيدته وأنظمته للحياة ثابتة؛ لأنها من لدن الخالق، فما حكم به فهو صالح للإنسان كإنسان إلى يوم القيامة، ولا يجوز أن يتطرق إلى ذهن المسلم أنها أحكام متغيرة. فنظرة الرجل للمرأة والمرأة للرجل والعلاقة بينهما خاضعة لأحكام شرعية لا تتغير، والتصرفات المالية للمسلم أحكام شرعية لا تتغير وعلاقة المسلم بربه من عقيدة، وعبادات، هي ثابتة لا تتغير، ولا تتغير أحكام مطعوماته ولا ملبوساته ولا أحكام العقوبات ولا المعاملات… فحلال الله ورسوله وحرامهما فإلى قيام الساعة. بينما يقوم المبدأ الغربي على النقيض من ذلك، فإن أنظمة الحياة فيه متغيرة وغير ثابتة، وذلك لسبب واضح وبسيط وهو أن الذي يشرع عندهم هو الإنسان وليس الله. والإنسان بحد ذاته عاجز وناقص ومحدود ويتأثر بالبيئة وتختلف أحكامه وتشريعاته، وفي أحيان تتناقض… والغربي يعتبر ما يتوصل إليه من قوانين وتشريعات غير نهائي؛ ذلك أنه عندما يشرع لا يستطيع أن يشرع التشريع الصحيح. وسيلجأ إلى تغييره بعد فترة من الزمن بعد أن يظهر له فساده، ولكنه يغطي قصوره هذا وعجزه بالقول إنه تطور؛ لذلك نجد فكرة ضرورة تغير الأنظمة ونسبية الحق من الأمور الراسخة عندهم، بخلاف ما عند المسلمين، والسبب كما قلنا هو مصدر القوانين والأنظمة بين أن يكون الله الخالق العليم الخبير وبين أن يكون الإنسان المحدود العاجز…

والآن كيف يتعامل المسلم المعتدل والمستقيم على الطريقة الغربية مع هذا الأمر؟

فبالنسبة للعقيدة، ولما تركه لنفسه من العبادات والمطعومات والملبوسات والأخلاق والتي أعطاها نسبة 10% من التشريع فقد تعامل معها كحقائق ثابتة لا تتغير. أما أنظمة الحياة التي قال عنها إنها تشكل 90% من الأحكام الشرعية فإنه سار فيها تماماً كما سار الغربي في التعامل معها مغطياً تصرفه هذا بقاعدة لا شرعية تقول: (لا ينكر تغير الأحكام بتغير الزمان والمكان) بمعنى أن تغير كل من الزمان والمكان وحده كفيل بأن يغير الحكم، وهذا لا يجوز شرعاً… بل حكم الله يبقى هو هو لا يتغير منذ نزول الوحي وحتى قيام الساعة.

[يتبع]

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *