العدد 128 -

السنة الحادية عشرة – رمضان 1418 – كانون الثاني 1998م

فتنة ابن السوداء

بقلم: عبد الرحمن العقبي

محرك هذه الفتنة هو عبد الله بن سبأ الملقب بابن السوداء، ذكر عنه ابن عساكر أنه “كان يهودياً من أهل صنعاء، من أَمَةٍ سوداء، فأسلم زمن عثمان، بن عفان ثم تنقل في بلاد المسلمين يحاول ضلالتهم، فبدأ بالحجاز ثم بالبصرة ثم الكوفة ثم الشام، فلم يقدر على ما يريد عند أحد من أهل الشام، فأخرجوه حتى أتى مصر فاعتمر فيهم …”.

وكان من طريقته في إذكاء الفتنة ما يلي:

أولاً: الطعن على الأمراء:

فقد نقل ابن عساكر على لسان ابن السوداء يوصي أتباعه: “وابدأوا بالطعن على أمرائكم …” ثم أخذوا بالتنفيذ على وجه ذكره ابن عساكر فقال: “… وجعلوا يكتبون إلى الأمصار بكتب يضعونها، في عيوب ولاتهم، ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك، فكتب أهل كل مصر منهم إلى أهل مصر آخر بما يصنعون، فيقرؤه أولئك في أمصارهم، وهؤلاء في أمصارهم، حتى تناولوا بذلك المدينة، وأوسعوا الأرض إذاعة، وهم يريدون غير ما يظهرون، ويسرون غير ما يوردون”، فيقول أهل كل مصر: “إنا لفي عافية مما ابتلي به هؤلاء إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع أهل الأمصار، فقالوا إنا لفي عافية مما الناس فيه”.

وكان من طعنهم على أمرائهم أن ركزوا على أمور:

منها: التشكيك في أماناتهم على الأموال: فقد أورد ابن عساكر أن ابن السوداء “قال لهم بعد ذلك: إن عثمان قد جمع أموالاً أخذها بغير حقها…” وأورد أيضاً “… فطعن على عمرو بن العاص وقال: ما باله أكثركم عطاءً ورزقاً…”، وزعم أن عثمان رضي الله عنه أعطى أقرباءه فرد عليهم عثمان بقوله: “إني أحب أهل بيتي وأعطيهم… وأما إعطاؤهم فإني إنما أعطيهم من مالي، ولا أستحل أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس…” وقال أي عثمان: “إن أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء الله عليه وغني إنما نفلته خمس ما أفاء الله عليه من الخمس فكان مئة ألف، وقد نفل مثل ذلك أبو بكر وعمر، فزعم الجند أنهم يكرهون ذلك فرددته عليهم، وليس ذلك، أكذاك؟ فقالوا نعم”. “وعن ابن شهاب قال: قال سالم بن عبد الله: إن عبد الله ابن عمر قال: جاءني رجل من الأنصار في خلافة عثمان، فإذا هو يأمرني في كلامه أن أعيب على عثمان، فتكلم كلاماً طويلاً، وهو أمرؤ في كلامه ثقل، فلم يكد يقضي كلامه في سريع، فلما قضى كلامه قلت له: إنا كنا نقول ورسول الله صلى الله عليه وسلم حي: افضل أمة محمد صلى الله عليه وسلم بعده أبو بكر ثم عمر ثم عثمان، وإنا والله ما نعلم عثمان قتل نفساً بغير حق، ولا جاء من الكبائر شيئاً، ولكنه هو هذا المال، إن أعطاكموه رضيتم، وإن أعطاه لأولي قرابته سخطتم، إنما يريدون أن تكونوا كفارس والروم ولا يتركون لهم أميراً إلا قتلوه، ففاضت عيناه بأربعة من الدمع ثم قال: اللهم لا نريد ذلك”.

ومنها: التشكيك بقدرتهم على إحسان ما أسند إليهم من أعمال، وذلك للتخلص من الأمراء الأقوياء، كعمرو بن العاص، بإثبات أن خراج مصر انكسر في عهده. ووضع لهم ابن السوداء خطة لذلك ذكرها ابن عساكر على لسان رأس الفتنة فكتب: “فقال: عليكم ناب العرب وحجرهم، ولسنا من رجاله، فأروه أنكم تزرعون ولا تزرعون العام شيئاً حتى ينكسر مصر فتشكونه، فيعزل عنكم”.

ومنها: اتهامهم بالمخالفات الشرعية فزعموا أن عثمان أتم الصلاة في السفر، وأنه حمى الحمى، وأنه بعد أن كان القرآن كتباً تركها إلا واحداً، حتى تجرأ بعضهم على عثمان وكان خرج يخطب الناس يوم جمعة فقام إليه أحدهم فقال: “أسألك كتاب الله فقال ويحك، أليس معك كتاب الله؟”، وفي رواية “فقال عثمان: أوما لكتاب الله طالب غيرك؟”. وعنوا بهذا أن عثمان ضيع كتاب الله عندما جمعه على مصحف واحد وحرق غيره.

ثانياً: الكذب في الدعاوة:

روى ابن عساكر عن الشعبي قال: “أول من كذب عبدُ الله بنُ سبأ”. وعن عمار الدهني قال: سمعت أبا الطفيل يقول: “رأيت المسيب ابن نجبة أتى به ملبِّبه -يعني ابن السوداء -وعلي على المنبر فقال علي: ما شأنه؟ فقال: يكذب على الله وعلى رسوله”. وروى أيضاً: “قالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس ثم نرجع إليهم ونزعم لهم أنا قد قررناه بها، فلم يخرج منها، ولم يتب، ثم نخرج كأنا حجاج، حتى نقدم فنحيط به فنخلعه، فإن أبى قتلناه، فكانت إياها”.

ثالثاً: إخفاء النوايا وجعلها سراً إلا على من يستجيب لهم:

قال ابن عساكر: “ودعوا في السرِّ إلى ما عليه رأيهم، وأظهروا الأمر بالمعروف” وروى عن سعيد بن العاص أنه قال: “هذا الأمر مصنوع يصنع في السر، فيلقى به غير المعرفة، فيخبر به فيتحدث به الناس في مجالسهم…”، حتى استطاعوا أن يخفوا أمرهم عن رجل مثل عمرو بن العاص ويثبتوا أن خراج مصر كسر في عهده. وقد اعترف عمرو بأنه لا يدري من أين أُتي، قال ابن عساكر: “… فلما قدم عمرو على عثمان قال: ما شأنك يا أبا عبد الله؟ قال: والله يا أمير المؤمنين ما كنت منذ وليتهم أجمع أمراً ولا رأياً مني منذ كرهوني، وما أدري من أين أُتيت…” وإذا كان الأمر مع عمرو كذلك فمن باب أولى أنهم لبَّسوا على العوام وضللوهم.

رابعاً: الإكثار من عدد المحاسبين للأمير في موضوع واحد:

ففي خبر من قال لعثمان وهو يخطب: أسألك كتاب الله، يقول ابن عساكر: “… ثم قام رجل فنهاه، وقام آخر، وقام آخر، وقام آخر، حتى كثروا…”

خامساً: المطالبة بعزل الولاة:

قال ابن عساكر: “… فدخل الرجلان فلقوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وطلحة والزبير وعلياً، وقالوا: إنما نؤم هذا البيت، ونستعفي هذا الوالي من بعض عمالنا، ما جئنا إلا لذلك، واستأذنوهم للناس للدخول، فكلهم أبى ونهى وقال: بيضٌ ما تفرَّخن. فرجعا إليهم”. وعلى طريقتهم ونهجهم في الإكثار من عدد المحاسبين كذلك أكثروا من عدد المطالبين بالعزل، يروي ابن عساكر في موضوع عزل عمرو عن مصر “… ثم إنهم خرجوا، أو من شاء الله منهم، وشكوا عمراً واستعفوا منه، وكلما نهنه عثمان عن عمرو قوماً وسكنهم وأرضاهم وقال: إنما هو أمين، انبعث آخرون بشيء آخر، وكلهم يطلب عبد الله بن سعد بن أبي سرح فقال لهم عثمان: أما عمرو فسننزعه عنكم إلى ما زعمتم أنه أفسد، وأما الحرب فسنقره عليها ونولي من سألتم، فولى عبد الله بن سعد خراجهم خراج مصر، وترك عمراً على صلاتها…”.

سادساً: تقصد ذوي الإحن على الأمراء، والطامعين في الإمرة:

فعمار كان غاضباً من عثمان وسبب غضبه كما روى ابن عساكر عن سعيد بن المسيب أنه سئل عن ذلك فقال: “… كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي لهب كلام فضربهما عثمان، فأورث ذلك بين آل عمار وآل عتبة شراً…” وظل عثمان واثقاً بعمار بحيث أرسله إلى مصر ليرجع إليه بأخبار الناس فأبطأ، وظهر فيما بعد أنهم استحالوه وخلع عثمان، وأصر على الخلع وصرح به لسعد قائلاً: “خلعت عثمان كما خلعت عمامتي هذه” فقال سعد: “إنا لله وإنا إليه راجعون، ويحك حين كبر سنك، ورق عظمك ونفد عمرك فلم يبق منك إلا ظمء كظمء الحمار خلعت ربقة الإسلام من عنقك…” وأما من كان طامعاً في الإمرة فمحمد بن أبي حذيفة، فقد ذكر ابن عساكر: “إن سائلاً سأل سعيد بن المسيب عن محمد بن أبي حذيفة ما دعاه إلى الخروج على عثمان قال: كان يتيماً في حجر عثمان وكان عثمان والي أيتام أهل بيته ويحتمل كلهم، فسأل عثمان العمل حين ولي، فقال يا بني لو كنت رضىً ثم سألتني عن العمل لأكفيتك -وفي رواية لاستعملتك- لا ولست هناك، قال فأذن لي  فلأخرج فلأطلب ما يقوتني، قال اذهب حيث أحببت، وجهزه من عنده وحمله وأعطاه، فلما وقع أمره فيمن يعين عليه أن منعه الإمارة”. وأما محمد بن أبي بكر فكان سبب خروجه على عثمان فيما يرويه ابن عساكر عن مبشر قال: “سألت سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر ما دعاه إلى ركوب عثمان؟ فقال الغضب والطمع. فقلت: ما الغضب والطمع؟ قال: كان من الإسلام بالمكان الذي هو به وغرّه أقوام فطمع، وكانت له دالّة، ولزمه حق فأخذه عثمان من ظهره، ولم يدهن، فاجتمع هذا إلى هذا فصار مذمماً بعد أن كان محمداً”.

هذه الأساليب الستة استعملها ابن السوداء وأتباعه حتى حققوا هدفهم وقتلوا خليفة المسلمين، وكان قال لهم: “يا أيها الناس لا تقتلوني واستثبتوني فوالله لئن قتلتموني لا تصلون جميعاً أبداً، ولا تجاهدون عدواً جميعاً أبداً ولتختلفن حتى تصيروا هكذا وشبك بين أصابعه”، وفي كتابه لأهل الشام: “فإنكم لن تجدوا أمة من الناس هلكت إلا من بعد أن تختلف، فلا يكون لها رأس يجمعها…”

وأوصى أبا قتاده وكان سأله: “يا أمير المؤمنين إن كان من أمرك كون فما تأمرنا؟ قال: أنظر ما اجتمعت عليه أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإن الله لا يجمعهم على ضلالة كونوا مع الجماعة حيث كانت” وعن عبد الله بن سلام قال: “لما حضر تشحط عثمان في الموت حين ضربه أبو رومان الأصبحي، ماذا كان قول عثمان وهو يتشحط”؟ قالوا سمعناه يقول: “اللهم اجمع أمة محمد – ثلاثاً -“.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *