العدد 129 -

السنة الحادية عشرة – شوال 1418 – شباط 1998م

سياسة الاحتواء (6) السياسة الأمريكية واحتواء روسيا والسيطرة عليها

سياسة الاحتواء (6) السياسة الأمريكية واحتواء

روسيا والسيطرة عليها

بقلم سعيد عبد الرحيم

إن الولايات المتحدة كدولة عظمى في المسرح العالمي, لم تتسلم هذا المركز العالمي المؤثر والمرموق في حياة السياسة, بفضل سياسات الاحتواء فقط, وهي السياسات الدفاعية, التي تأثرت بها عن طريق الإنجليز, وخصوصاً حين أدركت النجاح الإنجليزي الباهر في هذه السياسات, ولمست المهارة الفائقة لديهم في حسن تنفيذها ورسمها, بسبب ما لديهم من السجايا الأزمة لذلك: من الصبر وحسن التأتي للأمور والذكاء وسعة الحلية ونحو ذلك من السجايا والصفات المتوفرة في الشعب الإنجليزي: وهذه السياسات تفتقر لعناصر المبادرة والمواجهة. وحقيقة الحال للسياسة الأمريكية وسياسة الدول المؤثرة عالمياً, إن هذه الدول تتسلم المراكز الدولية المثيرة والمؤثرة عن طريق تنفيذ ورسم سياسات شاملة ومترابطة ومتشابكة تهدف بمجموعها إلى تجسيد مصالحها وحمايتها وتبديد الأخطار المحدقة بها. وهذه السياسات تشمل كل أنواع السياسات الهجومية والدفاعية والوقائية. وبالنسبة للسياسات الأمريكية فإنها تهدف إلى بسط نفوذها وسيطرتها وهيمنتها على العالم, والحيلولة دون انعتاق دول العالم من ربقة استعمارها الخبيث, من خلال جعل هذه الدول كالفراش الذي يحوم حول نارها لحرقها.

والنار الأمريكية تتمثل بأفكارها الخطرة على كيان القوى السياسية, فعن طريق فكرة الديمقراطية والتعددية والحوار تولد أمريكا الفوضى والميوعة والصراعات الداخلية في كيان القوى السياسية, وعن طريق فكرة حقوق الإنسان تتدخل أمريكا في شؤون الداخلية للدول, وعن طريق فكرة المعونات الاقتصادية وخصخصة الاقتصاد واقتصاد السوق الحرة تهيمن أمريكا على اقتصاد وسياسة الدول وتسيطر على ثروات البلاد والعباد والدول, وعن طريق فكرة تعزيز الثقة بالدولار وقوته وعالميته ودفع الدول للإقبال عليه والاحتفاظ به, وضرب عملات الدول الأخرى وإضعاف الثقة بها وبالذهب والفضة تتمكن أمريكا من ضرب اقتصاد الدول وتحطيمها, وفي نفس الوقت تقوية اقتصادها ونهب الثروات والكنوز للدول وجعل شعوبها خدما لأمريكا, وعن طريق فكرة مكافحة الإرهاب تمارس أمريكا الضغوط على الدول وتفتعل الأزمات لها وتثير المتاعب لكيانها. وحقيقة الحال بشأن فكرة الإرهاب: إن أمريكا هي التي تمارس الإرهاب بالفعل, وهي قائدته الدولية, وتشاركها فرنسا وبريطانيا في الإرهاب الإقليمي والمحلي, وما حكام الإرهاب في آسيا وإفريقيا وأمريكا الجنوبية والوسطى وكذلك المنظمات الإرهابية وعصابات المافيا إلا ت تستخدمها الدول الغربية, وعلى رأسها أمريكا, لتحقيق الإرهاب والفوضى والقلق والنزاع في دول العالم وشعوبه. فما يجري في الجزائر من مجازر وحشية رهيبة ضد المسلمين هناك هو في الحقيقة إرهاب فرنسي ضد المسلمين, لأنهم أرادوا تجسيد الإسلام في الحياة. وما يجري داخل الاتحاد السوفيتي السابق, ومنه روسيا من فوضى واضطراب إلا بفعل الإرهاب الأمريكي, وما جرى ويجري في أمريكا اللاتينية من إرهاب لشعوبها وتمزيق إلا بفعل الولايات المتحدة, وما حدث ويحدث من إرهاب في إفريقيا وآسيا إلا بفعل الإرهاب الأمريكي والإنجليزي والفرنسي. وهكذا سائر الأفكار التي تطرحها الدول الغربية عالمياً وعلى رأسها أمريكا, كالرأسمالية, والحرية, والوطنية, وحق تقرير المصير, يراد منها تخليد الاستعمار والسيطرة على العالم. وعليه فإن أمريكا هي التي تتزعم إشعال الحرائق في العالم وتتحكم بموقعها ونوعها وزخمها وصفتها وتصنع الأزمات السياسية والاقتصادية وغيرها لدول العالم, لكي تتلهى هذه الدول بعملية إطفاء هذه الحرائق وإخماد جذوة نارها ومعالجة أثارها بصورة متواصلة ومتتابعة. وكلما انتهت هذه الدول من إطفاء حريق أو معالجة أزمة, وجدت حرائق وأزمات عديدة في انتظارها تحتم الإطفاء والمعالجة, وهكذا دواليك, كل ذلك لكي تتمكن أمريكا من إخضاع هذه الدول وشعوبها للإدارة والسيادة الأمريكية ولا تتمكن من الخروج على سيطرتها وهيمنتها, وحتى ولا التفكير بذلك.

والسياسات الأمريكية تبنى على أساس إدراك ما سيؤول إليه الوضع في بلاد العالم, وهذا الإدراك المتوقع ليس وهماً ولا تنجيماً ولا علماً بالغيب ولا ضرباً بالرمال. وإنما يقوم على تفهم دقيق للواقع السياسي في العالم، ومتابعة له, وما يطرأ عليه من تغيير وتبديل, سلباً أو إيجاباً, وتفسير هذا الواقع وفق نظرة ثاقبة, وفكر عميق, ودراسة دقيقة, واطلاع واسع, وبحسب فهم الواقع السياسي والمتوقع له, ووفق مصالحها وأهدافها ترسم أمريكا وتنفذ سياساتها الشاملة, وتعمد إلى تهيئة الظروف لها.

وأمريكا لم تتمكن من القضاء على القوة العالمية الشيوعية على الجبهتين الخارجية والداخلية, ومحو تأثيرها من الحياة السياسية عن طريق سياسات الاحتواء وحدها, لأن هذه السياسات لا تؤدي إلى ضرب الشيوعية الضربة المميتة والقاتلة, بل هي في الواقع قد ضمت سياسات أخرى عديدة وعلى رأسها سياسة المواجهة التي يتجلى فيها العراك الفكري والسياسي بفكر وعمل سياسي حاد, وبنهج مستمر ومتلاحق, وما الحرب الباردة إلا نموذج من نماذج هذه السياسة. ونجاح أمريكا في طرد الشيوعية من البيت الدولي عن طريق فخ الوفاق لم يكن ليتحقق لولا قبول الاتحاد السوفيتي الانجذاب إلى ناره, والاتحاد السوفيتي قد اخفق في طرد الرأسمالية من البيت الدولي, مع انه قد نجح في زحزحة الرأسمالية نحو الباب الدولي – بدليل قيام الولايات المتحدة بالعمل على احتواء أفكاره دولياً وإقليمياً ومحلياً- بسبب إحجامه عن بعض السياسات الفعّالة في مواجهة الاستعمار الأمريكي والمؤسسات الدولية وعدم ضربها وكشف حقيقتها وحقيقة الأفكار التي تدعو لها, وبسبب قبوله وتعايشه وتعامله مع أدوات الغرب التي سعت لاحتواء أفكاره, ولم يتقصدها بالهجوم والكشف والتعرية, وبسبب هاجسه الزائد عن الحد من الحرب العالمية ومن جيرانه.

وعليه فكان الأصل في الاتحاد السوفيتي بعد أن دخل البيت الدولي ودخلت فكرته فيه أن يعمد إلى طرد الرأسمالية منه عن طريق سياسات المواجهة الفكرية والسياسية, بغض النظر عن النتائج, بل واستبعاد التفكير بها استبعاداً كلياً, لأن مجرد التفكير بها يعني الضعف والتردد, ومن ثم التقاعس عن القيام بطردها من الحلبة الدولية. وهي وإن قطعت شوطاً لا بأس به في هذا الاتجاه إلا أنها لم تستمر به ولم تتابعه, وكان الأصل في الاتحاد السوفياتي مواجهة كل من يعمل على احتواء أفكاره بصورة مستمرة وكشفه وتعريته, وعدم التفكير في استغلاله من أجل أهداف أخرى, كفيدل كاسترو, وعبدالناصر, وهما من عملاء أمريكا, وكذلك القوى السياسية الإشتراكية في أوروبا الغربية, ومواجهة الهيئة الدولية بشكلها الموجود, والعمل على احتوائها بهيئة جديدة تقوم على أسس وأعمال وأهداف جديدة, وهذه الأخطاء قد تبعها خطأ قاتل تمثل بقبوله لفكرة التعايش السلمي وفق المفهوم الغربي. كل ذلك مكن أمريكا من النجاح في طرد الشيوعية من الحياة الدولية وإن لم تطرد الاتحاد السوفياتي منها, فهي طردت الجوهر (الفكرة الشيوعية) وأبقت الشكل (كيان الاتحاد السوفياتي) وقد كانت أمريكا قبل نجاحها في وضع صعب, وقد فشل في العديد من سياساتها, وكانت تتخبط تخبط العشواء لعدم عراقتها في السياسة الدولية, وبسبب تنسيقها مع الإنجليز في رسم سياساتها, وهم الذين كانوا ينتظرون الفرصة لتحقيق أملهم في التأثير الفعال في البيت الدولي عن طريق إشعال حرب عالمية ثالثة, ولذلك كانوا يعمدون إلى إذكاء نار الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي لجرهم للحرب, وكادوا أن يفلحوا في ذلك لولا أن أمريكا تداركت نفسها في اللحظات الأخيرة, وفصلت سياساتها عن السياسات البريطانية, وابتدعت فكرة الوفاق, واستغلت الإحساس بالخوف القوي لدى الروس من الوقوع بفخ الحرب العالمية الثالثة, واغتنمت فرصة سوء التقدير في السياسة وانعدام الصبر لدى الساسة الروس, وبذلك تمكنت من النجاح في إيقاعهم بفخ الوفاق, وحرفتهم عن المبدأ الشيوعي من ناحية دولية, فانتصرت الرأسمالية على الشيوعية دولياً وطردتها من المسرح الدولي بدون حرب كونية وإلى غير رجعة, وبهذا تمكنت أمريكا من قلب المائدة على رؤوس أعدائها ومنافسيها في اللحظات الأخيرة, وخرجت منتصرة دولياً بانتصار فكرتها الرأسمالية وتفردها بالبيت الدولي, وسحق الأخطار المحدقة بها دوليا.

وأمريكا بعد أن نجحت في الدور الأول (دور طرد الشيوعية من الوجود الدولي), عمدت إلى تهيئة الظروف للدور الثاني (دور القضاء على الشيوعية من الوجود الإقليمي والمحلي للاتحاد السوفياتي, وبالتالي القضاء على القوة العالمية الروسية بشكل تام ونهائي) وبعد أن تم لها تهيئة الظروف انتقلت إلى الدور الثاني انتقالاً طبيعياً في منتصف السبعينات, فكانت الحرب الباردة الجديدة, وباشرت سياساتها العديدة عملياً: الهجومية والدفاعية والوقائية, وساهم في نجاحها في هذا الدور وصول زعامات فارغة إلى الكرملين لا يستحقون لقب رجال الدولة, بل كانوا مطايا لتحقيق الهدف الأمريكي المتمثل بقتل الشيوعية في جحرها, وأسهموا في تهيئة الظروف داخل الاتحاد السوفياتي لتفجيره من الداخل, ولتمكين أمريكا من الانتقال إلى دورها الثالث بسرعة, وهو دور خنق روسيا من جميع الجهات وتحكم بها والسيطرة عليها والعمل على تفتيتها إن لزم الأمر, والسيطرة على الدول التي كانت تابعة لها.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *