العدد 60 -

السنة الخامسة – العدد 60 – شوال 1412هـ الموافق نيسان 1992م

حرية الرأي

بقلم: حافظ صالح

حرية الرأي تعني أن يمارس الفرد إرادته بالتصريح عن رأيه في أية مسألة وبأية وسيلة متوفرة له. سواء أكانت هذه المسألة سياسية أو عقائدية أو اقتصادية أو اجتماعية، فلا سلطان لأحد عليه يمنعه، أو يعاقبه على ما أبدى من رأي.

كما أن له أن يأخذ رأي أي فرد في أية مسألة يريد، وللطرف المقابل الحق في أن يعطي رأيه أو أن يمتنع عن إعطاء رأيه. وسواء أكان الباحث عن الرأي فرداً أم جماعة، أم كان في مركز المسؤولية: رئيساً، أم وزيراً أم غير ذلك، أو لم يكن، فالمسألة هي إبداء رأي في مسألة، أو إجابة على سؤال في مسألة، أو سائل يسأل عن مسألة يريد جواباً عنها.

إن هذه المشكلة قائمة أبد الدهر وعلى جميع المستويات فما من إنسان إلا ويحتاج لإبداء رأي، أو سؤال عن رأي، أو مسؤولٍ يجيب عن سؤال. فرئيس الدولة، ورؤساء الجماعات، والمسؤولين في أقسامهم، هم أحوج الناس للسؤال والاستشارة كلما التبس عليهم أمر، أو أشكلت عليهم مسألة كما أن الأفراد يحتاجون كذلك في حياتهم اليومية إلى الاستشارة والحصول على رأي يقربهم من الصواب. وقد قيل وهو قول حق «ما خاب من استشار». وهذا ثناء على من يتحرى الصواب، ويلجأ إلى الاستشارة لمعرفة الصواب أو ما يقارب من الصواب.

أما من يعطي الرأي، فإنه موضع ثناء كذلك شريطة أن يكون الرأي الذي أعطاه هو ما يغلب على ظنه أنه الصواب أو ما يقرب من الصواب قاصداً بذلك النصح والإخلاص.

وهذا الأمر ليس محصوراً في أمة من الأمم أو شعب من الشعوب، أو فئة من الفئات، بل إن كل فرد يمارس هذا الحق أخذاً أو إعطاءً.

والسؤال الذي يرد: هل يمارس الإنسان إرادته في هذا الحق دون قيد؟ وهل المشكلة التي يبحث عنها الجميع هي فرديّة؟ أو هي عامة بين الناس وحكامهم؟

إن حريّة الرأي بالنسبة للأفراد أو الجماعات، ليست موجودة على الإطلاق في أي مجتمع من المجتمعات المتحضرة، إلا بالقدر الذي تبيحه أو تجيزه شرائع ذلك المجتمع. ولهذا لا يصح أن تسمى تلك الحالة حرية. لأنها ليست ممارسة للإرادة الذاتية بل هي إجازة من شرائع ذلك المجتمع. وقد اختلفت التشريعات في هذه المسألة، فمنها ما جعل باب الإجازة واسعاً إلا أنه وضع قيوداً مشددة على بعض الأمور، ومنها ما ضيق هذا الباب وجعل الإجازة مقتصرة على بعض الأمور.

فالكلمة مثلاً في الإسلام قد يهوي بها في جنهم، وقد يرقى بها إلى أعلى عليين. فالكلمة في الإسلام إما أن تكون فرضاً يجب التصريح بها، أو يندب له أن يصرح بها أو يكره له النطق بها، أو يحرم عليه التفوّه بها، أو يباح له قولها. فليس له أن يمارسها على هواه، أو حسب رغبته. ولا يقال عن الكلام المباح إنه حرية الكلمة لا يقال ذلك بل هو إجازة من الشرع أباحت له أن يتكلم.

وكذلك الحال في كافة شرائع الأرض من العالم المتحضر. فربهم واضع شرائعهم أباح لهم القول في أمور، ومنع عليهم في أمور أخرى. ولذلك لا يصح أن يقال إن هناك حرية كلمة أو حرية رأي، بل هي إجازة من مجالس التشريع ليس غير.

حرية الرأي: إن كل ما تقدم ليس هو المشكلة المبحوث عنها في المجتمعات. بل هي مسائل فردية مقتصرة على تصرفات الفرد بفرديته. والمشكلة العامة هي رجوع الدولة إلى الناس لأخذ رأيهم في الشؤون العامة. أي ما يطلق عليه الشورى. فما هي الأمور التي تعود فيها الدولة إلى الناس لأخذ رأيهم، ومتى يكون رأي الناس ملزماً. وما هو حكم العودة إليهم لأخذ الرأي، وما هو الحكم المترتب عليهم لإبداء الرأي؟

وكيف تتعامل الديمقراطية في هذه المسألة؟

موقف الديمقراطية من حرية الرأي:

إن ما يسمى بحرية الرأي في النظام الديمقراطي يعتبر من الأسس التي تقوم عليها الديمقراطية من حيث أنها السبيل الوحيد الذي يحقق حكم الشعب بالشعب بزعمهم. أي هي الرجوع إلى الناس لأخذ رأيهم في التشريع والتنظيم واختيار الحاكم أو غير ذلك من الأمور التي تهم عامة الناس باعتبار أن السيادة للشعب وبما أن طبيعة الناس لا تجتمع على رأي واحد فقد جعلت رأي الأكثرية ملزماً للجميع. وبالرغم مما في هذا الأمر من كذب وخداع، وأن ما يسمى حريّة ليس سوى إجازة وتشريع يبيح للناس أن يعطوا رأيهم في الأمر الذي يعرض عليهم، بالرغم من كل ذلك فإن هذا الأساس الذي تقوم عليه الديمقراطية هو أبرز ما فيها من مفسدة وأسوأ ما فيها بطلان، وذلك لما يلي:

إن الأمور التي تطرح على الناس أو ممثليهم لأخذ الرأي فيها هو التشريع والأمور الفنية والفكرية، والأمور العملية. وقد جعلت الديمقراطية رأي الأكثرية ملزماً في الجميع. فكيف يصار لأخذ الرأي من أناس لا يفهمون معنى ما يطلب منهم إبداء الرأي فيه.

فالتشريع مثلاً وسن القوانين حين تطرح على الناس أو على من يمثل الناس بزعمهم أو على من اتخذه الناس رباً لهم، ويلتزم رأي الأكثرية في التشريع وسن القوانين، فمن المعلوم بداهة عند أمم الأرض جميعاً أن غالبية الناس، بل وغالبية أعضاء مجلس النواب، في المجالس النيابية عامة وفي جميع الدنيا، لا يفقهون في التشريع أو التقنين، لأن هذه المسألة تحتاج إلى اختصاص. ولذلك تعمد المجالس النيابية إلى تشكيل لجنة من الحقوقيين في المجلس تقوم بصياغة التشريعات والقوانين. ثم تطرح ما صاغته على بقية الأعضاء الذين لا يفقهون شيئاً من ذلك. وتأخذ رأي الأكثرية.

(وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ) فآية مفسدة أكبر من أن يكون التشريع منوطاً برأي من لا يفهم القانون أو الشرع. لكن ذلك من إتمام الكذبة الكبرى القائلة أن الشعب هو الذي يضع نظمه ويسن قوانينه ويختار حكامه.

إن مسألة التشريع والتقنين يرجع فيها لأهل الاختصاص من الفقهاء والمشرعين. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإنه لا يؤخذ فيها برأي الأكثرية بل يؤخذ الرأي الصواب بغض النظر عن عدد القائلين به ولو كان شخصاً واحداً، والصواب فيه أن يكون مستنبطاً استنباطاً صحيحاً من القاعدة التي انبثق منها، أو الأصل التشريعي الذي تفرع عنه. فلا عبرة بالكثرة والقلة، بل العبرة فيه بالصواب. فالمفسدة كل المفسدة أن يصار لرأي الأكثرية الذي تفخر به الديمقراطية، التي جعلت من المجتمع حقل اختبار. فما هو صالح بنظرهم اليوم يظهر عواره غداً ثم يجري التعديل عليه ثم بعد غدٍ يجري التعديل عليه ثم يصار إلى إلغائه واستبداله وهكذا. (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ) [الأنعام 116].

وأما أخذ رأي الأكثرية في الأمور الفكرية والفنية فعواره أوضح وأبين. فهل يصح أن تطرح مسألة هندسية أو طبية أو فكرية على عامة الناس ليعطوا رأيهم فيها؟ وأن يلتزم برأي الأكثرية؟ إن هذا الأمر ضرب من الهراء، ولا وجود له في الواقع. لأن هذه الأمور من شأن ذوي الاختصاص والخبرة. ولا عبرة بالكثرة والقلة فيها بل العبرة فيها بالصواب كذلك حتى من أهل الاختصاص أنفسهم. فلا يصح أن يجري التصويت عليه إطلاقاً. إن طرح مثل هذه الأمور على الناس أو على من يمثلهم، أي مجلس النواب، يعتبر مفسدة ما بعدها مفسدة «أعط الخبز للخباز ولو أكل نصفه».

وأما أخذ رأي الأكثرية للقيام بعمل من الأعمال فهذا أمر حق لأنه رجوع إلى من يطلب منهم القيام بالعمل، هل هم على استعداد للقيام به وتحمل تبعاته أو لا. وهنا يلتزم برأي الأكثرية لأن هذه الأكثرية عندها الاستعداد لتحمل تبعات العمل ونفقاته ومسؤوليته. ومن ذلك اختيار الحاكم باعتباره نائباً عن الجميع، أو أجيراً عند الجميع، ويريدون أن يتنازلوا عن سلطانهم ليضعوه بيده، لذا لا بد من أخذ رأي الأكثرية.

ولكن ما يجري في الأنظمة الديمقراطية لا يحقق ذلك بل على العكس منه تماماً. فالنظم الديمقراطية القائمة في العالم أجمع، إنما هي حكم الأقلية للأكثرية. وتحكم الأقلية بالأكثرية. فلو اجتمعت المعارضة في أي قطر من أقطار الديمقراطية لوجدنا أنها أضعاف من تولوا الحكم فيها. مثلاً:

إن الأسلوب المتبع في العالم الديمقراطي هو الترشيح للمنصب. سواء لاختيار أحد النواب أو لاختيار رئيس الدولة وكلاهما يتم بالاقتراع السري.

ولهذا علينا أن نلقي نظرة على مجلس النواب لنرى هل هو ممثل لأكثرية المجتمع أو للأقلية، بغض النظر عما يجري عادة من تلاعب وشراء وضمائر وتزوير – وما فضيحة ووتر غيت ببعيدة عن الأذهان- وللوصول إلى الحقيقة نلقي نظرة على دائرة انتخابية واحدة، فهي وحدة مصغرة عن البلد بكامله.

دائرة أ دائرة انتخابية فيها 100 ألف ناخب، والمطلوب نائب واحد عن هذه الدائرة. وكان أهلها على مستوى عالٍ من الوعي. ترشح لهذا المنصب أربعة أشخاص للحصول على الفوز، وكل منهم فيه الأهلية والكفاءة وله نظرة خاصة ومنهاج محدد لما يريد القيام به، وله الأمل من الفوز لكثرة المؤيدين له بشخصه أو ببرنامجه ومنهجه، جرت الانتخابات حرة نزيهة فتقدم للتصويت نسبة عالية جداً بلغت ثمانين ألفاً لأعذارهم. وتوزعت الأصوات بين المرشحين المتنافسين على هذا المقعد على الشكل التالي: فاز الأول بـ 30 ألف صوت وفاز الثاني بـ 28 ألف صوت، وفاز الثالث بـ 22 ألف صوت وفاز الرابع بـ 20 ألف صوت. فكان الأول هو صاحب الحق واحتل المركز المرشح له لأنه أخذ الأكثرية النسبية حسب نظرة الديمقراطية لمفهوم الأكثرية. فهل أصبح هذا الإنسان ممثلاً لهذه الدائرة، وهل هذه الدائرة تؤيده الأكثرية فيها، أو أنه يمثل الأقلية؟ إنه لا يمثل سوى 30 ألفاً، وخصومه يمثلون خمسين ألفاً يرفضونه ويرفضون تطلعاته لأن لهم مناهج تخالف ما يراه هو وما يسعى إليه. فبالله عليكم كيف يمكن أن يسمى هذا الأمر حكم الأكثرية. أليس هو حكم الأقلية؟ كفاكم دجلاً وخداعاً يا دعاة الديمقراطية وحكم الأكثرية، يا من اتخذتم لكم رباً من بينكم وأطلقتم علي اسم الهيئة التشريعية (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ).

فالحرية كلمة لا معنى لها على ارض الواقع، فليست سوى إجازة من ربكم – مجلس النواب – أجاز لكم أشياء، وحرم عليكم أشياء، وفرض عليكم أشياء، فاتخذتموه رباً من دون الله.

كما أن اختيار من ينوب عنكم في المجلس أو الرئاسة ليس سوى حكم الأقلية وليس الأكثرية. وهذا هو الضلال بعينه (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ).

وقد لفت نظر ما يجري في أميركا مع بداية الحملة الدعائية للانتخابات الرئاسية التي ستقام في تشرين الثاني من العام الحالي (1992).

إن ما يجري من صراع حاد بين مرشحي الحزب الواحد ونتائج ذلك الصراع يبيّن أن الذي يفوز هو الذي يأخذ أكثر خصومه، إلا أنه يحوز الأقلية بالنسبة لمجموع المتنافسين. ولذلك فهو يمثل الأقلية ضمن حزبه.

فإذا أضفنا إلى ذلك معارضة الأحزاب الأخرى له بما لها من تطلعات وأفكار ومناهج تختلف عما عنده نجد أن خصومه والمخالفين له أضعاف مؤيديه. ومع ذلك يقولون: هذا هو حكم الأكثرية!

إلا أن رفضنا للديمقراطية ونقضنا لها لا يعني أننا نستسيغ ونرضى الديكتاتورية والاستبداد بالرأي، ولا يعني أننا نقول بأن ينفرد المسؤول أو الحاكم بالربوبية ويتصرف على هواه دون رقيب أو حسيب، بل يعني إعطاء الصلاحية لصاحب الصلاحية ضمن الشروط والحدود التي تضعها في الموضع الحق.

فنحن المسلمين رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً وبالقرآن إماماً فنحن لسنا أحرار بل عبيد لله نسير في حياتنا بحسب ما يأمرنا به ربنا الله، وتشريعنا ونظمنا وهي من عند الله جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم، ننيب عنا من يقوم على تطبيق هذا الشرع. نعنيه إن أحسن، ونمنعه إن أساء. فهو عبد لله كما نحن، بايعناه على السمع والطاعة، وبايعَنا على الالتزام بشرع الله. فلا وجود فينا لهيئة تشريعية نجعلها رباً. (اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ)  [التوبة 31].

أما إبداء الرأي عندنا فله حالات متعددة، ولسنا أحراراً فيه. فقد يكون فرضاً عند الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومحاسبة الحاكم والطلب للشهادة بين الخصمين، والتقدم طوعاً للشهادة فيما هو من حق الله، وقد يكون إبداء الرأي مندوباً حين تقديم النصح والإرشاد لمن نحب ومن نكره «الدين النصيحة، قلنا لمن يا رسول الله؟ قال: لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ويكون محرماً حين يتضمن شيئاً مما نهى الله عنه أو مخالفاً لأي شيء في عقيدتنا، مثل انتقاد الزواج بأكثر من واحدة، أو انتقاد الطلاق، أو اتهام الأبرياء أو الغيبة أو التقدم للشهادة بين خصمين دون طلب. ويكون مباحاً حين يأذن الشارع بإباحته. مثل التخلي عن حق لي كالانتخاب وأمثاله فليست المسألة حرية رأي، ولا ممارسة إرادة بدون إذن.

فأين الديمقراطية من الإسلام.

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *