العدد 258-259 -

العددان 258-259، السنة الثانية والعشرون، رجب وشعبان 1429هـ، الموافق تموز وآب 2008م

أزمة الغلاء العالمية: وراءها صنّاع السوق، وليس ميكانيكية العرض والطلب

أزمة الغلاء العالمية:

وراءها صنّاع السوق، وليس ميكانيكية العرض والطلب

 

بلغ سكان العالم في العام 2007 حوالى 6 مليارات نسمة، ويتوقع أن يزداد هذا الرقم سنوياً بحوالى 70 مليون نسمة لغاية سنة 2015م، وهذه الزيادة السنوية كانت متوقعة منذ سنة 1995م. ولذلك لم يشهد العالم تغيرات دراماتيكية في هيكل السكان أو عددهم منذ فترة طويلة نسبياً. والكل يعلم أن الطلب على الغذاء مرتبط إيجاباً بعدد السكان والدخل ومتغيرات أخرى. والسؤال الأساسي هو: لماذا شهد العالم في هذا العام ارتفاعات كبيرة ومتلاحقة في أسعار المواد الغذائية والمعادن المختلفة؟

قبل الإجابة على هذا السؤال نبدأ بعرض الجدول التالي للإنتاج والاستهلاك العالمي لبعض المواد الغذائية الأساسية، وذلك حسب بيانات منظمة الأغذية والزراعة الدولية “الفاو”:

القمح

الذرة

الأرز

السنة

الإنتاج

الاستهلاك

الإنتاج

الاستهلاك

الإنتاج

الاستهلاك

2004

625

606

715

688

401

409

2005

620

624

698

705

418

415

2006

595

616

713

728

420

420

2007

610

622

789

778

427

425

*2008

656

642

777

788

432

427

*2009

662

645

775

793

431

427

*استهلاك وإنتاج متوقع

وبالتدقيق بالجدول أعلاه يظهر أنه ليس هناك فرق كبير بين الإنتاج والاستهلاك أو ما يسمى “بفائض طلب” أو نقص في العرض “فجوة العرض” وبيان ذلك كما يلي:

أ- بالنسبة لإنتاج القمح مقارنة مع الاستهلاك يظهر أن هناك عجزاً طفيفاً عام 2007م فقط، والمتوقع أن يكون هناك فائض في الإنتاج لعامي 2008م و2009م على التوالي، فلماذا ترتفع الأسعار بعكس التوقعات؟

ب- لا يظهر أن هناك عجزاً على الإطلاق في إنتاج الأرز مقارنة باستهلاكه.

ج- يظهر أن هناك عجزاً دائماً في إنتاج الذرة مقارنة باستهلاكه، ولا غرابة في ذلك لأنهم يستخدمون الذرة كمصدرللطاقة البديلة (بيوفيول).

ويظهر من المعطيات أعلاه إمكانية ارتفاع أسعار الذرة نظراً لزيادة الكميات المستهلكة عن المنتجة، ولكن يصعب تصور ارتفاع أسعار الأرز أو القمح، ما يؤكد ضرورة الإجابة على التساؤل الذي ورد في بداية هذه المقالة وهو: ما سبب هذا الارتفاع الجنوني في الأسعار، إذ شهد العالم موجة تضخم قل نظيرها في السابق من حيث الشمول والمستوى؟

وإذا نظرنا إلى سوق المعادن والمواد الخام فليست الحال فيها بأحسن من سوق المواد الغذائية، إذ تضاعفت الأسعار لبعض المعادن كالحديد مثلاً، وزادت أسعار بعضها بنسبة 150% وذلك مثل البترول، وهذا يتطلب ضرورة دراسة هيكل الطلب والعرض على هذه المعادن لمعرفة حال السوق من حيث فائض الطلب أو فائض العرض.

إنتاج البترول العالمي واستهلاكه بالمليون برميل يومياً، بحسب بيانات منظمة أوبيك:

السنة

الإنتاج

الاستهلاك

2003

77

79

2004

80

81

2005

81

83

2006

81

83

2007

84

84

نستطيع باختصار أن نخلص من الجداول والملاحظات السابقة إلى نتيجة مفادها “إن ارتفاع الأسعار” غير مبرر سواء في المنتجات الغذائية أم المعادن وبالذات البترول، فلماذا، وكيف ارتفعت الأسعار بعكس التحليل الفني الاقتصادي؟ وهنا نود إبراز النقاط التالية:

1- إن الارتفاع في الأسعارعالمياً هو بفعل فاعل وليس استجابة لتحركات العرض والطلب، وهذا الفاعل له مصلحة كبرى في ارتفاع الأسعار. فمعظم الدول الصناعية الكبرى هي كذلك دول منتجة للمواد الغذائية، وبكميات كبيرة، وبالذات القمح والذرة.

2- إن ارتفاع أسعار البترول يعود بالنفع على شركات البترول أولاً، فهي التي تتولى الإنتاج والبيع والتسويق، فإذا علمنا أن 8 شركات من بين أكبر 10 شركات بترولية هي أميركية. وهذه الشركات لها مصلحة كبرى في ارتفاع أسعار البترول، وبالتالي تتحقق منفعة لأميركا بالدرجة الأولى قبل الدول المنتجة للبترول.

3- بما أن التحليل الاقتصادي لا يستطيع تفسير ظاهرة الارتفاع الحاد في الأسعار، إذاً كيف نفهم أسباب هذا الارتفاع غير المعقول؟ للإجابة على هذا السؤال نقول: إن العلاقات الاقتصادية الدولية يجب أن تدرس وتقيّم في سياق العلاقات السياسية والحربية، ولا يجوز فصل الاقتصاد عن السياسة؛ ولذلك نستطيع فهم ما يجري إذا ربطنا بين السياسة والأحداث الاقتصادية في العلاقات الدولية، فمن الخطأ النظر إلى الأحداث الاقتصادية وحدها، ويظهر ذلك من خلال بعض الأمثلة:

أ) توقع أحمد زكي اليماني وزير بترول العربية السعودية قبيل حرب أميركا على العراق في أوائل تسعينات القرن الماضي أن ترتفع أسعار البترول إلى (100$) للبرميل إذا اشتعلت حرب الخليج. في ذلك الوقت لم يحصل الارتفاع في الأسعار بخلاف توقعات اليماني، وسبب ذلك يعود لعدم سماح بوش  للأسعار بالارتفاع خشية أن يحصل انقلاب بالرأي العام الأميركي عليه؛ ولذلك حين بدأت حرب الخليج، تحركت وكالتي الطاقة الأميركية والدولية وضختا من المخزون الاستراتيجي لديهما؛ فازداد المعروض من البترول، وبذلك لم يرتفع السعر كما توقعه اليماني، وهذا لأنه أغفل الناحية السياسية ونظر إلى الأمر من الناحية الاقتصادية الصرفة.

ب) عقدت عدة مؤتمرات لبحث ارتفاع الأسعار ولكن من دون نتائج إيجابية، وحتى إنهم لم يتفقوا على التشخيص أو العلاج، فقال ملك السعودية في مؤتمر جدة الأخير: «إن المضاربات هي سبب ارتفاع أسعار البترول» والكل يعلم أن معظم المضاربين في الغالب هم من الولايات المتحدة الأميركية بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ولكن وزير الطاقة الأميركي يقول إن النقص في العرض هو سبب الارتفاع في الأسعار، ولم يتفق أي مسؤول معه في هذا القول. فما هو سبب الاختلاف بين مراكز القوى العالمية البترولية؟ إنه اختلاف المصالح.

ج) كان الأصل أن تنخفض الأسعار حين قررت السعودية زيادة الإنتاج بـ(700 ألف برميل) يومياً على أثر مؤتمر جدة، ولكنه لم يحصل واستمرت الأسعار بالارتفاع، وعلل ذلك بانفجار في أحد أنابيب النفط في نيجيريا، أو خشية ضرب (إسرائيل) لإيران، وهنا نقول إن حرباً كاملة في بداية تسعينات القرن الماضي لم يرتفع سعر النفط خلالها، ولكن توقع ضرب (إسرائيل) لإيران يرفع الأسعار! إن هذا هو عين الاستغفال والاستهتار بعقول الناس. فالذين يجنون الأرباح الطائلة من ارتفاع الأسعار يهمهم أن تبقى الأمور غامضة عند الآخرين.

4- هناك مجموعات في الأسواق العالمية يطلق عليهم صناع السوق، وهم الذين يقومون بالمضاربات من خلال توقعات وإشاعات يبثونها بين المتعاملين في هذه الأسواق، فهم الذين يتوقعون، وهم الذين يتحركون بناء على هذه التوقعات كي تصبح التوقعات واقعاً عملياً، ويصدق الناس هذا الواقع الذي أوجده صناع السوق ومروجو الإشاعات وأبطال المضاربات، فيقع الناس في مصيدة الكبار ويخسرون أموالهم ويجني الكبار الأرباح الطائلة، وهذا ما حصل في سوق الأسهم في أكثر من بلد، وهذا ما حصل بأسعار الذهب أيضاً، ولا بد من التنويه هنا إلى الدور السلبي الذي لعبه البنك الدولي، إذ أشارت بعض توقعاته إلى إمكانية استمرار الأسعار المرتفعة في المواد الغذائية حتى عام 2015م، وهو بهذا كمن يصب الزيت على النار، فيجعل الناس يُقبلون على شراء المواد الغذائية بعقود آجلة خشيةً من ارتفاع الأسعار بشكل أكبر من المستويات الحالية، وهو بهذا يساهم في تحقيق مصالح صناع السوق.

ونختم بالقول إن طبيعة النظام الدولي ومنه النظام الاقتصادي الحالي فيه ظلم لمعظم دول العالم وشعوبه؛ لأن الذين يتحكمون بأموره، سواء في الناحية النقدية أم الجمركية أم النقل أم التكنولوجيا، هم حفنة من الدول الكبرى الصناعية وعلى رأسها أميركا، وهمهم الوحيد أكل البشر والشجر والحجر. ولا خلاص للعالم من هذا الشر المستطير إلا بتطبيق نظام اقتصادي جديد يسود به العدل بين الناس، ولا تكون قواعده قائمة على الاحتكار ومص الدماء والغش والرشى والفساد. ولا يمكن ذلك إلا بخلافة راشدة على منهاج النبوة، والله نسأل أن يكون ذلك قريباً.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *