العدد 256 -

العدد 256- السنة الثانية والعشرون، جمادى الأولى 1429هـ ، الموافق أيار 2008م

مع القرآن الكريم: ربـح البيـع

مع القرآن الكريم:

ربـح البيـع

 

قال الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة 111].

هذه هي الآية الوحيدة التي قدم سبحانه وتعالى فيها الجهاد بالنفس على الجهاد بالمال، بخلاف بقية الآيات وذلك لبيان عظم الصفقة.

فهذه الصفقة من أعظم وأربح الصفقات التي يمكن للمؤمن أن يعقدها في حياته, فالله عز وجل هو المشتري, والمؤمن هو البائع, وأما السلعة فإنها النفس والمال, والجنة هي الثمن, وهو ثمن لا تعدله السلعة, ولكنه فضل اللّه ومَنُّه.

قال الحسن البصري وقتادة: بايعهم اللّه فأغلى ثمنهم.

فانظر إلى كرم الله عز وجل, فهو خالق الأنفس والأموال, وهو مالكها. ولكنه كرّم المؤمن الذي لا يملك شيئاً بهذه البيعة فجعله طرفاً فيها.

أخرج ابن أبي شيبة عن الحسن أنه كان إذا قرأ هذه الآية (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ) قال: أنفس هو خلقها، وأموال هو رزقها.

وقد قال القرطبي : «فأصل الشراء بين الخلق أن يعوضوا عما خرج من أيديهم ما كان أنفع لهم، أو مثل ما خرج عنهم في النفع؛ فاشترى الله سبحانه من العباد إتلاف أنفسهم وأموالهم في طاعته، وإهلاكها في مرضاته، وأعطاهم سبحانه الجنة عَوَضاً عنها إذا فعلوا ذلك. وهو عَوَض عظيم لا يدانيه المعوَّض ولا يقاس به، فأجرى ذلك على مجاز ما يتعارفونه في البيع والشراء، فمن العبد تسليم النفس والمال، ومن الله الثواب والنوال، فسمي هذا شراء.

وهذه الآية الكريمة التي جاءت بها هذه الصفقة الرابحة, بحسب ماذكر القرطبي، نزلت  في البيعة الثانية، وهي بيعة العقبة الكبرى، وهي التي أناف فيها رجال الأنصار على السبعين، وكان أصغرهم سناً عقبة بن عمرو؛ وذلك أنهم اجتمعوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند العقبة، فقال عبدالله بن رواحة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اشترط لربك ولنفسك ما شئت؛ فقال النبي  (صلى الله عليه وآله وسلم): «أشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم». قالوا: فإذا فعلنا ذلك فما لنا؟ قال: «الجنة» قالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل؛ فنـزلت: “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة” الآية.

لقد أخذ الأنصار رضوان الله عليهم هذه الصفقة وقالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل؛ أي لا نتراجع عن هذه الصفقة، وقاموا يبايعون الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) على ذلك مع أنهم يعلمون أنهم لا يبايعون على أمر هين، بل كانوا مستيقنين أن مصاعب كبيرة وراءهم، وأن العرب كلها ستحاربهم، وأنهم لن يهنؤوا بعيش آمن خلال المعركة مع الجاهلية، ولكنهم قارنوا بين نعيم الدنيا الزائل وبين ذلك النعيم المقيم، فاختاروا الجنة وقالوا: ربح البيع، لا نقيل ولا نستقيل.

إنها الجنة التي لا يؤثر أحد بها أحداً كائناً من كان! فنعيمها هو النعيم، ومجرد الحرمان منها هو العذاب الأليم. بل إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليصف لنا هذه الجنة ونعيمها في عبارة معجزة وبليغة رغم إيجازها، حيث يقول: «فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» وهكذا في بلاغة معجزة، يختصر لنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جنة بل جنات عرضها السماوات والأرض، فكل ما رأت عين من لدن آدم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها من نعيم هو دون نعيم الجنة، وكذا ما سمعته الآذان كلها، ليس فقط بل ومهما أطلق الخلق كل الخلق كل خيالاتهم من أعنة التصور والتخيل، ومهما اشتهت أنفسهم من نعيم، فهو دون نعيم الجنة الذي ينتظر المتقين!

وقد أخبر الله عز وجل بأن هذا الوعد الذي وعده للمجاهدين في سبيله والقائمين على أمره وعد ثابت قد أثبته (فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ) ‏كما أثبته في القرآن ثم قال‏:‏ (وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) ‏‏لأن إخلاف الميعاد قبيح لا يقدم عليه الكرام من الخلق مع جوازه عليهم, فكيف بالغني الذي لا يجوز عليه القبيح قط‏. ‏فالوعد وعد الله, وهو المشتري, وهو الذي وعد الثمن, وعداً قديماً في كل كتبه: (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْءَانِ)..

(وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) إنه لا أحد أوفى بعهده ولا أصدق في إنجازه وعده من الله (عز وجل) فهو القادر المتمكن من الوفاء، وهو أصدق الواعدين وأوفى المعاهدين.

قوله (فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ) وهو مبالغة للتأكيد؛ لأن البشارة تكون لأمر تلوح بوادر وقوعه، أي أظهروا السرور بذلك وافرحوا به غاية الفرح إذ بعتم فانياً بباقٍ، وزائلاً بدائم.

(وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) أي: الظفر للحصول على الربح التام، والغبطة في البيع لحط الذنب ودخول الجنة.

بقلم: خالد أبو محمد – القدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *