العدد 131 -

السنة الثانية عشرة – ذو الحجة 1418هـ – نيسان 1998م

تزيين الديمقراطية للمسلمين

تزيين الديمقراطية للمسلمين

بقلم: محمود عبد الكريم حسن

تحدثنا في العدد (91) من هذه المجلة أن سياسة الغرب وخاصة أمريكا في مواجهة الإسلام تسير في ثلاثة خطوط:

الأول: استمرار الغزو الفكري والثقافي.

الثاني: التنكيل بحَمَلَة الإسلام، وتشريع استئصالهم.

الثالث: التعامل مع الإسلام لخداع الأمة وتضليلها مستعملين في ذلك بعض العملاء المضلِّـلين، وبعض المضلَّـلين من أبناء الأمة المضبوعين بالثقافة الغربية والمبهورين بقوة الغرب ومدنيته. حيث يقوم هؤلاء بتحريف الإسلام وتقديم الأفكار والمفاهيم الغربية على أساس أنها إسلامية. وهكذا تهلك الأمة في مخططات شيطانية وتعض على الكفر بنواجذها متوهمة أنه الإسلام. وأفضل وسيلة لذلك هو العلماء الذين يستحلون أن يكونوا أدوات لتحقيق مصالح الكافر المستعمر، والذين يعمد هذا الأخير إلى تلميعهم وإبرازهم لتسهيل وتسريع عملية ترسيخ المفاهيم الغربية.

إن أخطر ما في هذه السياسة (الحملة على الإسلام) هو أن يقوم علماء أو حركات إسلامية بتنفيذها.

ولذلك، فمن أهم أعمال الدعوة إلى الإسلام – الآن – وأعمال ترسيخ العمل السياسي الإسلامي وتسريع القضاء على هيمنة الكافر المستعمر وعملائه، وبعث ثقة الأمة بالإسلام وحملها على احتضان حَمَلَة الدعوة هو القضاء على طروحات الكفر ببيان التضليل الذي فيها، وببيان تبعية دعاتها للغرب.

لقد فُقِدتْ ثقةُ الأمة بالحكام الكفرة الفجرة، رؤساءَ وملوكاً وأُمراءَ ووزراء، وتأكدت من خياناتهم ودجل إعلامهم وشعاراتهم. وفُقدت كذلك ثقة الأمة بعلماء السلاطين، وتأكد لدى الأمة أنهم أدوات خِداع للأمة، وتجميل لبشاعة الحكام، بتفصيل الفتاوى على الشكل المطلوب خدمة للحكام وأسيادهم.

ولا بد من سقوط كل أثر للفكر الغربي في الأمة ولو أتى عن طريق الذين يسمَّوْن علماء أو دعاة أو حركات إسلامية. وهذا لا يكون إلا بإخضاع كل فكر وكل طريق للمحاكمة، وبالنظر فيه على أساس القرآن والسنة. وبهذا يميز الخبيث من الطيب، ولا تقع الأمة في براثن الشيطان عن طريق ثقتها بالعملاء ذوي الألقاب العلمية.

وقبل أن نستطرد نتوقف قليلاً لنوضح أن العلماء ينبغي أن يكونوا ورثة الأنبياء، فيواجهون الباطل بالحق، ويقولون للحق هذا حق، وللباطل هذا باطل، ويصبرون على ذلك، لا يغيرون ولا يبدلون، ولو أُغروا بالشمس وبالقمر في أيمانهم وشمائلهم، ولو هُدِّدوا بقطع الأرزاق والأعناق، فلا يُحِلّون ما حرّم الله ولا يحرمون ما أحلّ. مثل هؤلاء العلماء تُقبَّل جباههم وأياديهم ويعاونون على ما هم فيه، ويستفتون ويُصغى إليهم ويُسألون ولا يعترض عليهم، لأنهم كبراء والاعتراض على الكبراء له آدابه.

أما إن كان العلماء من الذين يجيزون الفتوى بجواز ما فيه إثم ويفتون به، ومن الذين يقولون بأن الديمقراطية لا تتعارض مع الإسلام وينادون بها، ومن الذين يقولون بحرية العقيدة وبحق الردة، ومن الذين يبيحون الربا، ويحللون زواج المسلمة من نصراني أو يهودي، أو من الذين يقولون بتطوير الشريعة وتغيير أحكامها حسب المصلحة ولمواكبة العصر، وإنه لا ثبات في الشريعة إلا لما كان قطعي الثبوت والدلالة معاً… إن كانوا من الذين يقولون بهذا أو بعضه، فهؤلاء لم يرثوا من الأنبياء شيئاً، حتى ولو كانوا من ذوي العلم أو حملة الشهادات أو متقلدي مناصب الفتوى أو القيادة في الحركات الإسلامية. مثل هؤلاء يحرفون الإسلام ويضللون المسلمين، فيجب كشفهم. آراؤهم وأفكارهم تناقض مدلول العقيدة وتتناقض مع الأحكام الشرعية القطعية، فلا حرمة لآرائهم. وإن كنا لا نَعُدُّهم كافرين فلأنا نحسبهم لا يؤمنون بما يقولون.

مثل هؤلاء العلماء عملاء. والعميل ليس فقط ذلك الذي يتفق في الخفاء مع سيده أو مستخدِمه لقاء شيءٍ من حطام الدنيا. العميل – من هؤلاء – هو الذي يدعو إلى أفكار الكفر، ويحرف أحكام الإسلام لتتفق مع الأفكار والمفاهيم الغربية. ويفتي بما يصدر عن الأمم المتحدة من تشريعات وقوانين في مجال الحريات وحقوق الإنسان، أو في مجال العلاقات والنظم الاقتصادية والمالية، أو في مجال العلاقات الدولية: التجارية أو السياسية أو الثقافية أو العسكرية. فالتبعية الفكرية عمالة لأسياد الفكر وأصحابه. وهي فسق وانحطاط. وتبريرات هذه العمالة بضعف الأمة، وبقوة أمريكا أو الغرب، وبأن العالم قد صار قرية صغيرة ولا بد أن تحكمه قوانين واحدة شئنا أم أبينا، هي تبريرات في غير محلها، لا يقول بها إلا مهزوم النفس الذي لم يقتدِ بالنبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولم يتعلم من القرآن حكمةً، وتنكر لسنة النبي صلى الله عليه وسلم وضاق بها ذرعاً وهجر القرآن واتخذه وراءه ظهرياً.

إن ركائز تحريف الدين عند هؤلاء هي: زعم تجديد الدين، مرونة الشريعة، مقاصد الشريعة، تطوير الشريعة، فقه الواقع، فقه الضرورات والمصالح، فقه الموازنات، فقه الأولويات، أسلمة المعارف والعلوم.

وبناءً على هذه الركائز – المبررات، التي يعتبرونها حججاً وأدلة يُصْدِرون فتاوى وآراء لا تعد ولا تحصى وهي تناقض النصوص الشرعية.

وسنتناول هنا واحدة من هذه الأفكار التي خُدِعوا بها، أو يحاولون تضليل الأمة بها خدمة للكافر المستعمر، وهي الديمقراطية. وبحثُنا هذا لن يكون مفصلاً في بيان واقعها وحكم الإسلام فيها. فهي كفر وهذا أمر مفروغ منه. والمروجون لها من الذين يسموْن علماء يدركون هذا. وإنما سنتناول أساليب التبرير والتضليل لبيان وجوه التدليس والتزوير والتحريف. إن حَمَـلَة الأفكار الغربية والمتأثرين بها والمروجين لها لم يعودوا قادرين على طرحها بشكل صريح سافر. ولذلك فإنهم يحتالون على الأمر. فعندما يدعون إلى الديمقراطية أو الحريات العامة أو ما يسمى بحقوق الإنسان عند الغرب أو ما شابه ذلك، فإنهم لا يعرِّفون ما يدعون إليه تعريفاً صحيحاً لأن هذا يعرِّيها ويكشفها ويدحضها. وهم لا يستدلون بأدلة شرعية لأنه لا يوجد أدلة شرعية تخدمهم، وإنما قد يجتزئون النصوص أو يؤولونها تأويلات بعيدة لتوافق ما يريدون، ويمرون على عجل فيصورون الكفر إسلاماً، ويخرجون بما يسمى أسلمة الكفر أو إسلاميته. وهذا ما فعله بعضهم، ولكنهم خشية انكشافهم واستباقاً للأمور بدأوا يروجون لما يسمى: أسلمة المعرفة أو إسلامية المعرفة والعلوم.

الديمقراطية تعني أن الشعب يحكم نفسه ولا يحكمه أحد سواه. لا يحكمه الله أو رجال الدين فلا ثيوقراطية، ولا يحكمه فرد أو طبقة فلا ديكتاتورية. وفكرة أن يحكم الشعب نفسه بنفسه هي في أساسها رفض لفكرة أن الحاكم هو الله، وأن المشرع هو الله، وأن الحقوق والواجبات يحددها الله سبحانه وتعالى. فهي رفض لعبودية الإنسان للخالق. وهي بعد ذلك إعطاء هذا الحق للإنسان نفسه. فهو الذي يشرع لنفسه وهو الذي يطبق التشريع على نفسه بالطريقة التي يراها. وبما أن الإنسان يعيش في مجتمع، نشأت فكرة أن التشريع يتم بأكثرية الشعب، وأن الشعب هو الذي يختار حاكمه لينفذ القانون أو التشريع الذي وضعه الناس، والشعب هو الذي يعزل حاكمه، فالحاكم أجير عند الشعب. وهكذا يحكم الشعب نفسه بنفسه ويمارس إرادته ولا تفرض عليه أي شريعة أو قانون من أحد وخاصة من الله. فتكون السيادة للشعب. وهو باختياره للحاكم ليحكمه بالشريعة التي يرتضيها وبتطبيقه لها يكون هو (الشعب) مصدر السلطات. وبهذه النظرية يمتلك الإنسان دوراً وتكون له إرادة في تسيير حياته ويحفظ نفسه من أن يُعْتَدى عليه أو على حرياته.

هذا بإيجاز هو واقع الديمقراطية. وحكم الإسلام في هذا الواقع، أنه كفر، واضح وصريح. إذ لا خلاف بين المسلمين أن التشريع لله وحده، وهو الذي يعيّن الحلال والحرام، وهو مصدر الحقوق، وهو الذي يعين للإنسان حقوقه وواجباته وصلاحياته.

ومع أن كفر الديمقراطية أمر واضح لا لبس فيه ولا مدخل فيه للاختلاف، فإن من الناس من استهتر بالشرع، واستخف بالناس، وجعل يلف ويدور ليبرر القول بشرعيتها، فقال: “والمتتبع لتاريخ الأمة الإسلامية والحركة الإسلامية في العصر الحديث يتبين له بجلاء أن الفكرة الإسلامية والحركة الإسلامية والصحوة الإسلامية لا تتفتح أزهارها، ولا تنبت بذورها ولا تتعمق جذورها أو تمتد فروعها إلا في جو الحرية ومناخ الديمقراطية. وما خرس لسانها ولا كتمت أنفاسها ولا اختفت أزاهيرها إلا في مناخ القهر والاستبداد والطغيان الذي حطم إرادة الشعوب المتشبثة بالإسلام وفرض عليها علمانيته أو اشتراكيته أو شيوعيته بالحديد والنار، بالتعذيب خفيةً والشنق جهرة، بالأدوات الجهنمية التي تنهش اللحم وتشري الدم وتسحق العظم وتدمر النفس… لهذا لا أتصور أن يكون موقف الحركة الإسلامية إلا مع الحرية والديمقراطية السياسية” بهذه الأوصاف والتكريرات المتعمدة: تتفتح، تنبت، تتعمق، تمتد، ثم قهر، استبداد، طغيان، تحطيم إرادة المسلمين، علمانية، اشتراكية، شيوعية، حديد ونار وتعذيب وشنق، جهنم، نهش لحم، وسفك دم وسحق عظم وتدمير للنفس، كلها تكرير وتصوير مثير واستعارات وكنايات تجعل دم القارئ يغلي ليقول نعم علينا أن نؤيد الديمقراطية ولا يمكن أن نكون إلا معها. هذا القول هو للدكتور يوسف القرضاوي في كتابه أولويات الحركة الإسلامية.

وهل هكذا يكون البحث الفكري أو الفقه الشرعي؟ أين الحقائق في بيان واقع الديمقراطية في مفهومك يا دكتور، أو في مفهوم أهلها وأصحابها؟

كل هذا الذي ذُكر تريد الأمة أن تتخلص منه، ولكن الخلاص منه يكون بالإسلام وليس بالديمقراطية، لأن الديمقراطية هي التي أتت به. أتَتْ به عندما جَعَلَتْ التشريع للشعب، فشرع لنفسه أنظمة وقوانين تهلك الحرث والنسل وتدمر النفس.

فلماذا يتجاهل الداعي إلى الديمقراطية حقيقتها وواقعها ويجمِّلها بهذا الشكل، ويبشِّع غيابها إلى هذا الحد.

ألا يلاحظ القارئ أن هذه الأوصاف كلها ليست أدلة صالحة لتشريع الديمقراطية، مع أنه قد قام الدليل القاطع على كونها كفراً. أو لا يلاحظ أيضاً أنها لا تعدو أن تكون مبررات للموقف الذي يريده، وأن فيها كثيراً من التضليل؟!

إذا كان الأمر كما وصف هذا الرجل، فلا يُتَصَور أن يكون موقفه إلا مع الإسلام ومع تغيير الأوضاع القائمة وإيجاد الدولة الإسلامية (الخلافة) التي تطبق شريعة الإسلام، أليس هذا هو قول الله تعالى: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا). إذاً، كان على هذا العالِم أن يطالب بالإسلام، بحكم الإسلام، وبحق المسلمين في الدعوة إلى الإسلام، وكان عليه أن يحث الأمة للعمل على إسقاط أنظمة الكفر وشرائع الكفر وقوانين الكفر وسياسات الكفر، وأن يدعو ويعمل لجعل القرآن والسنة مصدر التشريع لا أن يكون الشعب مصدر التشريع.

ولماذا يتناسى هذا العالِم أن الديمقراطية تتيح للملحد أن يدعو إلى إلحادِهِ، وللعلماني أن يعلن أن محمداً ليس نبياً، وأن القرآن صناعة بشرية… إلى غير ذلك من دعوات الكفر.

بالأمس زور بعض العلماء الحقائق، وأفتوا وأصدروا كتباً تدعو إلى الاشتراكية، متجاهلين أنها كفر، وزاعمين أنها العدل والمساواة. فلماذا لا يعتبر دعاة الديمقراطية اليوم بالذين سبقوهم من مدعي العلم الذين ضللوا الناس بما سَمّوْه (اشتراكية الإسلام)؟

الإسلام ينمو في الأجواء التي ليس فيها قهر ويتأخر في مناخات الظلم والتعذيب، نعم. هذا يعطيك الحق أن تطالب برفع القهر والظلم والتعذيب، ويعطيك ويعطي الأمة زخماً لتعمل على إيجاد الإسلام كبديل لأنه هو الذي يؤمّن السلام والطمأنينة والعدل والازدهار. إن القهر والظلم يقع على الدعاة لأنهم يريدون الإسلام بديلاً حضارياً وبديلاً سياسياً من الأنظمة الديمقراطية والرأسمالية، والحكام الحاليون هم نواطير وحماة لحضارة الغرب، لأن الغرب يحميهم ما داموا يحمون حضارته ومصالحه ونفوذه.

إن الأجواء التي يوفرها الإسلام هي أفضل من الأجواء التي توفرها الديمقراطية، فلماذا لا تطلب حاجتك أو حاجة حركتك من الإسلام؟

إن الأنظمة الكافرة والعميلة عدوة للإسلام، وتريد القضاء عليه، حتى ولو كانت ديمقراطية، وهذه سنة الصراع بين الإيمان والكفر، ولن يعطَى الدعاة إلى الإسلام حريةً في دعوتهم مهما طمأنوا الكافر ومهما تنازلوا عن أشياء من دينهم، ومهما تمسكوا بأفكار الكفر ومفاهيمه: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ)، والكافر المهيمن لا يسمح بالدعوة إلى الإسلام، ولو تظاهر بالسماح أو التسامح، إلا إذا كان الدعاة أداةً بيده ولخدمته، لأن الكفار يجهدون أنفسهم ليصدوا عن سبيل الله: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ) وهم لا يدخرون جهداً لتنفيذ أحقادهم في المسلمين: (وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً).

قد يقول المبررون لأخذ الديمقراطية: إننا لا ندعو إلى الديمقراطية لأجل معاني الكفر التي فيها، ولكننا نطالب بأجواء حرية وبرفع القهر والخنق والتعذيب… لكي يتاح لنا أن ندعو إلى الإسلام، لأنه بهذه الأجواء ينمو الإسلام ويورق ويزهر.

فنقول له: إذن اطلب ما تريد، ولا تطلب شيئاً آخر هو نقيض لعقيدتك. وقل ما تقصد، ولا تقل أمراً إذا سئلت عنه قلت: لم أقصد هذا وإنما قصدت ذاك. فأنت دعوت وروَّجت للديمقراطية وهي كفر. فإن كنت لا تقصد الكفر، فلا تطلب الديمقراطية لأنها لا تنفك عنه.

والدكتور، يعلم مقدار الخطر في دعوته، وموقفَ المسلمين من هذا الخطر، ولذلك يحاول التقليل من شأن الاعتراض عليه ومصادرة الرد قبل حصوله. يقول: “ولكن بعض الإسلاميين لا زال يتحفظ على الديمقراطية، بل يتخوف من مجرد كلمة ديمقراطية”.

ليست المسألة بعض المسلمين فقط، وليست أنهم ما زالوا يتحفظون، وبالتالي فإنهم عما قريب سيتركون تحفظهم.

إن المسألة هي أن كل مسلم واعٍ يركل الديمقراطية برجله وليس يتحفظ عليها فقط، لأنها كفر.

وعمـّا قريب لن يبقى في الأمة إن شاء الله أثر لدعوة إلى كفر، ديمقراطيةً كانت أو غير ديمقراطية.

يقول الدكتور مرغباً في الديمقراطية: “إن الإسلام ليس هو الديمقراطية ولا الديمقراطية هي الإسلام… ولكن الأدوات والضمانات التي وصلت إليها الديمقراطية هي أقرب ما تكون إلى تحقيق المبادئ والأصول السياسية التي جاء بها الإسلام لكبح جماح الحكام وهي الشورى والنصيحة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورفض الطاعة عند الأمر بالمعصية، ومقاومة الكفر البواح وتغيير المنكر بالقوة عند الاستطاعة، فهنا تبرز قوة السلطة النيابية القادرة على سحب الثقة من أية حكومة تخالف الدستور وكذلك قوة الصحافة الحرة والمنبر الحر وقوى المعارضة وصوت الجماهير”.

الإسلام كامل يا فضيلة الدكتور، وليس ناقصاً كي نكمّله بالضمانات التي وضعتها الديمقراطية. فصوت الجماهير، وسحب الثقة، وقوة الصحافة، والمحاسبة…الخ موجود أفضل منها وأقوى منها في الإسلام، فإذا تقاعس المسلمون فهذا عيبهم وليس عيب الإسلام. وعيبهم هذا دواؤه في الإسلام وليس في الديمقراطية. والإسلام شرع طريقة لتنفيذ أحكامه مثلما شرع هذه الأحكام.

ويضيف مطمئناً وعاملاً على إزالة المخاوف: “وما تخوفه البعض هنا من أن الديمقراطية تجعل الشعب مصدراً للسلطات حتى التشريعية منها، مع أن التشريع لله وحده لا ينبغي أن يخاف هنا لأن المفترض أننا نتحدث عن شعب مسلم في أغلبيته، فقد رضي بالله رباً وبالإسـلام دينـاً وبمحمد نبياً ورسـولاً، فلا يتصور منه أن يصدر تشريعاً يخالف قطعيات الإسلام وأصوله المحكمات”.

لماذا التهويل: (ما تخوفه البعض). إن المسألة ليست تخوفاً، إنها موقف شرعي، وموقف عقائدي. هذا الذي يسمّيه (ما) هو كل الديمقراطية وأساسها وغايتها. وهو النقيض المقابل لكلمة: (لا إله إلا الله محمد رسول الله). وهؤلاء الذين يسميهم: (البعض) هم الأمة الإسلامية قاطبة إلا من ضُرِب على عقله و في دينه. فلماذا هذا التهوين والاستهتار بأصل الدين؟

يحاول تبرير الدعوة إلى الكفر، بقوله “لأن المفترض أننا نتحدث عن شعب مسلم في أغلبيته…”، وهل إذا كان الشعب في أغلبيته أو كله مسلماً نجعله مصدراً للتشريع بدل تشريع الله؟!

وما قيمة أن يكون الشعب مسلماً إذا كان العلماء يحرفون الدين ويعلِّمون الشعب أن يستسيغ الكفر، ويحرمون الحلال ويحلون الحرام؟ ها هي فئة من علماء الشعب تفصِّل الفتاوى للسلطان حسب الطلب، وتقول بجواز القيام بالعمل وإن كان فيه إثم، وها هي مجموعة من العلماء تفتي بجواز استعانة السعودية بأميركا في مواجهة العراق، وتلك مجموعة أخرى تفتي بحرمة ذلك. فماذا سيفعل الشعب المسلم؟ وماذا يفعل الشعب المسلم بشأن التشريعات في العلاقات التجارية والسياسية والاقتصادية الدولية. ها هم العلماء المبرِّزون الملَمَّعون يفتون الشعب بإباحة الربا، والقمار (اليانصيب)، والارتداد عن الإسلام، وممارسة الحريات حسب الحضارة الغربية، وتمزيق وحدة المسلمين إلى دويلات، وإنكار الخلافة، وتعطيل الحدود، والقبول بدولة إسرائيل…الخ.

ماذا سيكون موقف الشعب المسلم إذا كان سيركن إلى الديمقراطية، وإلى علماء يقولون له: هذا كان حراماً ولكن الأحكام تتغير بتغير الزمان والمكان. وهذا كان حراماً ولكن الشريعة مرنة وتتطور. وهذا حرام ولكن المصلحة تقتضي تحليله، وهذا واجب ولكن المصلحة تقتضي إهماله. وهذا حرام ولكن الموازنات تقتضي تحليله. وها أنت يا صاحب الفضيلة تقول بأن النصوص الشرعية إذا لم تكن قطعية الثبوت قطعية الدلالة فمعانيها تتغير وتتطور بحسب العصر والمصلحة. ماذا نفعل مثلاً بنص: «من بدل دينه فاقتلوه» إنه ليس قطعي الثبوت. هل نغير معناه ليتوافق مع عصر يرى أن قتل المرتد اعتداء على حرية العقيدة؟

وكان الدكتور صرح في لقاء مع جريدة الشرق الأوسط في 5،6،7 و9 شباط 1990 بقوله: “إن الديمقراطية هي التعبير العصري عما نسميه بلغة الفقه والثقافة الإسلامية بالشورى…” وقوله: “إن من قال: الديمقراطية كفر لم يفهم الإسلام ولم يفهم الديمقراطية” حسناً، ألم تصرح أنت في كتابك أنها تعني إعطاء الشعب حق التشريع. فكيف يكون الذي قال إنها كفر لم يفهم؟

نسأل الله أن يهدينا لأرشد أمرنا، وأن يجعل صدورنا دائماً منشرحة للإسلام، وأن يثبتنا على المحجّة البيضاء. وأن يكرمنا ويكرم أمتنا الإسلامية بنصره العزيز، ويوفقنا للحكم بشريعة الإسلام وإقامة الدين، كي تزول الغشاوات عن العيون، ويزول اليأس من النفوس.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *