العدد 132 -

السنة الثانية عشرة – محرم 1418هـ – أيار 1998م

الشورى والديمقراطية

الشورى والديمقراطية

بقلم: محمود عبد الكريم حسن

يقول الشيخ راشد الغنوشي: “إن الديمقراطية، وهي بضاعتنا الشورية التي زهدنا فيها كما زهدنا في كثير من خيراتنا التي استعارها الغرب ونقلها من موعظة إلى آلة للحكم كما فعل مع كثير من مبادئنا ومخترعاتنا فاستوحشناها،… لن تستقيم إلا في نظام اجتماعي مستقر…”. ويقول الدكتور يوسف القرضاوي:  “إن الديمقراطية هي التعبير العصري عما نسميه بلغة الفقه والثقافة الإسلامية بالشورى، والحكمة ضالة المؤمن إن وجدها فهو أحق بها…”.

القولان أعلاه للشيخ والدكتور يدلاّن على تجاهل حقائق الأشياء والتلبيس على الناس من أجل الترويج للديمقراطية. إن واقع الديمقراطية هو أنها إعطاء حق التشريع للشعب وحصره فيه، والديمقراطية تتناقض تناقضاً قطعياً مع كون حق التشريع لله سبحانه وتعالى. لذلك كانت العلمنة وفصل الدين عن الحياة من مدلولات الديمقراطية.

أما الشورى فهي تعني أخذ الرأي. والتشاور هو أخذ الرأي وإعطاؤه. وهو يكون للوصول إلى الرأي الأصوب، أو لمعرفة رأي الناس أو الجماعة، أو مختلف الآراء فيهم أو رأي الأكثرية. والشورى لا تكون للتحليل أو التحريم. والحلال والحرام لا يعرض للاستفتاء ولا يستشار فيه أحد، لأن الذي يحلل ويحرم هو الله وحده. وحكم الله يؤخذ من مصادره في القرآن والسنة وإجماع الصحابة والقياس  الشرعي. وإذا كان للتشاور ههنا مكان فإنه يكون لمعرفة الأصوب والأدق في فهم نص أو تأويله، أو في ثبوت  حديث، أو في التحقق من واقع معيّن، أو فعل معيّن،  لمعرفة الحكم أو النص الذي يتعلق به . فالتشاور يمكن أن يكون في عملية الاستنباط أو التفريع، ولا يكون في تقرير الإذن أو المنع.

وعلى ذلك فالنظام الذي يجعل، مثلاً، حكم البغاء وبيوت الدعارة خاضعاً للاستفتاء أو للشورى هو نظام كفر، وإن وجدت فيه أحكام إسلامية. والنظام الذي يُخضِع حكم قتل المرتد أو تقرير حرية الردة للاستفتاء أو للتشاور  هو نظام كفر.

والنظام الذي يسـتفتي الناس في حكم الزنا أو الخمر  أو الربا لأخذ الحكم من هذا الاستفتاء هو نظام كفر.

والنظام الذي يمنع المحرمات بناءً على اختيار أكثرية الشعب أو أهل الحل والعقد هو نظام كفر. لأن الحكم الشرعي يؤخذ حصراً من الوحي، وليس من الشعب. ولا بد عند أخذه أو سنه من إدراك الصلة بالله. أي من وجود غلبة الظن بأن هذا هو حكم الله المأخوذ من وحيه.

ولكن أصحاب المصلحة في الباطل يتجاهلون الحقائق ويزيّفونها. يقول الشيخ الغنوشي في كتابه الحريات العامة في الدولة الإسلامية: “إن الشورى هي الأصل الثاني للنظام الإسلامي بعد النص…”. ويقول: “إن الشورى في الإسلام ليست حكماً فرعياً من أحكام الدين يستدل عليه بآية أو بآيتين أو بعض الأحاديث والوقائع، وإنما هي  أصل من أصول الدين ومقتضى من مقتضيات الاستخلاف أي أيلولة السلطة الربانية إلى العباد الذين أعطوا الميثاق   إلى الله أن يعبدوه”.

وهكذا يُحرَّف معنى الشورى لتصبح مصدراً من مصادر التشريع، بل هي من العقيدة حيث قال “وإنما هي أصل  من أصول الدين” ولم يبين لنا هذا الشيخ كيف توصل إلى هذه المعاني للشورى، ولم يستند على دليل يؤيد قوله، ولا حتى على رأي لأحد سبقه من علماء الأمة عبر العصور. ولا نعلم أحداً من العلماء الذين بحثوا في أصول الدين أو أصول الفقه ذكر الشورى في بحث العقائد، أو عدها بين مصادر التشريع. فلماذا يُلقى الكلامُ في الأمور الهامة على عواهنه؟!

ويتوسل الشيخ راشد بالإجماع، عسى أن يكون الإجماع كأصل من أصول التشريع هو الشورى. ولكن الشورى غير الإجماع. من حيث واقع كل منهما، ومن حيث أدلة كل منهما، ومن حيث غاية كل منهما. ولكن هذا كله يُتجاهل، ليصبح معنى الإجماع عند داعية الديمقراطية والعلمانية دعوةً إلى الاعتراف بالرأي العام، وليصبح هذا الاعتراف هو الشورى، أو إشراك الشعب في التشريع، وليصبح المضمون التفصيلي لكل هذا عنده هو المضمون التفصيلي للديمقراطية الغربية بحذافيرها. يقول: “إن الإجماع الذي عُدَّ في شريعة الإسلام مصدراً من مصادر الشريعة إلى الكتاب والسنة، هذا الإجماع هو دعوة صريحة إلى الاعتراف بالرأي العام على اختلاف اتجاهاته وميوله الأصلية الثابتة ورعايته عند التشريع”. ويتجاهل مختلف الآراء الأصولية في الإجماع المعتبر، كإجماع الصحابة أو الأمة أو المجتهدين أو غير ذلك. وإنما يهمه أن يكون الإجماع دليلاً على أن الرأي العام مصدر للتشريع. ويتجاهل أيضاً أن الإجماع مهما كان هو إجماع وليس أكثرية. ويتجاهل أيضاً أن الإجماع إن كان المقصود به إجماع الأمة فهذا لا يقع، وهو عند القائلين به  لا يكون إجماع الممثلين للأمة أو النائبين عنها، وإنما هو إجماع المجتهدين أو العلماء وهو لا ينقض أو يعارض نصاً   ولا حتى إجماعاً في عصر سابق، إلى ما هنالك من تفصيلات.

إن محاولة الربط المستحيل بين الإجماع والشورى تدل على افتقاد الشيخ لأي حجة لجعل الشورى مصدراً للتشريع، وإنما هو هوىً.

ويمضي داعية الديمقراطية والعلمنة للبناء والربط والاستنتاج بشكل يفتقر إلى البناء العقلي أو الترابط الفكري. يصل إلى الخلاصة بشأن الشورى فيقول: “الخلاصة: إن الوظيفة التشريعية التكميلية أو الاستنباطية في الدولة الإسلامية إنما هي للشعب أو للأمة تنهض بها في صورة من الصور الثلاث الآتية:

أ- بشكل مباشر: عن طريق الاستفتاء أو الانتخاب العام، وذلك في المسائل الحيوية ذات الخطورة المصيرية…

ب- عن طريق الإنابة – إنابة أهل الحل والعقد…

ج-  وظيفة الهيئة التشريعية لا تحتمل إلا وجود هيئة من كبار علماء الشريعة والقانون قد عُرفوا بالرسوخ في العلم والتقوى والجهاد ليتولوا مهمة الرقابة… هيئة مستقلة عن الدولة على غرار المحكمة العليا في أميركا أو مجلس الدولة في فرنسا أو مجلس حراسة الدستور في إيران…”.

كل هذا استنتجه من الشورى والإجماع ومن الربط بينـهما. وما هذه الصور الثلاث التي أوردها إلا تطبيق حرفي للديمقراطية الغربية التي تجعل التشريع للشعب بشكل مباشر (ديمقراطية مباشرة) أو لمجلس ينوب عن الشعب (ديمقراطية غير مباشرة).

وكذلك يتغير معنى الديمقراطية لتصبح فقط أسلوباً لتطبيق النظام، أو لتطبيق الإسلام الذي هو الأحكام والقوانين التي يقررها الناس عبر الشورى، فهي مجرد أسلوب لضمان عدم الجور وعدم الاستبداد. يقول: “ما الذي يضمن ألاّ تتحول الدولة الإسلامية هي نفسها إلى جهاز للقمع والتدمير… ويزداد الأمر سوءاً إذا ادعت أنها تفعل ذلك باسم الله أو رسالة الإسلام؟ ألا نكون معرضين لدكتاتورية دينية هي شر ما ابتليت وتبتلى به البشرية؟”.

ونقول له: إن تطبيق الإسلام نفسه هو الضمانة، فهل ترى أن الإسلام ناقص حتى نستعير له الديمقراطية لتكمّله؟ إن الحاكم والمحكوم مقيدان بالإسلام، ولا طاعة لمخلوق في معصية الخالق، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب على الحاكم والمحكوم. وفي الأمة، في النظام الإسلامي، علماء ودعاة ومجتهدون ومحاسبة وأحزاب سياسية إسلامية وجهاز قضائي ومحكمة مظالم ومجلس شورى. والحاكم يُعزَل بإظهاره الكفر الصريح، ويعزل إذا جعل نفسه      أو غيره فوق الشريعة، أو إذا جعل الشعب مصدراً للتشريع. ونذكّر أصحاب الأسئلة التضليلية بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «تركت فيكم أمرين لن تَضِلّوا ما مَسَكْتُمْ بهما: كتابَ الله وسنة نبيّه» [رواه مالك في الموطأ]. وقوله: «تركتكم على المَحَجَّة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك».

يقول دعاة الديمقراطية إنهم يستعيرون من الغرب الوسائل والأساليب، كاستعمال عمر بن الخطاب رضي الله عنه للدواوين مثلاً، أو كاستعمال الوسائل الحديثة في الاتصالات، واستطلاع الآراء، أو في استعمال وسائل الإعلام. ونقول لهم: هذا من المباحات في الإسلام، وليس خاصاً بالديمقراطية. وهذا ينم عن جهل عندهم بالإسلام أو عن خبث وتضليل مقصود. وهذه يتعلل بها مروجو الديمقراطية عندما يواجَهون بكفرها الصريح ويُسْقَطُ بأيديهم، فيخادعون الناس – وما يخدعون إلا أنفسهم – بأنهم لا يقصدون جعل الحاكمية للناس وإنما يريدون اقتباس وسائل وأساليب  فقط، وهذه يسمونها آلية ضمان التطبيق وعدم الجور.

وقد تذرع بمثل ذريعة الشيخ الغنوشي الدكتور القرضاوي فقال: “ولكن الأدوات والضمانات التي وصلت إليها الديمقراطية هي أقرب ما تكون إلى تحقيق المبادئ والأصول السياسية التي جاء بها الإسلام…”.

وهذا التذرع والتبرير عادة ثابتة عند من يريد التلبيس وصفة ملازمة للذين لا يظهرون كل ما يبطنون. ويؤكد هذا الخلاصةُ التي خرج بها الغنوشي في نهاية كتابه حيث قال: “إن حوالي ثلث المسلمين في العالم هم أقليات… إن أمثل خيار أمام هؤلاء هو التحالف مع الجماعات الديمقراطية العلمانية لإقامة حكم علماني ديمقراطي تُحترَم فيه حقوق الإنسان”. وقال: “الجماعات الإسلامية في  البلاد الإسلامية التي غالبيّتها مسلمة ولكنها محكومة بأنظمة دكتاتورية متأسلمة أو دكتاتورية معادية للإسلام، ويتعذر فيها على الجماعة الإسلامية أن تنتصر بمفردها على ذلك النظام، فهل تَمنع الشريعة الجماعةَ الإسلامية من الدخول في تحالف مع الأحزاب العلمانية للإطاحة بتلك الدكتاتورية من أجل إقامة حكـم ديمقراطي علماني يحترم الحريات العامة؟ كلا لا مانع شرعاً”.

هذه هي إذن غاية كل اللف والدوران، وهي الوصول إلى نتيجة مفادها أن المسلمين عليهم أن يقوموا بالعمل  لإقامة أنظمة ديمقراطية، ويجب أن تكون لادينية، فهو قد قيَّدها بقوله: (ديمقراطية علمانية). والأمر البدهي عند المسلمين هو أنهم إذا كانوا مظلومين ومحكومين بالكفر، وغير قادرين على إزالة الظلم والكفر فوراً، أن يُعٍدّوا العدة ويزيدوا قدرتهم ويكتّلوا أنفسهم لإزالة الكفر والظلم والظالمين، لتحقيق سلطان الإسلام وسيادته، إذ فيه الرحمة والعدل والخير، وليس أن يُعمَل لإحلال كفر محل كفر. وإنّ أفضل حالات تحسين الظن بالشيخ صاحب هذه الدعوة أن القضية عنده قضية ديمقراطية ودكتاتورية، وهي الديمقراطية بمعنى إقصاء حاكمية الله وسيادة  الإسلام. ولذلك فهو يلعب لعبة كلها مكر، لعله يقنع بعض المسلمين، في عصر لم يعد المسلمون يستجيبون فيه لشيء سوى الإسلام، لعله يقنعهم بالدعوة إلى العلمانية الديمقراطية. وهذا عمل لا يخرج عن رعاية الأجهزة الغربية: (يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ)

في الخلاصة فإن الشورى غير الديمقراطية. الشورى حكم شرعي من أحكام الإسلام. أما الديمقراطية فإنها  إعطاء حق التشريع والتحليل والتحريم للشعب، عن طريق الأكثرية. وهذا كفر صريح .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *