العدد 132 -

السنة الثانية عشرة – محرم 1418هـ – أيار 1998م

كلمة الوعي: عملية السلام (الاستسلام) في الشرق الأوسط

منذ فترة طرحت أميركا مبادرة لتحريك المفاوضات على المسار الإسرائيلي – الفلسطيني. وأعلنت نقطة من نقاط هذه المبادرة، وهي أن تنسحب إسرائيل من 13.1 بالمائة من مساحة الضفة الغربية. عرفات أعلن موافقته، بينما أعلن نتنياهو رفضه لهذا الرقم ووافق على 9بالمائة فقط. ومنذئذٍ ترسل أميركا المبعوثين وتستقبل المفاوضين، وتهدد بالإعلان عن الطرف المعرقل لعملية السلام. ولكن حكومة نتنياهو تقف بعناد حتى الآن.

وهنا نضع بعض التساؤلات:

هل لُبُّ المشكلة حقاً يكمن في الاختلاف على 9 بالمائة أو 13.1 بالمائة، أو أن هذا تغطية وذرٌّ للرماد في العيون؟ وهل أميركا هي مجرد وسيط وراعٍ للعملية، أو هي طامعة في المنطقة وساعية لصياغتها صياغة تجعلها تحت هيمنتها، ولكنها تجد في إسرائيل عائقاً أمام ذلك؟ وما هي الأسباب الحقيقية والهواجس التي تجعل إسرائيل تماطل بعناد في تحقيق الصلح المطروح عليها؟

وللإجابة فإننا نؤكد أن المشكلة ليست في الفرق بين 9 بالمائة أو 13.1 بالمائة. لب المشكلة هو التنافس على النفوذ في المنطقة بين أميركا من جهة وبين الإنجليز وأداتهم حكومة إسرائيل وبقية عملاء الإنجليز في المنطقة، من جهة أخرى.

ولا يَفْهَمَنَّ أحدٌ من كلامنا أن هناك اختلافاً بين أميركا وإسرائيل، كلا، فالاختلاف هو بين حكومة إسرائيل برئاسة نتنياهو، والتيار الأقوى في الإدارة الأميركية. وسبق أن حصلت اختلافات بين حكومات إسرائيلية قبل هذه وحكومات أميركية. أما إسرائيل كدولة فإنها تجد كل الدعم من جميع الإدارات الأميركية.

أميركا تريد الجولان لنفسها، لأن الجولان موقع استراتيجي، فإذا سيطرت على الجولان فإنها تسيطر منه مباشرة على سوريا وفلسطين والأردن ولبنان، وتسيطر منه أيضاً على مناطق أبعد. إسرائيل تتشبث بالجولان، وتزيد الاستيطان فيها. وأميركا تشدد على سوريا كي لا تتنازل عن أي شبر من الجولان. وقد استطاعت أميركا بضغوطها على رابين أن تأخذ منه كلاماً شفوياً أنه سيعمل جهده للانسحاب من الجولان إلى حدود 4 حزيران 67، وقال بأنه سيعمل استفتاءً شعبياً. والمؤشرات تدل على أنه لم يكن صادقاً، لأنه لو عمل استفتاءً فالأكثرية عنده سترفض، ولو لجأ إلى الكنيست فإن أكثرية النواب سترفض، وهو كان يعرف ذلك، ولكنه أعطى كلاماً ليوجد لنفسه مخرجاً من الضغط الأميركي. فغالبية حزب العمل مثل غالبية تكتل الليكود ومثل المتدينين اليهود كلهم ضد الانسحاب من الجولان. والفرق بين نتنياهو ورابين هو أن نتنياهو يتكلم بصراحة بأنه يرفض الانسحاب من الجولان، ورابين حاول المراوغة فقتلوه.

أميركا هي التي تعرقل الآن المسار الفلسطيني – الإسرائيلي كما تعرقل المسار اللبناني – الإسرائيلي، وذلك من أجل أن ترغم إسرائيل على المسار السوري – الإسرائيلي من النقطة التي توقفت المفاوضات عندها، أي من وعد رابين بالانسحاب من الجولان إلى حدود 4 حزيران 67. إسرائيل ترفض ذلك، وأميركا تأمر لبنان أن يبقى متضامناً مع سوريا. وقد حاولت إسرائيل ما سمته (لبنان أولاً) و»(جزين أولاً) ثم حاولت مؤخراً أن تنفذ القرار (425) من طرف واحد. كل ذلك كي تَفْصِل المسار اللبناني عن المسار السوري، ولكن عبثاً تحاول لأن أوامر أميركا للبنان مشددة.

وأما على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي فإن أميركا ما كانت لتسمح أصلاً بحصول اتفاق أوسلو لو كانت تعلم به. ولكنه حصل من وراء ظهرها. فتظاهرت بالموافقة عليه من أجل احتوائه وعرقلة تنفيذه. الأسلوب الذي اتبعته أميركا في عرقلة تنفيذ اتفاق أوسلو اعتمد على إغراءات وارن كريستوفر وزير الخارجية الذي قال، قُبَيْلَ تسليم المركز لخلفه، بأن تقدير وقت الانسحاب الإسرائيلي وحجمه يعود لإسرائيل لأنه يتعلق بأمنها، وعلى إغراءات دنيس روس، وعلى إغراءات أعضاء الكونغرس وعلى رأسهم غينغريتش الذي أيد نتنياهو بحزم في وجه الإدارة الأميركية متهماً وزيرة الخارجية أنها عميلة للفلسطينيين. فقد نشرت وكالة أسوشييتد برس في 16/3/98 تصريحاً لحسن عصفور، أحد المفاوضين الفلسطينيين قال فيه: “الفريق الأميركي يحاول نسف اتفاقات أوسلو من أجل وضع اتفاقية سلام جديدة”. وقال بأن الفريق الأميركي “يتبنى المواقف الإسرائيلية بشكل كامل”. واتهم المبعوثَ الأميركي دنيس روس باتخاذ “موقف عدائي شخصي” ضد اتفاقات أوسلو.

وفي 21/4/98 نشرت صحيفة (هآرتس) قولاً ليوئيل ماركوس جاء فيه “من المحبط مراقبة ممثل القوة العظمى الأولى وهو منشغل بالتوافه طوال السنتين الأخيرتين. منذ تسع سنوات ودنيس روس يركض من دون أن يتحرك، لأن جريه يتم فوق جهاز ركض منـزلي. ومن المؤسف أن جميع المبادرات المهمة بدءاً بأوسلو وانتهاءً بمعاهدة السلام مع الأردن تحققت خارج نشاط الإدارة الأميركية، وكل ما فعله البيت الأبيض هو أنه وفر الساحة للاحتفالات من دون أن يكون له دور مؤثر أو محرك”.

وفي 27/5/98 نقلت جريدة (الشرق الأوسط) عن ريتشارد ميرفي مساعد وزير الخارجية الأميركي الأسبق قوله: “إن الإدارة الأميركية لم تكن على علم بتفاصيل ما كان يدور في أوسلو الأمر الذي خلق لها صدمة قوية عندما تمّ الإعلان عن تحقيق نتائج إيجابية هناك، وأكد أن نجاح مفاوضات أوسلو إنما جاء بفعل انعدام التدخل الخارجي”.

فالإدارة الأميركية سمحت لكريستوفر وأوعزت لدنيس روس وعدد من أعضاء الكونغرس لإغراء نتنياهو وحكومته بأكثر مما حصل عليه حزب العمل في اتفاق أوسلو. ولذلك أخذ في الخليل أكثر مما أعطاه اتفاق أوسلو، ومرت المواعيد ولم يلتزم بها، وها هو يصادر الأرض والبيوت ويبني المستوطنات ضارباً عُرض الحائط بأوسلو. فالإدارة الأميركية تتصرف علناً بلسان، وتوعز إلى من يغري نتنياهو بلسان آخر.

أميركا لا تعرقل اتفاق أوسلو من أجل الجولان فقط، بل لأن صيغة اتفاق أوسلو وما تبعه من اتفاق وادي عربة بين الأردن وإسرائيل لا توافق الصياغة التي تسعى إليها أميركا من أجل المنطقة. أميركا تعمل لإبقاء إسرائيل أداة في يدها، بينما اتفاق أوسلو واتفاق وادي عربة زادا من قوة إسرائيل فأفلت أمر تحجيمها من يد أميركا.

وما زاد التحسب الأميركي من إسرائيل هو السياسة التي تنتهجها حكومة إسرائيل الحالية تجاه سوريا. فقد رتبت إسرائيل لضربة ضد سوريا في خريف 96، وبررت ذلك بأن أحد عملائها ضللها، ولكن أميركا استطاعت ردعها حينئذٍ. ثم رتبت لضربة ضد سوريا بالتفاهم مع تركيا في صيف 97. ومرة أخرى استطاعت أميركا ردعها. وفي كل مرّة فإن إسرائيل تؤجل ضربتها حتى تتاح لها الظروف المناسبة. وضرب سوريا خطة إنجليزية وليست إسرائيلية فقط. ويوجد تفاهم على هذه الخطة بين إسرائيل والأردن والعراق وتركيا والإنجليز. إذ أن هذه الدول لا تسير مع أميركا.   وفي مسألة ضرب سوريا يتفقون كلهم مع بريطانيا. ولو أتيح لهم ضرب سوريا وإسقاط النظام السوري، فإن أميركا ستطرد من سوريا ولبنان، وستمرغ هيبتها بالتراب. وتطمع إسرائيل عندئذٍ بالبقاء في الجولان وبالعودة للهيمنة على لبنان.

ولذلك فإن أميركا لن يقر لها قرار ما دامت إسرائيل خارجة عن قبضتها، وتعمل ضمن خطط إنجليزية.

أميركا تعلن أن لديها مبادرة لإنقاذ العملية السلمية على جميع المسارات. وتقول بأنها بدأت بالمسار الفلسطيني، وتقول بأن الطرف الفلسطيني موافق، ولكن الطرف الإسرائيلي ما زال متردداً، وأن الوقت كاد ينفد. ويبدو أن أميركا ترتب أعمالاً معينة للضغط على نتنياهو. من هذه الأعمال المؤتمر الدولي لإنقاذ عملية السلام الذي دعا إليه كل من حسني مبارك وشيراك. ومنها مؤتمر القمة العربي الذي سعى ولي العهد السعودي للتوفيق من أجله بين سوريا والأردن. الأردن عارض عقد المؤتمر قبل إزالة العقبات من وجهه، لأنه يعرف أن المؤتمر سيطالبه بوقف التطبيع مع إسرائيل. سوريا عارضت في عقده، مذكّرةً بأن بعض العرب (تقصد الملك حسين وعرفات وغيرهما) لم ينفذوا حتى الآن قرارات القمة السابقة (تموز 96 في القاهرة). أميركا تريد من هذه المؤتمرات اتخاذ قرارات تمنع هرولة حكام العرب وحكام المسلمين إلى تطبيع العلاقات مع إسرائيل. بل وتطلب ممن طبعوا علاقاتهم معها أن يوقفوا هذا التطبيع. وقد استبق الملك حسين الأمر وصرّح في 7/6/98 بأن العلاقات مع إسرائيل ستستمر. وقد نقلت جريدة (القدس) عن مصدر دبلوماسي غربي مطلع: “أن إدارة الرئيس الأميركي كلينتون في (حاجة تكتيكية) إلى هذه القمة العربية لاعتبارين مهمين: دعم المساعي والجهود المبذولة لصياغة مبادرة سلام جديدة على قاعدتي المبادرة الأميركية و(نداء السلام) المصري – الفرنسي، ولتعزيز موقف الإدارة في المواجهة مع القوى المؤيدة لحكومة نتنياهو داخل الكونغرس الأميركي، فمن مصلحة إدارة كلينتون أن تثبت للكونغرس ولا سيما مجلس الشيوخ أن ميله المتزايد في دعم سياسة نتنياهو سيعود بالضرر على المصالح الأمريكية في الدول العربية”.

ومن الأعمال التي ترتبها أميركا للضغط على نتنياهو وحكومته الأعمال العسكرية في داخل إسرائيل وربما ضد مصالحها في العالم، فقد ألقى شيخ الأزهر سيد طنطاوي كلمة في 26/5/98 في الملتقى الذي نظمته الجامعة العربية في القاهرة بمناسبة مرور خمسين عاماً على تشريد الشعب الفلسطيني أفتى فيها بشرعية عمليات التفجير في الأراضي المحتلة واستخدام القوة ضد إسرائيل واستخدام القتل، وقال: “من حق كل مسلم وفلسطيني وعربي أن يفجر نفسه في قلب إسرائيل” ولفت إلى أن جميع الشرائع طالبت باستخدام القوة ضد العدو ومحاربة من يقف بجوار إسرائيل. وأضاف: “نحن لا نخاف من إسرائيل ولا بد من القتال والجهاد والدفاع ومن يتراجع عن ذلك لا يكون مؤمناً”.

هذا الكلام من شيخ الأزهر لا يمكن أن يقوله من تلقاء نفسه، وهو بالتأكيد مكلَّف بقوله من الرئيس مبارك، الذي هو مكلَّف به من أميركا.

الشيخ أحمد ياسين (مؤسس حماس) قام بجولة واسعة على حكام المسلمين، ونُقِل بأنهم تبرعوا له بالمال وشجعوه على متابعة القتال ضد إسرائيل بعدما نقضت اتفاقات أوسلو.

وفي لبنان فقد بدأت بعض التنظيمات الفلسطينية، التي كانت توقفت من زمن بعيد،بدأت تنفض الغبار عنها وتعيد تنظيم مسلحيها. ومن المتوقع أن تعود الأحزاب في لبنان إلى الأعمال المسلحة ضد إسرائيل (في حال بقيت إسرائيل على عنادها) على غرار أعمال حزب الله.

إذا رضخت حكومة نتنياهو لمطالب أميركا، وعلى رأسها الانسحاب من الجولان وعادت عن عنادها، فإن أميركا ستوقف عمليات الضغط ضد إسرائيل، وفوق ذلك فإنها ستكافئها بمبلغ لا يقل عن بليون دولار لعمليات الانتشار.   وإلا فإن الضغوط ستتوالى.

ولكن يَرِد السؤال التالي: هل من المعقول أن يركب نتنياهو رأسه ويتحدّى أميركا، وهو يرى ما تخبّئه له على المستوى الدولي والإقليمي، وعلى مستوى العمليات العسكرية؟

والجواب: إن هذا معقول في إحدى حالتين: الأولى أنه لا يصدّق أن حكومة أميركا تعمل هذا أو تسمح بحصوله. والثانية أنّ لديه خطة كبيرة جداً، وهو ينتظر عملية عسكرية من الفلسطينيين ليتخذ منها ذريعة لتنفيذ خطته هذه.

ماذا يمكن أن تكون العملية الكبيرة التي يخطط لها نتنياهو ومن معه في الحكم من متطرفي اليهود؟ التصريحات التالية يمكن أن تكشف عن نوعية هذه العملية:

في 21/2/98 حذر الملك حسين من القيام بأي حادث ضد إسرائيل في الضفة الغربية قائلاً “… والحقيقة مخيفة لو وقع حادث غرب النهر، واندفعت البقية الباقية من أبنائنا ومن أهلنا في فلسطين في اتجاهنا… لَتَحَقَّقَ الوطن البديل وانتهى الأردن”.

في الأسبوع الثاني من شهر آذار 98 قال وزير الصحة الأردني، الذي كان عائداً إلى عمان من مؤتمر لوزراء الصحة العرب في دمشق، قال بأن عبد الحليم خدام أبلغ وزراء الصحة بوجود “خطة إسرائيلية لتهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية ومن البلدان العربية وتوطينهم في الأراضي العراقية” وأضاف أن نائب الرئيس السوري أكد أيضاً أن الخطة “تشمل احتلال الأردن… لتكون حدود إسرائيل موازية للحدود العراقية” وشدد على أنه “لن يبقى هناك أردن”.

وفي 6/6/98 كتبت جريدة (الحياة) العنوان: (نتنياهو ينتظر عملية انتحارية لتحريك الدبابات) وجاء تحت العنوان أن نتنياهو “استنفر فرقتين من الجيش لمواجهة التظاهرات المؤيدة لمشروع إنشاء دولة فلسطينية. وأطلق وزير الدفاع موردخاي على هاتين الفرقتين اسمين يوحيان بالعنف هما: (حقل الشوك) و(الفولاذ الملتهب). وتقضي الخطة الإسرائيلية بأن تطوق المدرعات والدبابات المدن الفلسطينية وتفرض الحصار عليها” وأضاف أن نتنياهو “يراهن على احتمال وقوع عملية انتحارية… ربما يستغلها… ويقارن المحللون بين وضع مناحيم بيغن عام 1982 ووضع نتنياهو حالياً. لقد أنهت عملية اغتيال السفير الإسرائيلي في لندن (1/6/82) مرحلة وقف إطلاق النار مع منظمة التحرير”.

وفي 11/6/98 نقلت الأخبار أن هناك خطة لنقل 400 ألف من سكان غزة والضفة لإسكانهم في جنوب الأردن.

فإذا أضفنا إلى هذه الأخبار الهاجس الذي يرعب إسرائيل، وهو هاجس التزايد السريع للسكان العرب في فلسطين (الضفة والقطاع والمحتلة سنة 48) فإن الاحتمال الوارد هو أن يقوم نتنياهو وحكومته بعملية كبيرة، إذا ما قام الفلسطينيون بعملية عسكرية.

وهكذا نرى أن اليهود يخططون مرة لذبح المسلمين وأخرى لتهجير مئات الألوف. ويقومون باحتلال أرض سوريا ولبنان ومصر والأردن بالإضافة إلى أرض فلسطين. ويقومون بضرب المفاعل العراقي ويهيئون لضرب المفاعل الباكستاني. ويغتالون في تونس وعمان وكل مكان…

ونرى أن حكام المسلمين صاروا مجرد أدوات أو دُمى بيد الدول الغربية، يتحركون إذا حُرِّكوا، ويبيتون على الذل والضيْم إذا طُلِب منهم ذلك .

17 من شهر صفر 1419ه

12/06/1998م

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *