العدد 136 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الأولى 1419هـ – أيلول 1998م

البراءة والموالاة

مع القرآن الكريم             (إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ)

بسم الله الرحمن الرحيم

البراءة والموالاة

قال تعالى: (لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة:22].

هذه آخر آية من سورة المجادلة، وجاء قبلها وصف حزب الشيطان وهم الخاسرون، وجاءت هذه الآية لتحدّد من هم حزب الله وهم المفلحون، ولتقرر المفاصلة التامة بين حزب الله الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر. وحزب الشيطان الذين يحادّون الله ورسوله. يوادّون: أي يحبون ويوالون. والمحادّة: المعاداة والمخالفة في الحدود. يقال: حادّ فلان فلاناً أي صار في حدٍّ غير حدّه. والمحادّة: أن تكون في حدٍّ يخالف حدَّ صاحبك. قال السُدّي: (وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ ) نزلت في عبد الله بن عبد الله بن أُبيّ بن سلول، جلس إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فشرب النبي صلى الله عليه وآله وسلم ماءً، فقال له: بالله يا رسول الله ما أبقيت من شرابك فضلة أسقيها أبي لعلّ الله يطهّر بها قلبه. فأفضل له فأتاه بها فقال له عبد الله: ما هذا؟ فقال: هي فضلة من شراب النبي صلى الله عليه وآله وسلم جئتك بها تشربها لعل الله يطهّر قلبك بها. فقال له أبوه: فهلاّ جئتني ببول أمك فإنه أطهر منها. فغضب وجاء إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم. وقال: يا رسول الله، أما أذنتَ لي في قتل أبي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «بل ترفق به وتحسن إليه». وقال ابن جريج: حُدّثت أن أبا قحافة سبّ النبي صلى الله عليه وسلم فصكَّه أبو بكر ابنه صكة فسقط منها على وجهه، ثم أتى النبيصلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له، فقال: «أو فعلته، لا تعد إليه» فقال: والذي بعثك بالحق نبياً لو كان السيف مني قريباً لقتلته. وقيل نزلت في أبي عبيدة بن الجراح قتل أباه يوم أحد وقيل: يوم بدر (ويقول الواقدي إن أباه توفي قبل الإسلام): (أَوْ أَبْنَاءَهُمْ) يعني أبا بكر دعا ابنه عبد الله إلى المبارزة يوم بدر، فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: «متّعنا بنفسك يا أبا بكر، أما تعلم أنك عندي بمنـزلة السمع والبصر»،: (أَوْ إِخْوَانَهُمْ) يعني مصعب بن عمير قتل أخاه عبيد يوم بدر: (أَوْ عَشِيرَتَهُمْ) يعني عمر بن الخطاب قتل خاله العاص بن هشام بن المغيرة يوم بدر، وعليّاً وحمزة قتلا عتبة وشيبة والوليد يوم بدر. وعن الثوري أنه قال: كانوا يرون أنها نزلت في من كان يصحب السلطان. كتب: أثبت، وقيل: جعل، كقوله تعالى: (فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ) أي فاجعلنا. وقيل: (كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمْ) أي على قلوبهم، كما في قوله تعالى: (فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) وخصّ القلوب بالذكر لأنها موضع الإيمان: (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) أي قوّاهم ونصرهم بروح منه وبنصر منه، وقيل: أيدهم بالقرآن وحججه: (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ) أي قبل أعمالهم: (وَرِضْوَانٌ مِنْ اللَّهِ أَكْبَرُ)، (وَرَضُوا عَنْهُ) فرحوا بما أعطاهم: (أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْمُفْلِحُونَ).

وقد وردت أحكام الموالاة في العديد من آيات القرآن الكريم. ففي سورة آل عمران: (لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ)، وفي سورة التوبة: (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ)، وفي سورة المائدة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)، وفي سورة الممتحنة: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ). فموالاة الكفار حرام، والموالاة لا تكون إلا للمؤمنين. أما الإحسان إلى غير المسلمين، والبر بهم فلا شيء فيه. فالله تعالى يقول: (لَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) وجاءت الآية التي بعدها تحرّم موالاة الكافرين الذين يحادّون الله ورسوله، والذين يناصبون الإسلام وأهله العداء فقال تعالى: (إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللَّهُ عَنْ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ).

وتجب البراءة من الكفر والشرك والكفار وأعمالهم. قال تعالى: (وَأَذَانٌ مِنْ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ) وكما ورد على لسان إبراهيم والذين معه: (إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ) وقال تعالى: (فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ).

فالمؤمن يبرأ من كل كفر: فكر كفر وعمل كفر، وعقيدة كفر، ومن الكافرين، ويتولى الله ورسوله والمؤمنين، ولا يتولى أعداء الله وأعداء دين الله وأعداء المسلمين. قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ) وقال تعالى: (إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ* وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ).

وقد استثنى الله تعالى من تحريم موالاة الكافرين حالة واحدة، وهي حالة وجود الخوف منهم حين يكون المسلم مغلوباً على أمره تحت سلطانهم، فإنه في هذه الحالة فقط يجوز له رخصة إظهار المحبة لهم ومصادقتهم لدفع شرهم وأذاهم. يقول تبارك وتعالى: (لَا يَتَّخِذْ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنْ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً) والتقاة والتقية: الحذر، ولا معنى شرعياً لها، فيتعين تفسيرها بالمعنى اللغوي وهو الحذر. وموضوع الآية الكريمة موالاة المؤمنين للكافرين، فقد روي أن الآية نزلت في شأن المؤمنين الذين كانت لهم صلات بالمشركين في مكة، فهي تنهاهم عن موالاة المشركين في مكة، وتنهى جميع المؤمنين عن موالاة الكافرين، وتستثني منهم المؤمنين الذين كانوا تحت سلطان المشركين في مكة، وكل مؤمن تحت سلطان الكافرين، مغلوب على أمره، يخشى أذى الكافرين وبطشهم. فهذا هو معنى التقية كما جاء في المعاجم، وكما حدّدته الآية الكريمة، وليس من التقية أن يظهر المسلم خلاف ما يبطن أمام أي إنسان يحذر منه أذى، أو يخشى منه معرفة حقيقته؛ وليس من التقية عدم تعظيم شعائر الله، أو التظاهر بعدم التقيد بالأحكام الشرعية أمام الكافر أو الحاكم الفاسق الظالم، فهذا كله لا يجوز، بل الواجب تعظيم شعائر الله، وحمل الإسلام إلى الكافرين، ومحاسبة الحكام بكل صلابة، وذلك كله من أجلِّ الأعمال، لأن فيه جعل كلمة الله هي العليا.

أما الإكراه الملجئ، فيمكن أن يكون من الكافرين ومن المسلمين، وقد رخص الله ورسوله في قول الكفر وعمل الحرام في حالة خشية الموت أو الأذى البليغ، وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر حين ذكر الرسول بسوء تحت تهديد المشركين له بالقتل: «فإن عادوا فعد» وذلك بعد أن اطمأن إلى سلامة منطقة الإيمان، دليل على الترخيص بقول الكفر وما دونه عند الإكراه الملجئ، وضابطه قوله تعالى: (مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنْ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ) .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *