العدد 137 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الآخرة 1419هـ – تشرين الأول 1998م

حامل الدعوة ليس مسؤولاً عن النتائج

حامل الدعوة ليس مسؤولاً عن النتائج

حمل الدعوة الإسلامية من عمل الأنبياء، وهو من أفضل الأعمال وأشرفها حيث قال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنْ الْمُسْلِمِينَ) وثواب ذلك من أعظم الثواب وأجزل العطاء، ومقام القائمين بهذا الشرف العظيم أعلى مقام، ونزلهم يوم القيامة عند ربهم خير منزل، إن هم أحسنوا وأصابوا وأخلصوا. وحتى يكون حامل الدعوة على بيّنة من أمره وثقة بمسيرته وحتى لا يُبتلى بالاحباط والأسى والقنوط وربما يصل به الحال إلى ترك دعوته والتخلي عن واجبه كان لا بد أن يستلهم خط سيره وطريقه من كتاب ربه وسنة نبيه حتى يكون على بصيرة من أمره كما قال تعالى: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنْ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ).

والمسألة التي تحتاج إلى بيان والوقوف فيها على الحق هي إدراك وظيفة وطبيعة حامل الدعوة، هل هي القيام بواجب التبليغ فحسب وأن الأمر ينتهي عنـد هـذا الحـد أم أن حامـل الدعـوة مسؤول عن تحقيق النتائج المرجوة من دعوته ومُحاسب على ذلك؟؟

وللإجابة على هذا السؤال، لا بد من إيضاح الأمور التالية:

1- هنالك العشرات من الآيات الكريمة التي تؤكد على الفصل التام بين واجب التبليغ وحمل الدعوة من جهة وبين تحقيق النتائج منها من جهة أخرى، وإن كان المرء يطمع في نجاح دعوته وهداية قومه، ومن هذه الآيات: (فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)، (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ)، (فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ).

كما بينت الآيات الكريمة أن أمر هدايتهم واستجابتهم متروك لله عز وجل. وليس لحامل الدعوة من الأمر شيء، ومن هذه الآيات: (لَيْسَ لَكَ مِنْ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)، (فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ*لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ).

2- إن الالتزام بالإيمان والعمل الصالح – وهو المشار إليه بقوله تعالى: (وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ) – لا يؤدي بالضرورة إلى تحقيق الاستخلاف الفوري أو النصر العاجل بمجرد التلبس بأعمال الدعوة ومباشرتها، ومن الأدلة على ذلك ما يلي:

تأخير النصر بحق الأنبياء ومنهم محمد عليه الصلاة والسلام مع التزامهم التام بالإيمان وعمل الصالحات والبعد عن الشبهات، قال تعالى: (حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا)،  (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمْ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ).

ب)  الطلب من حملة الدعوة الصبر والثبات إلى حين تحقيق وعد الله بالنصر والاستخلاف،ومن ذلك قوله تعالى: (لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنْ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ)،  (وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ).

ج) التحذير من الضجر والغضب والعجلة والأسى، وقد ورد النهي عن ذلك في كثير من الآيات والأحاديث ومنها: قوله تعالى: (فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ) والحكم هنا إمهالهم وتأخير نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم. وقوله: (وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنْ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ) وقوله: (أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ). وقوله صلى الله عليه وسلم مخاطباً خباب بن الأرت في آخر الحديث: « ولكنكم تستعجلون».

3- من الواجب على حامل الدعوة أن يدرك عبء المسؤولية ـ وهو عبء النهضة والتغيير ـ وأن يلاحظ العقبات والمعوقات والتحديات الضخمة التي تواجه حمل الدعوة. وهذا من الاستنارة اللازمة لرؤية الطريق والوعي على الحقائق الكائنة التي لا يمكن إغفالها وغض النظر عنها.

إنه مما لا ينكر أن حملة الدعوة اليوم ـ الملتزمون بالفكرة الصادقة والطريقة الواضحة ـ قد ورثوا تركة ضخمة من الغشاوات التي أصابت الفكرة الإسلامية منذ القرن الثاني الهجري وحتى اليوم، هذه الغشاوات التي أخفت صـورة الإسلام كما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم وصدق رسول الله حين قال: «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ فطوبى للغرباء»، وكذلك فإن حملة الدعوة يعانون ـ حين بدأوا القيام بمشروع النهضة والتغيير واستئناف الحياة الإسلامية ـ من مسألة طريق النهضة ومنهج التغيير في تعاملهم مع من تنكبوا عن طريقه صلى الله عليه وسلم في إقامة الدولة الإسلامية وتحقيق حكم الله في الأرض، يضاف إلى ذلك أن الموقف الدولي اليوم يختلف عنه حين أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم دولته، فقد قامت الدولة بالمدينة ولم يلتفت إليه أحد من فارس أو الروم وكانت أول مواجهة مسلحة في مؤتة في السنة الثامنة للهجرة بين الدولة الإسلامية وبين دولة الروم، أما اليوم فإن دول الكفر في العالم قد رمتنا عن قوس واحدة، وهي تعمل مباشرة وعن طريق عملائها من حكام المسلمين لمنع قيام الخلافة وتحارب الإسلام السياسي بعد أن نجحوا في هدم دولة الخلافة قبل سبعين عاماً.

أما التحديات التي تواجه المسلمين عامة وحملة الدعوة على وجه الخصوص فهي متعددة منها:

أ) تحديات مادية: وقد تمثلت في هدم الخلافة وإقامة كيان لليهود في فلسطين ومطاردة العاملين المخلصين بوسائل وحشية لم يسبق لها مثيل، والعمل على عدم حصول الأمة على القدرات القتالية المتقدمة ومنها السلاح النووي والكيماوي، ومنها إفشال محاولات الوحدة وضرب المسلمين في كل مكان.

ب) تحديات فكرية: وتتمثل في تشويه صورة الإسلام ونشر المغالطات حوله وخاصة من علماء السوء في كل مكان، وإيجاد النعرات القومية والوطنية والتركيز على فكرة الحل الوسط وتمجيد الحريات والديمقراطية، ومحاولة هدم النظام الاجتماعي في الإسلام ومحاولة إظهار أن الإسلام قاصر عن حل المشاكل العصرية وغير ذلك كثير.

إن وجود هذه العقبات والمعوقات والتحديات وهذا العبء الكبير الذي يواجه المخلصين من حملة الدعوة هو أمر طبيعي في حياة الدعوات الصادقة وبالتالي فلا يجوز لحامل الدعوة أن يستولي عليه الأسى والإحباط أو يترك الدعوة حين يلاحظ تعثر المسيرة وتأخر النصر، وعليه أن يعلم أن الجمود وتحجر المجتمع وإعراض الناس وتأخر النصر لا يعني بالضرورة التقصير في العمل أو تنكب الطريق الصحيح ولا أدل على ذلك من حال الدعوة الإسلامية في آخر العهد المكي، والعاقبة مرهونة بأمر الله عز وجل، يقول ابن هشام في سيرته “فلما أراد الله عز وجل إظهار دينه وإعزاز نبيه صلى الله عليه وسلم وإنجاز موعده له، خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموسم الذي لقيه فيه النفر من الأنصار”.

هذه النعمة من الله تعالى على نبيه بعد ان تجمد المجتمع المكي وبعد رد ثقيف الرد القبيح وعدم استجابة القبائل العربية لطلب النصرة وكان الحال على أشده على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد بلغ اليأس في نفوسهم مداه.

إنه وبعد وضوح الأمور الثلاثة السابقة يطمئن حامل الدعوة إلى أنه سائر في الدرب الصحيح مهما طال سيره وامتد زمانه مع أنه يطمع ويحسن ظنه بالله أن يكون النصر سريعاً والفرج قريباً ولكنه لا يقيم أدنى علاقة بين حمله للدعوة وبين تحقيق المرجو منها.

بقي أمر واحد يجب على حامل الدعوة أن يتحقق من وجوده على الدوام وهو أن يكون عمله صالحاً، وحتى يكون كذلك لا بد أن يكون هذا العمل صواباً خالصاً، والصواب ما كان مستنداً إلى الشرع في كل أمر لا يخرج عنه أبداً، والخالص ما كان لله تعالى لا يبتغي بدعوته عرضاً من الدنيا، ومتى كان الأمر كذلك فليطمئن حملة الدعوة إلى أن وعد الله حق ودولة الإسلام قائمة ولو بعد حين .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *