العدد 137 -

السنة الثانية عشرة – جمادى الآخرة 1419هـ – تشرين الأول 1998م

حيوية الأمّة الإسلامية

حيوية الأمّة الإسلامية

لقد اعتدنا، وخلال قراءتنا لتاريخ الأمم والشعوب والدول، أن نجد أن هناك أمماً مظلومة وأخرى ظالمة، وأمماً مغلوبة وأخرى غالبة، ثم وجدنا كذلك أن الأمم مثلها كمثل الإنسان: تمرض وتضعف ثم تموت وتطوي صفحتها الأيام.

وإن كثيراً من الأمم والشعوب تموت لأنها ترفض أن تدفع ضريبة العزة ولأنها تفر وتهرب من تكاليف الحياة العزيزة، فيدركها الموت؛ وإن كل أمة تنكص عن حمل أعباء الحياة الأبية، وتنكص عن الإقدام في ساحات التضحية، وتخشى عواقب المخاطرة والجرأة، فلا بد أن تصدر عليها محكمة التاريخ حكمها بالإعدام، وهكذا قال الله تعالى عن مثل هؤلاء: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمْ اللَّهُ مُوتُوا).

إن الملفت للانتباه أن القرآن الكريم سمى هؤلاء ظالمين مع أنهم مظلومون: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ) فكيف جازت التسمية؟ يقول فضيلة الشيخ الغزالي رحمه الله “إن الظلم نوعان: ظلم الإنسان لنفسه وظلمه لغيره، وكثيراً ما يكون النوع الأول عاملاً ممهداً لوقوع النوع الثاني، فالذي يقبل الذل والانحناء يغري الآخرين بالبغي والاعتداء، وقلما تتحرك الجيوش للهجوم إلا على أمة يرجى منها أن تسلم وتلين، ولذلك كثرت حروب الاستعمار في الشرق وحده لما ألفوا الذل وقبلوا بالهوان وبخلوا عن دفع ضريبة العزة، وصـدق القائل:

         أنصفت مظلوماً فأنصف ظالماً

                             في ذمة المظـلوم عذر الظـالمِ”

يقول الأستاذ العراقي محمد أحمد الراشد حفظه الله في كتابه صناعة الحياة “لم يكن هولاكو بطلاً في ساحة الحرب نقلته بطولته إلى التفوق، بمقدار ما كان سباقاً إلى الاستفادة من عوامل الفوضى السياسية والترديات الأخلاقية أواخر الزمن العباسي، وكذلك في الجانب المعاكس أيام فتح القسطنطينية فقد أعان الجدل البيزنطي الفارغ، وقلق البلاط الحاكم، جيوش محمد الفاتح على الاقتحام”.

ويقول الأستاذ الجزائري مالك بن نبي رحمه الله “إن قبل قصة كل استعمار هناك قصة شعب خفيف يقبل الاستخذاء” وهي التي سـماها رحمه الله تعالى قابلية الاستعمار عند الشعوب، وعليه فإن كثيراً من الأمم والشعوب ممن حكمت عليهم محكمة التاريخ بالإعدام والموت بسبب أنهم رفضوا أن يدفعوا ضريبة الكرامة والعزة مرة، يدفعونها مرات ومرات، بل وفي كل يوم.

إن أمة الإسلام واحدة من الأمم التي يجري عليها نظام وناموس الله تعالى في هذا الكون دون مجاملة، فلقد وجد هولاكو فرصتهُ السانحة خلال مرحلة التردي الأخلاقي والتحلل السياسي التي أصابت الدولة العباسية ليدخل الأرض المسلمة ويفعل في شعوبها ما قد أصبح أحاديث الكتب والتاريخ والأجيال، ومن قبله كانت الحملات الصليبية، ثم تكررت الصورة نفسها حينما وجد الإنجليز والفرنسيون وغيرهم، فرصتهم السانحة خلال مرحلة التردي والتحلل السياسي، التي أصابت الدولة العثمانية خلال المئة سنة الأخيرة من عمرها ليغزوا بلاد الإسلام، ويستعمروا شعوبها ويقهروا أهلها، ولقد كان في أوج حالة التردي هذه، انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م والذي احتفلت إسرائيل بذكراه المائة مؤخراً، والذي ناقش إقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين الإسلامية. فلولا حالة التردي والضعف والمرض والهزال التي أصابت الأمة يومها لما كان هذا القرار، ولولا الانحدار السريع نحو الأسوأ بعد سقوط الخلافة لما نفذ هذا القرار ولظل حبراً على ورق.

وعليه فإذا كانت هذه الحالة قد أصابت الأمة الإسلامية أكثر من مرة وطالت خلال الحملات الصليبية إلى ما يقرب من مئة سنة، إلا أن الأمة عادت ونفضت عنها غبار الذل، وخلعت ثياب الخوف والضعف وعادت أقوى مما كانت عليه، ثم حدث هذا خلال حملات التتار ووصولهم إلى عقر دار المسلمين، ولكن لميزاتٍ خاصة في هذه الأمة وهي أنها حاملة رسالة الإسلام وحاملة لواء التوحيد، وحاملة لواء مشعل الهداية للدنيا كلها، ولأن ملك هذه الأمة يرق ولكن لا ينقطع كما قال ذلك صفرونيوس بطريرك القدس لعمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سلمه مفاتيحـها يوم الفتح الإسـلامي لها، نعم إنها يمكن أن تمرض أو تضعف أو تترهل، ولكن أن يظن البعض بأن أمة الإسلام ستموت فإن ذلك أوهام لا تقع في الواقع. إن المئة سنة الأخيرة والتي صوبت خلالها سهام كثيرة إلى جسد الأمة الإسلامية لو أنها صوبت أو أصابت غيرها من الأمم لأصبحت أثراً بعد عين، وعليه فإذا كان البعض يظن أن مؤامراته وأحلامه يمكن أن ينفذها وأن يحققها في حالات ضعف الآخرين ومرضهم فإنّ ذلك ممكن مع غير أمة الإسلام، أما إن ظـن أن هذا ينطبق على واقع أمتنا فخاب فأله، وطاش سهمه.

إن تجارب التاريخ وأحداثه تؤكد لنا كل يوم أننا أمة لن تموت بإذن الله وأنه ليس بعيداً اليوم الذي تثبت أمتنا أنها لم ولن تموت عندما تتبوأ مركزها الذي اختاره رب العزة لها، مركز تبليغ رسالة السماء إلى جميع البشر، مركز الشهادة على الناس أجمعين، وبذلك تعود خير أمة أخرجت للناس، وعندها سيعض كثيرون أصابع الندم ويلعنون حظهم، حيث يتبين لهم حقاً وفعلاً وصدقاً مقولة ذلك الذي قال: “إن أخشى ما نخشاه هو ذلك المارد الذي نام طويلاً وبدأ يتململ”. حقاً إنه الإسلام الذي لم يعد يتململ فقط بل إنه الآن في لحظة الاندفاع والوثوب التي لن تقف أمامها أمنيات الأعداء وأحلامهم، ولا الأوضاع المصطنعة قادرة على الصمود، وصد هذه الوثبة والاندفاعة وعندها يوقن كل أولئك أننا أمة ما ماتت ولن تموت بإذن الله وعندها سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون: (وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) .

هشام إزريقات- الخليل

( الوعـي): الأمم السابقة كانت تأتيها رسلها بالمعجزات الحسية المؤقتة. فحين لم تؤمن أخذها الله أخذ عزيز مقتدر. أما أمة محمد عليه وعلى آله الصلاة والسلام، فمعجزتها باقية، وتكفل الله تعالى بحفظها، وهي القرآن الكريم، ولهذا فهي تسأل عن تقصيرها في تبليغ الرسالة أو تعطيل أحكامها يوم العرض على الله، ولا تعذّب في الحياة الدنيا. قال تعالى: (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ). فلما قبض الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، بقيت رسالته بين المسلمين وبقي المسلمون مؤمنين بدينهم ويدعون له ويستغفرون ربهم على تقصيرهم في حمل رسالة الإسلام، وفي عدم الالتزام الكامل بأحكام الإسلام.

هذه واحدة، أما الثانية فهي أن قوة العقيدة الإسلامية وحيويتها في نفوس معتقديها، تجعلهم بعيدين عن التذويب في الأمم الأخرى، أو الإلحاق بأعدائهم، وتدفعهم إلى استرجاع قوتهم، إن تقاعسوا فترة، أو غفلوا عن مكمن قوتهم، وسر حياتهم وبقائهم، فما يلبثوا أن يعودوا أقوى من ذي قبل، والتاريخ شاهد، والمستقبل بيننا وبين أعدائنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *