العدد 254 -

العدد 254- السنة الثانية والعشرون، ربيع الأول 1429هـ، الموافق آذار 2008م

طوبى للغرباء!!

طوبى للغرباء!!

 

روى الإمام مسلم في صحيحه عن سهل بن سعد الساعدي (رضي الله عنه)، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «بدأ الإسلام غريباً وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: الذين يَصْلُحون إذا فسد الناس».

لقد بدأ الإسلام غريباً بالرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) وأصحابه الذين آمنوا معه واتبعوه، فكانوا غرباء بفكرهم وتفكيرهم، وطريقة حياتهم.. غرباء في نظرة المجتمع، بتحقيره واستهزائه بهم.. غرباء بين أهلهم وذويهم وعشيرتهم.. غرباء في نظرة المجتمع ومناصرته لهم، يلاقون ما يلاقون من فنون التعذيب وألوانه، ولا يدافع عنهم أحد إلا ما ندر… يحاصرون السنوات الطوال في شعب بني طالب لا يُباعون ولا يُشترى منهم، ولا يزوجون ولا يتزوج منهم، حتى أكلوا أوراق الشجر، وما لا تطيقه النفس ولا تستسيغه!!

لقد بدأ الإسلام غريباً بهؤلاء المنارات العالية.. العالية بنفوسها وعقولها وترفعّها عما ألفه الناس من ألوان الفساد في الأرض.. بدأ الإسلام بهؤلاء السادة الذين لا يعرفون معنى العبودية إلا لربهم جلّ جلاله… بدأ بتلك الثلة المؤمنة وانتهى بنصر الله تعالى ونصرته بعد رحلةٍ شاقة تنوء بحمل تبعاتها الجبال الشمّ الراسيات… انتهى إلى شمسٍ وهّاجة ساطعة تملأ الأرض كلّها بضيائها ودفئها.. وتطمس كلّ ألوان الظلم والضلال والانحراف من عقول البشر!!

انتهى هذا الصبر إلى دولة تحكم بكتاب الله عز وجل وبسنة رسوله عليه الصلاة والسلام، تملأ الأرض عدلاً واستقامة ونوراً وهدىً بعدما ملأت جوراً واعوجاجاً وظلاماً وضلالاً!!

لقد بدأ الإسلام بهؤلاء السادة الأبرار، وها هو يعود مرة أخرى!، بدأ بصحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خير القرون حتى تقوم الساعة، وعاد اليوم بأحبائه (صلى الله عليه وآله وسلم)، الذين لا يجدون على الحق أعواناً إلا إيماناً راسخاً في قلوبهم، وقناعةً تملأُ كلّ عقولهم وتفكيرهم!!

إن من بين تلك المنارات العالية الوهّاجة منارةٌ عظيمة ترسلُ نورها في أرضٍ عزَّ فيها القاصرون، وبغى الكافرون وتجهّم فيها حملة الدعوة القريبُ والبعيد من الناس! منارةٌ عظيمة عزّ فيها النصير فلم تجد فيها للحق أعواناً ولا أنصاراً.. يرزح فيها حملة الدعوة تحت الظلم والظالمين من أتباع اليهودي الكافر (شر الناس) كريموف لعنه الله!..

فكيف استقبل هؤلاء الأبطال هذا الواقع المرير، وهذا الشرّ الكبير المستطير؟! هل لانت لهم قناة، أو تراجعوا عن فكرهم وطريقتهم في العمل؟! هل داهنوا أو نافقوا أو مالت قلوبهم للظلم والظالمين؟!

لقد استقبل هؤلاء الأبطال (الرجال الرجال!) تلك الحملة المسعورة الشريرة بنفسيات عالية تتسابق على الشهادة فيما بينها، وبأجسام صابرة على البلاء رغم شدة وقسوة العناء!!

توضؤوا بالماء البارد رغم شدة برودته في أيام الشتاء.. وصلّوا صلاة الجماعة رغم العذاب المضني لمن يفعل ذلك! وتذاكروا أمور الدعوة في زنازينهم رغم مراقبة المجرمين لهم، ورغم التهديد بالموت أو التعذيب المفضي إليه!!

رفضوا التوقيع على ورقةٍ صغيرة يكتب فيها السجين استرحاماً، أو استنكاراً، أو براءةً ثم يخرج إلى الحرية والعيش الرغيد! رفضوا ذلك مع أن معظمهم يقضون اثني عشر عاماً فما فوق من الحكم في أشد الظروف قسوةً وشدةً على وجه الأرض!!

أما عن شهدائهم الذين جاوزوا المائتين تحت التعذيب ممّن عُرفت أسماؤهم، فإن هؤلاء الشهداء لم تُقمْ لهم مراسيم دفنٍ ولا بيوتُ عزاء، ولا سارت بجنائزهم الآلاف من المشيّعين! فقد دُفن معظمهم ليلاً تحت جنح الليل في الظلام.. تماماً كما قُتلوا في الظلم وظلام الزنازين، وكما عُمّيتْ الأخبار عن طريقة قتلهم من قبل جلاوزة الظلم والظلام!! أما من حضر جنازاتهم أو دفنهم فقلّةٌ قليلة من أقرب المقرّبين دون كلام ولا كلمات!..

لقد كانوا غرباء حتى في طريقة موتهم واستشهادهم.. وفي حملهم في الجنازة، وفي إنزالهم إلى القبور، وفي العزاء بهم!..

إنهم غرباء بين البشر ولكنهم أعلامٌ ومناراتٌ عند من عرفَ إيمانهم وتضحياتهم.. عند من عرف السجن والسجّان والقهر والقيد، وشدة العذاب المفضي إلى الاستشهاد.. عند من عرف الحقّ وسار في طريقه القويم المستقيم، دون ملاينةٍ ولا مهادنةٍ ولا استرضاء!..

إنهم الأخيار الأبرار (الشهداء) عند ربهم.. عند المليك المقتدر، خالق الأرض والسماء! تشيّعهم إن شاء الله، أصفياء الملائكة من السماء إذ لم تحضر جنازتهم أصفياء الناس من البشر، وتسير معهم في موكبٍ مهيبٍ تُهلّلُ وتسبّح وترفع صوتها بالأهازيج التي لا يسمعها إلاّ ربّ السماوات والأرض!.. ثم تصطفُّ في صفوفٍ لا يقدر عليها أحد من الإنس أو الجن… تصطفّ على القبور حتى تضيق الأرض بهم… وتملأ الفضاء تحلّق بأجنحتها تحفّهم من كل جانب… وبعد الانتهاء من هذه المراسم العظيمة، تحملُ أرواحهم إلى السماء… تتلقاهم الملائكة في كلّ سماء وتسأل: من هؤلاء الطيّبون؟! ما هذه الريح الطيبة التي تملأ السماوات؟! فتجيبهم الملائكة بأن هؤلاء هم الغرباء… الغرباء في زمن فسدَ فيه الناس… الغرباء (من النـزاع من القبائل) الذين ارتفعت نفوسهم عن الضلال والاعوجاج… الغرباء الذين صَلُحوا وعملوا لإصلاح غيرهم من الناس فاغتالتهم الأيدي الآثمة ممن ألفت الظلم والظلام ومردت على الكفر والنفاق والشر!!

فيقولون بصوتٍ يملأُ الأرض والسماء طوبى… طوبى لهؤلاء… ويتنادَوْنَ ثم يجتمعون مع هذا الوفد المشرَّف، ويشيعونهم إلى السماء التي تليها… وهكذا تشيعهم وفود الملائكة من كل سماء حتى يصلوا إلى مكانٍ عظيم لا يكون لأحدٍ غيرهم في ظلّ العرش!! عندها يخاطبهم ربهم جلّ جلاله طِبتم طبتم… طوبى لكم وحسن مآب!! ويأمر ملائكة السماء أن يجعلوهم في أعلى علّيين!! مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ممن سبقوهم بإحسان!!…

أما في الأرض فإن ذكرهم لا ينقطع بعد موتهم بالخير… وتبقى دماؤهم وصورهم الطيبة دعوةً تُرسل نورها أكثر من حضورهم ووجودهم… فإنهم الطيبّونَ الطيبون.. الصادقون الأخيار الأبرار!.. عرفهم الناس بإخلاصهم وصدقهم ووفائهم واستقامتهم… ولم يعرفوهم كهؤلاء المجرمين من جلاوزة النظام!..

نعم… يبقى هؤلاء الأطهار الأبرار الأخيار دعوةً بين الناس حتى وهم بعيدون في دار غيرِ دار الدنيا!.. وتبقى دماؤهم الطاهرة صورةً متألقةً منيرةً في أذهان من بعدهم من إخوانهم ورفقائهم في داخل الأصفاد في السجن أو خارجه!..

تبقى دماؤهم شرياناً يتصل بالعروق الحيّة فيمدّها بالعزم والحزم والإرادة والتصميم، وكأن حالها ولسانها يقول: )مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا( [الأحزاب 23].

 إنكم أيها الأعلام دليلُ صدقٍ لهذه الدعوة الصادقة النقية، وإنكم شرايينُ قوةٍ واندفاعٍ تُغذّي باقي أوصال جسمها فتملأهُ عزماً وحزماً… إنكم قوةٌ وأسوةٌ حتى وأنتم في سجونكم ينظر إليكم إخوانكم نظرةَ تقديرٍ ونظرة استبشار، لأن النصر مع الصبر، وإن مع العسر يسراً.. إن مع العسر يسراً!..

وإنكم خير خلفٍ لخير سلف ممن سبقكم من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن الأبرار من حملة الدعوة وخاصّة قادتها… خيرُ خلف للشيخ التقي (النبهاني) الذي آثر الصبر ولو أدى إلى الموت تحت التعذيب على أن تصدر منه كلمةٌ واحدةٌ تؤذي الدعوة أو حملة الدعوة.. وظلّ كذلك حتى شُلّت يده من شدة العذاب ولم يزد على أن قال: “أنا شيخ كبير طبت للدواء“.. ويقصد دواء الأمة!!.

إنكم خير خلف لهذا الشيخ التقي الذي عاش غريباً.. ومات غريباً، ولم يذكره الناس حتى في موته مع أنه مجدّد هذا العصر الذي بعثه الله فيه على رأس مئة عامٍ ليجدّد لهذه الأمة دينها!..

إنكم خير خلف لخلفه وتلميذه الشيخ عبدالقديم (أبو يوسف) الذي سار على نفس الطريق، ولم تثنه السجون ولا ألوان التعذيب رغم شدتها وقسوتها وطول مدتها!.. حيث عاش غريباً كذلك ومات غريباً، ولم يعرفه حتى أنصاره وأتباعه من الناس!..

إنكم خير رفيقٍ وصاحبٍ للذي جاء من بعده وحمل اللواء قبل أن يودع صاحبه ممّن سبقه!..

  لقد عاش أبو ياسين غريباً شريداً ملاحقاً في أكثر من دولة، ومكث في سجون الظلم سنوات تلو السنوات… وفقد صاحبته وهو غائب عنها، لا يعرف إلا مكانها الذي دفنت فيه، وظل علماً رغم كل محاولات طمسه وثنيه عن طريقه من قبل جلاوزة الظلم في أكثر من دولة!..

إنكم أيها الغرباء.. يا أحفاد البخاري والترمذي والنيسابوري والسجستاني… يا منارات الهدى.. إنكم الغرباء الذين صَلحُوا أولاً، ويُصلحون بإذن الله وجه الأرض تماماً كما أصلحها سلفكم من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)!.. سيصلحون وجه الأرض مع إخوة لهم في بقاع الأرض ينتظرون فرج الله ونصره وتأييده!…

وسيأتي اليوم -بإذنه تعالى- الذي تخرجون فيه من هذه الأقبية المظلمة وأنتم منصُورون، رافعو الرأس عالياً تحت راية القرآن، في ظل دولة الإسلام التي ترفع علم (لا إله إلا الله محمد رسول الله) في كل أرجاء الأرض!..

وأخيراً أقول: أسأل الله تعالى أن يمدكم بعون من عنده وتأييد، وأن يجعل لكم مخرجاً، وأن يجعل لكم من أمركم يسراً. قال تعالى: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا) [الطلاق 4]، وقال: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا) [الطلاق2].

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

أبو المعتصم – بيت المقدس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *