العدد السادس -

السنة الأولى، العدد السادس ربيع الأول 1408هـ، الموافق تشرين ثاني 1987م

الأخبار وسنن الكون

[طرق التثبت من حصول واقعة من الوقائع تكون إما بواسطة الحس المباشر، وإما بواسطة خبر متواتر (قطعي)، أو اخبر ظني، وأقواها ما كان محسوساً. فإذا جاء خبر يتصادم مع سنن الكون المحسوسة القطعية، فكيف نقف منه؟]

إذا ورد على المرء خبران متعارضان عن مسألة واحدة فإنه لا يستطيع قبول الخبرين معاً. وفي مثل هذه الحالة يَنْظُر: فإن كان الخبران ضعيفين أهملهما، وإن كان أحدهما ضعيفاً والآخر صحيحاً فإنه يهمل الضعيف ويأخذ الصحيح. أما إن توفرت شروط الصحّة في كلٍّ من الخبرين، فإن المرء يتمهل ويحاول التوفيق بينهما (إعمال الدليلين خير من إبطال أحدهما)، فإذا لم يمكن التوفيق بينهما يلجأ إلى الترجيح، فيأخذ بالأقوى منهما.

أمور خطيرة

إذا كانت الأخبار الواردة تتحدث عن وقائع مألوفة خطيرة فإنه يكفي أن تتوفر في هذه الأخبار شوط الصحّة التي يَشترطها رواة الحديث المدقّقون مثل البخاري ومسلم، كالأحاديث التي تُروى عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه أمر بكذا ونهى عن كذا وفعل كذا وسكت عن كذا..الخ.

وإذا كانت الأخبار الواردة تتحدث عن وقائع غير مألوفة وبعيدة الحصول فإن الخبر عند ئذ يحتاج إلى توثيق أشدّ من شروط الصحة العادية. فمثلاً هناك أخبار عن رجال يختمون القرآن في ركعة واحدة من ركعات قيام الليل، أو خبر مخاطبة عمر رضي الله عنه لسارية عن بُعْدٍ: (يا ساريةُ الجبلِ)، أو الأخبار عن أن الساحر اليهودي لبيداً سَحَرَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

وأمَّا إذا كانت الأخبار تتحدث عن وقائع خارقة لسنن الكون التي قدّرها الله في المخلوقات وأودعها فيها، فإن الأمر يصبح على جانب كبير من الخطر. هذا النوع من الأخبار لا يصحّ قبوله إلا إذا كان قطعيّ الثبوت، أي أن يكون متواتراً تواتراً حقيقياً يقطع كلَّ ظنّ وكلّ احتمال، لا تواتراً كما يفهمه المتساهلون بأمر العقائد.

إنَّ معجزات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم هي من الوقائع الخارقة لسنن الكون. هذه المعجزات ثبتت في القرآن الكريم، فهي قطعيّة الثبوت ولذلك يجب أن نعتقد بها. أمَّا ما يُنسب إلى الرسل من معجزات غير متواترة فإنه يجوز تصديقها (تصديقاً غير جازم) إذا استكملت شروط الصحة، إذ أن إجراء الله للمعجزات على أيدي الأنبياء أمر مألوف.

أمور غير مألوفة

أمَّا الكرامات (وهي الوقائع الخارقة لسُنن الكون التي تحصل لبعض المؤمنين من الناس، غير الأنبياء) التي ثبتت بالتواتر، مثل نوم أهل الكهف ثلاثمائة وتسع سنين، ومثل الرزق الذي جاء لمريم عليها السلام، فإنه يجب الاعتقاد بها لأنَّها قطعيّة الثبوت. وهذه الكرامات التي ثبتت لا يجوز القياس عليها، فلا يُتّخذ نوم أهل الكهف زمناً طويلاً دليلاً على مكوث المهدي حيّاً زمناً طويلاً، ولا يًتَّخَذَ الرزق الذي جاء لمريم دليلاً لمن يزعم أنه يأتيه رزق بشكل خارق لسنّة الكون، ولا يجوز التعميم من حصول بعض الكرامات لبعض المؤمنين أن (كل معجزة لنبي تحصل مثلها كرامةٌ لولي). وخرق سنن الكون على يد غير الأنبياء ليس مألوفاً فلا تكفي للدلالة عليه الأخبار الصحيحة غير المتواترة.

انحطاط العقول

هناك حادثة مشهورة حصلت في أندونيسيا سنة 1972: امرأة اسمها (زهرا فونا) زعمت أنَّها حامل في الشهر الثامن عشر (وليس في الثامن) علماً أن النساء تلد في الشهر التاسع، وزعمت أن الجنين يتكلم في بطنها بصوت مسموع ومفهوم، ويقرأ القرآن بترتيل جميل. ولم يصدّق الناس ذلك إلا بعد أن عاينوا وسمعوا. وذاع الخبر ونقلته إذاعة أندونيسيا، وذهب وزير الإعلام بنفسه، وذهب رئيس الجمهورية بنفسه، وذهب عدد من الوزراء، وكلّ هؤلاء أعطوا تصريحات توكّد صحّة الخبر، وتناقلته وكالات الأنباء والصحف في العالم، وقالت (زهرا فونا) بأن الغلام سيولد تلك السنة في مكّة في موسم الحجّ، وأنّه هو المهدي المنتظر. وصدّق عدد كبير من المسلمين هذه الأخبار. وحين كنا نقول لهم: هذا أمر خارق لسنّة الكون فلا يجوز قبوله بهذه البساطة، كانوا يجيبون: إن الله على كل شيء قدير. وهذا يدّل على انحطاط العقول وتعطيل الفكر عند الناس. وما دام الله قد كرّم بني آدم بالعقول ليميزوا بها بين الحق والباطل وبين الصدق والتدجيل، فلا ينبغي للإنسان أن يجعل عقله عُشّاً للخرافات والأباطيل.

ونحمد الله أن الأمّة لم تَخلُ من المفكرين، إذ طلب بعضهم تشكيل لجنة طبيّة لفحص هذه المرأة الحامل. وتشكلت لجنة من ثمانية أطباء وذهبوا إليها، فقالت لهم: إن هذه الليلة هي ليلة الجمعة، والغلام يرفض الفحص ليلة الجمعة. فنزلوا عند رغبتها وطلبوا منها الموعد الذي يوافق عليه الغلام، فعينت يوم الثلاثاء الذي يليه. وجاءوا يوم الثلاثاء فلم يجدوا المرأة. وبحثت الشرطة عنها فوجدوها بعد حوالي أسبوعين وقد هربت إلى قرية في الريف. وأجروا عليها الفحص فوجدوا أنها غير حامل، وأنَّها مطلقة من ثمانية عشر شهراً وأنها كانت تلفّ بعض القماش على بطنها لتبدو وكأنها حامل، وكانت تضع آلة تسجيل على بطنها بين القماش.

بين الخرافة والواقع

من هذه الحادثة ننتقل إلى الحقيقة الفكرية التالية: إذا جاء خبر يقول بأن امرأة حامل في الشهر الثامن عشر وأن الجنين في بطنها يتكلم ويقرأ القرآن بشكل واضح، ثم جاء عدد كبير من الناس فعاينوا وسمعوا، وبين هؤلاء الناس عِليه القوم (رئيس الجمهورية ووزير الإعلام والوزراء…) فإن الخبر يصبح مُوثقاً. ولكن في المقابل هناك خبر أوثق منه يتصادم معه: أعني أن سنة الكون المحسوسة القطعية ترفض هذا الخبر وتتصادم معه. فإذا أردنا أن نقابل ونرجّح فلا شك أننا نرجّح المحسوس القطعي (أي سنّة الكون) على الخبر الظنّي مهما كان موثّقاً، ما دام لم يتواتر تواتراً حقيقياً.

وهكذا فإن كل خبر يتحدث عن واقعة خارقة لسنّة الكون لا بد أن يُتحرّى عن تواتره وقطعيته. فإن كان قطعياً أخذنا به، وإن كان غير قطعي فإنه لا يجوز الأخذ به في حال من الأحوال باستثناء الأنبياء، ومن يتساهل ويأخذ به يكون قد رجّح الظني على القطعي، ويكون قد جعل معجزات الأنبياء ومزاعم الدجالين الظنية في مرتبة واحدة، ويكون قد فقد القدرة على التمييز بين الخرافة والواقع، ويكون قد جعل من عقله عُشّاً ومرتعاً للخرافات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *